عرض لكتاب:” بورتسودان: نشوء وتطور مدينة استعمارية. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
عرض لكتاب:" بورتسودان: نشوء وتطور مدينة استعمارية"
لكينيث ج. بيركنز
عرض: هيزر شاركي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نشرت هذه القطعة في مجلة "دراسات السودان" التي تصدر في بريطانيا، في يناير عام 1994م، وهي عرض لكتاب قام بتأليفه كينيث ج. بيركنز عن نشأة وتطور مدينة بورتسودان، وصدر عام 1993م عن دار ويست فيو للنشر. عرضت الكتاب الدكتورة هيزر شاركي المتخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأدنى. للدكتورة المؤرخة شاركي عدة كتب ومقالات عن منطقة الشرق الأدنى منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري" (وقد عرضنا للكتاب في مقال نشر في "الأحداث" وبعض المواقع الإسفيرية)، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر"، و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر". وكنت قد ترجمت قبل عامين مقالا لكاتب اسمه كولن رالستون باتريسون عن "قصة إنشاء ميناء بورتسودان". والكاتب يمت بصلة قرابة للمهندس البريطاني الذي أنشأ الميناء . المترجم
--------------------
في كتابه :(بورتسودان: نشوء وتطور مدينة "استعمارية") يرصد كينيث ج. بيركنز تطور مدينة بورتسودان منذ أن أنشأها مسئولو الحكم الثنائي في عام 1904م، وإلى بدايات الخمسينات. تم إنشاء الميناء في مرسى الشيخ برغوث، والذي كان مكانا يبابا قفرا ليس فيه غير قبر الفكي (المحلي) برغوث. كان هذا يوافق ما أرادته السلطات...أن تخطط لمدينة من الصفر. لهذا كان كينيث بيركنز يعد بورتسودان مدينة ذات خصوصية لم توجد في غيرها من المدن السودانية، فهي مدينة "استعمارية"، تماما مثل مدينة "القنيطرة" التي أنشأها المستعمر الفرنسي في المغرب في عام 1913م.. ( القنيطرة ذات تاريخ مثير. فهي بحسب موسوعة ويكبيديا سادس أكبر مدينة مغربية، تطل على الساحل الأطلسي؛ وهي تقع على بعد40 كم شمال العاصمة الرباط. في مارس1912 تم توقيع اتفاقية فاس بين السلطان عبد الحفيظ والحكومة الفرنسية؛ والتي بموجبها أعطى السلطان الجيش الفرنسي كل الصلاحيات لقمع القبائل الأمازيغية المتمردة ضد طغيان الحكومة. أنشأ القائد الفرنسي ميناء القنيطرة في يناير من عام1913م؛ واستعملته سلطات الحماية لاستيراد ترسانتها العسكرية ولتصدير منتجات المغرب.المترجم). وميناء بورسعيد المصري (الذي أنشأه المستعمر البريطاني في عام 1859م، وسماه على اسم الحاكم المصري (الخديوي). المترجم).
على الرغم من أن المؤلف كان قد قسم محتويات كتابه على أساس التسلسل الزمني، إلا أنه قام بالتركيز على موضوعات بعينها أكثر من غيرها في أكثر من موضع. كانت إحدى تلك الموضوعات هي العلاقة بين بورتسودان والمدينة القديمة سواكن، ذلك الميناء العتيق الذي ظل منفذا للتجارة منذ عقود طويلة، وكيف أن إنشاء ميناء بورتسودان أطفأ توهج سواكن (والتي استولى عليها العثمانيون في القرن السادس عشر، واستأجرها محمد علي باشا في أربعينات القرن التاسع عشر، وتنازل عنها رسميا بمصر في عام 1865م). كان بالإمكان أن تظل سواكن ميناء السودان الأشهر في القرن العشرين لولا أن سلطات الحكم الثنائي اعتبرت شعبها المرجانية الممتدة إلى خارج مياهها عائقا خطيرا أمام الملاحة فيها. استغل البريطانيون هذا السبب الطبوغرافي (الطبوغرافيا هي دراسة سطح الأرض والكواكب والأقمار وأشكالها وملامحها. المترجم) لتبرير إنشاء ميناء جديد هو ميناء بورتسودان، وجعلوا من تلك المدينة نهاية خط السكة حديد الممتد بين النيل والبحر الأحمر، والناقل لصادرات وواردات السودان. وقضى كل ذلك على أي الأهمية التاريخية التي كانت لسواكن.
وبعكس البريطانيين، فقد نظر القادة المصريون تحويل الميناء من سواكن إلى بورتسودان بمنظار مختلف، كله ترقب وتشاؤم وحذر. عد بعض المصريين إنشاء الميناء الجديد وخط السكة حديد كمحاولة لسحب البساط من تحت أقدام التجارة التقليدية التي كانت تنفذ من وإلى مصر عبر النيل، بينما عدها مصريون آخرون كمحاولة بريطانية لإضعاف الوضع السياسي والاقتصادي في مصر، ولمنع صورتها وصوتها من الظهور على شاطئ البحر الأحمر، لا سيما وأن سواكن كانت مركزا ومعلما للنفوذ المصري. ومن عجب أنه برغم أن مصر كانت قد ساهمت بنصيب الأسد في عملية إنشاء وتطوير ميناء بورتسودان، إلا أن البريطانيين لم يمنحوها أي مركز أو نفوذ في تطوير المدينة. صب هذا الموقف الزيت على نار الوطنية/ القومية المصرية، وغذى الروح الوطنية المعادية للبريطانيين لسنوات عديدة قادمة.
كان أمر العمالة التي قامت ببناء الميناء والمدينة من الموضوعات الهامة التي تطرق لها الكاتب، إذ أن النقص في الأيدي العاملة كان من المشاكل السائدة في السودان قبل الحرب العالمية الثانية. اشتدت الحاجة لعمال يعملون في أحواض الميناء والسكة حديد، وفي أعمال البناء ومخازن الزيوت والفحم والأصباغ والملح، وعلى وجه العموم في كل الصناعات والأعمال التجارية. وأصاب المسئولين البريطانيين إحباط عظيم لعدم رغبة السكان المحليين من البجا للعمل باستمرار، وبأعداد كبيرة. وحتى من عمل تحت إمرتهم، عد من الكسالى الذين لا يعتمد عليهم. وإزاء ذلك الوضع أضطر المسئولون إلى استخدام عمال من مناطق أخرى من السودان، كبربر ودنقلا، وكذلك من ريف مصر وجدة (!؟المترجم) واليمن. كان تقسيم العمل يتم دوما حسب عرقيات العاملين، حيث كان اليمنيون يحظون بأعلى الأجور في أحواض الميناء، وذلك لعلو مهاراتهم العملية، بينما يعمل العمال البيجاويون في أعمال التفريغ والتحميل الأشد مشقة (كيف يوصف بالكسل من يعمل في الأعمال الأشد مشقة؟ المترجم). وقليلا قليلا بدأت أعداد هؤلاء العمال المحليين الداخلين إلى سوق العمل ببورتسودان في التزايد. بعد الحرب العالمية الثانية ضربت موجات جفاف وتصحر ومجاعات مناطق البجا، ودفع ذلك الآلاف منهم للهجرة نحو بورتسودان، مما فاقم من مشاكل ازدحام المدينة ومن الفقر والبطالة.
من موضوعات الكتاب الهامة، عدم التوزيع العادل للموارد والمرافق في المدينة، وهذا انعكاس بالطبع لعدم العدالة في توزيع الثروة والسلطة. قام المسئولون البريطانيون بتخطيط وتصميم الأعمال الهندسية بالمدينة، وطرقها ومصادر مياهها ووسائل صرفها الصحي، وكل ما يتعلق بأمورها الأخرى، مراعين في ذلك وضع ومصالح الأوروبيين بالمدينة أولا، ثم يليهم في الترتيب والأهمية، الأثرياء من السودانيين، والجاليات الأجنبية المزدهرة. لهذا السبب فشلت بورتسودان في جذب أعداد كبيرة من العمال المهرة المستقرين؛ وظل الوضع بها كذلك لسنوات طويلة. بذلت مجهودات متواضعة لبناء مساكن شعبية (زهيدة الثمن) للعمال، بيد أنها لم تسد الحاجة المطلوبة. أتى الاستقلال وبورتسودان تعاني الأمرين من مشكل المدن الكبيرة المستعصية على الحل.
يعد كتاب :" بورتسودان: نشوء وتطور مدينة استعمارية" دراسة حالة قيمة جدا في تطور المدن الاستعمارية (الكولونيالية)، ويمكن أن تندرج تحت الصورة الكبرى لعملية "التمدين" الإفريقية في العهد الاستعماري.
Colonial- era African urbanization
إن ما واجهته مدينة بورتسودان من نقص في العمالة المدربة والسكن الملائم والازدحام، يشابه ما حدث (ويحدث) في نيروبي وداكار وكثير من المدن الإفريقية التي نشأت في العهد الاستعماري. كان يمكن للمؤلف أن يقدم في كتابه مزيدا من مثل هذه المقارنات والأبعاد.
كما ذكرنا، ركز المستعمرون عند تخطيطهم للمدن الجديدة، على مصالح ورغبات الأوروبيين القاطنين في تلك المدن، والصفوة من السكان المحليين. وعلى افتراض أن العمال الذين يتم استخدامهم للعمل في المدينة لن يبقوا فيها لمدد طويلة، ولن يرتبطوا بها، فإن المستعمر قد تجاهل تماما مصالح طبقة العمال (الدنيا). لم يتوقع مخططو المدن الهجرة من الأرياف إلى المدن، والتي ولدت، عند وبعد حدوثها، ازديادا في الفقر واليأس في أطراف المدن، وفاقمت من التفاوت الطبقي القائم أصلا في توزيع الثروات.
من الظلم أيضا أن نحكم بأن من خطط لبورتسودان (وشبيهاتها من المدن الاستعمارية الجديدة) قد أخطأ وأساء فهم ما كان ينبغي عليهم عمله. من السهل جدا أن تنتقد الآن شيئا حدث في الماضي...إنها نعمة لا تتوفر إلا في حالة الإدراك اللاحق.
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]