الازمة الاصلية والاخري التابعه
د. حسن بشير
4 November, 2011
4 November, 2011
اعتراف العديد من المسئولين الحكوميين علي مختلف المستويات بان واحد من اهم اسباب الازمة الاقتصادية في السودان ناتج عن تاثير الازمة الاقتصادية التي تعاني منها الدول الراسمالية، يعني وبشكل ناصع البياض ان الاقتصاد السوداني تابع للاقتصاد الرأسمالي خاصة من ناحية تأثره بالجوانب السلبية التي يعاني منها الاخير دون ان تمتد الاثار والمعالجات الايجابية في الدول الراسمالية لتؤثر باي قدر ايجابي علي الاقتصاد السوداني. حتي غلاة المؤيدين للتوجه الرسمي السوداني والمبررين لاخطائه واخفاقاته غالبا ما يقعون في فخ التناقض مثل قولهم بانه عندما ترتفع الاسعار عالميا ترتفع في السودان وعندما تنخفض عالميا لا تنخفض في الداخل بل تستمر في الارتفاع، وكذلك الحال بالنسبة للاسعار التبادلية للجنيه مقابل النقد الاجنبي. انها اذن ازمة التبعية الاقتصادية للنظام الرأسمالي القائم علي ايدولوجية محكمة تؤسس لسيطرة راس المال وسيادته وعلو كلمته فوق القيم الاجتماعية والاخلاقية والانسانية مجتمعة، الامر الذي يولد شهوة للربح لا كابح لها.
يعاني المجتمع الرأسمالي الغربي من اختلال التوازن بين المجتمع والنظام السياسي والاقتصاد.في الوضع السائد الان في الدول الراسمالية نجد ان السوق وسيادة القيم النقدية لا تؤدي الي التماسك الاجتماعي بل العكس هو الصحيح، فان علو شهوة الربح علي القيم الاجتماعية لا يوفر اي مساحة للحديث عن العدالة والاخلاق. ادي طغيان السوق وسيادة الرأسمالية المالية وانفلاتها خارج سيطرة الدولة ، الي عدم المبالاة تجاه القيم الاجتماعية والاخلاقية ومباديء حقوق الانسان، ومن الامثلة الصارخة علي ذلك، تطورات الحالة الليبية بجميع مراحلها وصولا الي احتفاء زعماء العالم الغربي بالطريقة الوحشية التي صفي بها معمر القذافي والتمثيل بجثته، اذ غلبت مظاهر البهجة والتشفي خطابات الزعماء الغربين في امريكا، اوربا وصولا الي روسيا بل حتي امين عام الامم المتحدة شارك في الحفل الضاحك بمناسبة تفجير راس القذافي ووضعه في مخزن للفرجة والصور التذكارية وتصفية نجله المعتصم ووزير دفاعه بجثته المحترقة والقذف بهم الي الصحراء. هذا عار جديد علي الرأسمالية العالمية عليها تحمل وزره واضافته الي انجازاتها مع توابعها الاقليمية. يدل كل ذلك علي تكامل الازمة الاقتصادية للنظام الراسمالي، والتي فجرت موجة من الاحتجاجات الشعبية، مع ازمة سياسية واخري في القيم الاجتماعية والانسانية التي لا تحتمل التمييز بين الجيد والخبيث، المحبوب والمكروه، اذ ان حتي المجرمين يتمتعون بحق الدفاع عن النفس وحرمة الموت. يعطي ذلك صورة واضحة لايدولوجية الراسمالية المالية المتعولمة المتجردة عن القيم انسانية. هل هذا النهج يمثل خيارا يحتذي لكي يتم السير فيه لتطور الاوضاع في السودان في طريق اقتصاديات السوق والتحرير الاقتصادي والتعامل مع الخصم او العدو؟
حتي اليوم وفي اطار النهج السائد لا يوجد خيار بديل في الواقع السوداني يخالف النمط الرأسمالي الغربي، بل ان كل الخلاف يكمن في التسمية والتوصيف والمصطلح، اما الجوهر فهو واحد، نظام اقتصادي تابع للنظام الراسمالي بتداعيات التبعية علي الجوانب السياسية بالوقوع في فخ الاستراتيجيات الغربية وخدمة مصالحها. هذا الامر مرتبط من وجهة نظر اقتصادية بخلق مناخ ملائم لتوجه رأس المال النقدي الي افضل ما يعود عليه بالربح والمكاسب وليس مهما هنا اذا كان الربح مستمد من نظام يتبع سعر الفائدة او يعمل بصيغ بديلة، اذ ان الهدف واحد وان تعددت الطرق اليه وهو الربح ومراكمته وتعظيمه واكتناز الاموال لمزيد من الربح والاستغلال.
بالرغم من ان مثل هذا النهج يؤدي في ظاهره الي زيادة الانتاج وتشجيع الابتكار والحرية الاقتصادية، الا انه وفي جوهره يؤدي الي تعميق الخلل الاجتماعي بتعميق التفاوت في مستويات الدخول والثروة بشكل يتجاوز متطلبات التوازن الاجتماعي بشكل خطير، حتي في بلد مثل امريكا تشير الاحصائيات الاخيرة الي ان النسبة المستحوذة علي الثروة والتي تقدر ب 1 الي 3% قد ضاعفت من ثرواتها بالرغم من الازمة الاقتصادية الطاحنة بينما تغوص اعدادا كبيرة من السكان يوميا الي ظلمات الفقر والعوز.
يبقي في نهاية فرق جوهري بين الاصل والمشتق، فالاصل يعتمد علي قيمه هو وخياراته اما الاخر فهو تابع في القيم والخيار. بينما توجد اليات لتغيير الواقع عند الاصل بالنظام الذي اتبعه والذي يتيح حرية التحرك والضغط الايجابي فان نظام التبعية لا يوفر مثل تلك الخيارات. هذا السياق قد يؤدي الي اصلاح مؤقت للنظام الراسمالي يمكنه من تجاوز ازمته الحالية والتضامن للخروج منها الي ان يقع في ازمة اعمق. الا ان وضع التبعية لا يوفر خيارات للحل وانما ينتظر ما ستؤل اليه الاوضاع عند الاصل ليحاول الركوض للوصل اليها، وهكذا تستمر الكرة في الدوران.
سيستمر نهج التطرف في الصراع من اجل رأس المال والايمان المطلق بآلية السوق والتعويل علي آليات التنظيم الجديدة التي يجري البحث عنها كاصلاح النظم المصرفية، تغيير نمط الرقابة وآليات عمل اسواق رأس المال العالمية واحتواء ازمة الديون، الا ان هذا المسار سيؤدي الي مزيد من تمركز الثروة والسلطة وتعميق افقار قطاعات اوسع من سكان العالم. يبقي الامل معقود علي حركة التغيير التي اصبحت تنتظم العالم من اجل وضع اسس جديدة للديمقراطية والحرية وقيم حقيقية للعدالة.
هذا الطريق يمر عبر السيطرة علي هيمنة الشركات متعددة الجنسية التي تشكل رأس الرمح للراسمالية المالية المتعولمة وايجاد نظام لاعادة توزيع الثروة في المجتمعات، كما ان حركات الهامش (العالمي والمحلي) ستؤدي الي تحويل اليأس الي امل في مستقبل افضل. مع سيادة القيم النقدية والسيطرة المفرطة لنظام السوق تتراجع القيم الديمقراطية والاجتماعية وتصبح النظم الحاكمة لامبالية بالمصلحة العامة بسبب ضعف الاغلبية وعجزها عن الفعل الايجابي وتصبح بذلك العملية السياسية اقل فاعلية وستكون هذه الازمة (الاجتماعية السياسية والاقتصادية) اشد عمقا في الدول التابعة، الا ان وعي المجتمعات في العالم وتحول المعرفة الي قوة ضاربة وتوفر الوسائط الحديثة في العمل العام قد ادت بالفعل الي نقلة نوعية في تغيير الواقع المأزوم الي اخر افضل. اصبحت الان الكلمة العليا لدي قوة لا يمكن السيطرة عليها وهي قوة غير ملموسة وغير محددة الملامح او العنوان وبالتالي غير قابلة للرصد والتتبع وهنا يكمن الامل ومن هنا تاتي الخطورة.
مع كل ذلك يبقي الفرق بين الازمة الاصلية والتابعة كما هو الفرق بين المجتمعات المتطورة والمتخلفة. يبقي الفرق في طبيعة الازمة واسبابها، في جوهرها واثارها وتداعيتها، في آليات الخروج منها والثمن والواجب السداد لتجاوزها.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]