البرنامج الاقتصادي الثُلاثي الإسعافي (2/3)

 


 

 


mahdica2001@yahoo.com
تناولنا في الحلقة الأولى السابقة محور السياسة النقدية والتي يُقصد بها ويُهدف منها السيطرة على سعر صرف العُملة ومعدل التضخم، وأشرنا إلى أن واقع الحال يؤكد تدهور سعر صرف الجنيه السوداني وإرتفاع معدل التضخم بنسبة أكثر من 20% خلال شهرين فقط  عُقب الإنفصال، مما يعني الفشل التام للبرنامج في هذا المحور الهام (من قولة تيت). كذلك تناولنا محور السياسة المالية (الإيرادات والمصروفات) حيث هدف البرنامج إلى تخفيض المصروفات بالعُملة الصعبة عبر سياسة إحلال الواردات وتحقيق الإكتفاء الذاتي في أربعة سلع أساسية، وهي؛ دقيق القمح والسُكر وزيوت الطعام والأدوية، وأشرنا إلى أن هذه سياسة قديمة لا جديد فيها منذ أن رفعت الإنقاذ شعار "نأكل مما نزرع" وفشلت فشلاً ذريعاً في ترجمة شعارها إلى واقع مُعاش، إذ تضاعف إستيراد القمح وزيوت الطعام، ولم يتحقق الإكتفاء من السُكر، ولا يمتلك السودان ميزة نسبية في إنتاج الدواء، الذي لا يُشكل عبئاً كبيراً على خزانة الدولة لأنه يمكن الحصول عليه مجاناً عبر البرتوكولات الثُنائية وبرامج العون الدولي (كما كان الحال قبل تدهور علاقات السودان مع المُجتمع الدولي).
نتناول في هذه الحلقة الشق الثاني من محور السياسة المالية (شق زيادة الإيرادات)، حيث يرمي البرنامج إلى زيادة حصيلة الصادر من أربعة سلع أساسية وهي؛ الذهب والصمغ العربي والقطن والثروة الحيوانية، وهذا هدف يبدو ميسوراً من الناحية النظرية ولكن واقع الحال يؤكد أيضاً أن رفع إنتاج وإنتاجية القًطن ظل هدفاً مُنذ إدخال زراعة القُطن في السودان (المشاريع المروية؛ في الجزيرة والمناقل والرهد، والمشاريع المطرية؛ في جبال النوبة ومشاريع النيل الأزرق والأبيض)، وتشير آخر الإحصائيات المُتقائلة (والمُضخمة)  إلى زراعة 350 ألف فدان قُطناً في كُل السودان، علماً بأن مشروع الجزيرة وحده كان يزرع في عقد السبعينيات حوالي مليون فدان قُطنا في كُل عام (للعلم: تبلغ مساحة مشروع الجزيرة وإمتداد المناقل حوالي مليوني فدان) ومع ذلك تدهور الوضع الإقتصادي في السودان بداية من نهاية السبعينيات، حين تم أول تخفيض لسعر صرف الجنيه السوداني الذي كان يُعادل ثلاثة دولارات!!!. أما عن الصمغ العربي، فبالرغم من الإقرار بأنه سلعة إستراتيجية بدليل إستثنائها من قائمة العقوبات الأمريكية على السودان، إلا أنها لا تُشكل مورداً كبيراً للنقد الأجنبي، وحتى لا نلقي القول على عواهنه نُذكر بان السودان تباهى بإنتاج 58 ألف طن من الصمغ قبل عامين، ولو تمكن من زيادة الإنتاج إلى 100 ألف طن فإن العائد سيكون 150 مليون دولار (متوسط سعر طن الصمغ 1,500 – ألف وخمسمائة دولار)، فهل تؤثر 150 مليون دولار على ميزان مدفوعات دولة تدفع حوالي مليار دولار سنوياً لخدمة ديونها البالغة 38 مليار دولار؟!، ويتباهى وزير دفاعها بإنفاق ستة مليار دولار لشراء طائرات مُقاتلة من روسيا!!. وثمة مُلاحظة لا بُد من الإنتباه إليها وهي أن حزام الصمغ العربي يُعاني الأمرين من الآثار السالبة لتغيُير المناخ وإستمرار الحرب في حزام الخير والموارد الذي تحول إلى قوس أزمات مشدود بطول ألفي كيلومتر من أم دافوق غرباً إلى الكُرمك شرقاً (كما سبق أن كتبنا ونبهنا قبل أكثر من ثلاثة عقود، ولكن؛ لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تُنادي!!).
أما زيادة صادر الثروة الحيوانية فالواضح أن السودان بلغ حده الأقصى في القُدرة على تصدير هذه السلعة، وقد أصبحت زيادة الصادر تؤثر مُباشرة على المعروض محلياً ومن ثم إرتفاع الأسعار داخلياً (كما شهدنا خلال الشهور الماضية، ومسرحية مُقاطعة اللحوم) مع ما يعنيه ذلك من إرتفاع في معدل التضخم وعدم إستقرار إجتماعي، ولعل في التصريحات الأخيرة لبعض المسئولين بأنه سوف يتم إستيراد لحوم مُجمدة من ماليزيا ما يؤكد تناقض وتضارب السياسات الإقتصادية في هذا السودان المنكوب، ولقد كُنت أتمنى لو أن هؤلاء المسئولين بشرونا بأنهم بصدد إستيراد تجربة ماليزيا الرائدة، ونجاحها في تحقيق التنمية في مُجتمع شديد التنوع الديني والإثني،  وإقتفاء أثر رؤية مهاتير محمد الإسلامية المُعاصرة!!. ومما يزيد المرء حيرةً أن كافة وزراء الثروة الحيوانية (التي أصبحت وزارة حصرية للمُهمشين الجنوبيين سابقاً والغرابة لاحقاً) يتحدثون ويتفاخرون بزيادة الصادر دون أن يمن الله عليهم بكلمة عن تطوير الإنتاج نوعاً وكماً، علماً بأن الأسلوب الحالي الذي يُماثل أسلوب الزراعة الإستنزافية النهبية (Extractive farming) ذات الإتجاه الواحد، سوف يقود حتماً إلى تجفيف مصادر الثروة الحيوانية وقتل الدجاجة التي تبيض ذهباً.
أما سلعة الصادر الرابعة والأخيرة بحسب البرنامج الإسعافي وهي الذهب؛ فقبل الحديث عنها لا بُد أن ننوه إلى معلومة هامة وهي أن كافة البيانات والإحصائيات التي يدلي بها وزراء الإنقاذ، مشكوك فيها وتفتقد إلى أدنى درجات المصداقية، وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن وزير المعادن الحالي/ د. عبد الباقي الجيلاني، تولى منصبه وزيراً للشئون الإنسانية أولاً، ثُم وزيراً للمعادن، مُكافأة له على تزويره وتفصيله للتعداد (قميص عامر) على مقاس أولياء نعمته بالمؤتمر الوطني. ولهذا فلا يُعتد بكلامه، إضافةً إلى أن المُراقبين للشأن السوداني يزعمون بأن الأرقام المُضخمة لعائدات الذهب إنما هي في حقيقة الأمر عائدات البترول المنهوب من حصة جنوب السودان، ومهما يكُن الأمر فإن الفشل الإقتصادي في السودان لم يكُن أبداً بسبب شُح الموارد وإنما على العكس تماماً، كان بسبب ثراء الموارد وسوء إدارتها (راجع كتاب د. سلمان محمد سلمان- السودان صراع الموارد والهوية).
عموماً وبشأن سلع إحلال الواردات (القمح، السكر، زيوت الطعام والأدوية) وسلع زيادة الصادرات (القطن، الصمغ العربي، الماشية والذهب)، فإن ستةً منها سلعاً زراعية (عدا الذهب والأدوية) والمعروف أن زيادة  العائد من المحاصيل الزراعية لا يُمكن تحقيقه إلا بتطوير وسائل الإنتاج  لزيادة الإنتاج والإنتاجبة وذلك (بإدخال التقنية الحديثة من بذور مُحسنة وميكنة وري دائم إلخ)، بالإضافة إلى تصحيح علاقات الإنتاج لتكون أكثر إنصافأ وحفزاً للمُزارع، وهذه مسائل فنية مُعقدة وتحتاج لزمن طويل وتناول علمي بحت ولا تتحقق بأوهام ومزايدات السياسيين. وعلى كُل حال فقد ظلت الإنقاذ تتحدث عن النفرة والنهضة الزراعية، وتجعجع لأكثر من عقدين من الزمان دون أن نرى طحناً، بل العكس صحيح فقد تفشى الفقر والجوع واندثرت الطبقة الوسطى وانقسم المجتمع إلى أقلية ضئيلة مُتخمة تُمثل أقل من 5%، وأغلبية مطحونة تزيد عن 95% يمنعها التعفف وتحويلات المُغتربين والتكافل الإجتماعي من السؤال إلحافاً، وللعلم فقد بلغ حد الفقر درجة تصنيف أساتذة الجامعت والأطباء ووكلاء الوزارات النزيهين "إن وجدوا" ضمن شريحة الفُقراء. 
تمثل المحور الثالث للبرنامج الإسعافي في الإستقرار الإجتماعي عبر ما يُسمى بالتمويل الأصغر وتشغيل الخريجين، وهذه فرية أُخرى إذ كيف يتحدث النظام عن الإستقرار الإجتماعي وهو من شرد الأُسر من خلال الإحالة للصالح العام وإحتكار التوظيف حصراً على مُنتسبي حزب المؤتمر الوطني. وللتدليل على غياب العدالة الإجتماعية وخطل سياسات حكومة الإنقاذ في هذا الصدد، يورد الدكتور/ إبراهيم البدوي (الذي اعتذر مؤخراً عن قبول منصب مُحافظ بنك السودان) في دراسته المُقدمة لمركز مأمون بحيري للبحوث الإقتصادية ما يلي ( إرتفع إجمالي الناتج القومي-  للسودان إلى خمسة أضعاف خلال عشرة أعوام- من 10 مليار دولار عام 1999 إلى 50 مليار دولار عام 2008- ولكن إرتفع متوسط دخل الفرد "GDP " خلال ذات الفترة بأقل من الضعف، من 334 دولار إلى 532 دولاراً)، وإذا ما طبقنا معيار قياس توزيع الدخل (Gini-Coefficient)، فسوف يتضح وبدون أدنى مواربة أن هنالك خللأ رهيباً في توزيع عائدات النفط الذي أصبح لعنة وعاملاً أساسياً في تأجيج الصراعات وتفتيت النسيج الوطني. وفي تناقض صارخ مع مزاعم دعم شريحة الفُقراء صرح محافظ بنك السودان مُنذراً الشعب السوداني برفع الدعم عن الوقود، أي رفع سعره بنسبة عالية مع ما يعنيه ذلك من إرتفاع أسعار كافة السلع الأُخرى، وعلينا أن لا ننسى أن رئيس الجمهورية سبق وأن أتحفنا بنظرية إقتصادية جديدة "لنج" فحواها أنه لا يؤمن بدعم السلع لأن إستهلاك الأثرياء من تلك السلع المدعومة سوف يتزايد ويتضاعف، فلئن قُلنا أن سيادته خالي الجُراب من علوم الإقتصاد وآداب الثقافة، أفلا يُدرك بالممُارسة والمُلاحظة أن آل بيته يتسوقون في دُبي ولندن!؟ وليس في سعد قشرة وملجة سوق ليبيا؟!.
ختاماً: حتى لا نُتهم بأننا نُجيد النقد فقط دون طرح البديل، فسوف نقول لكم البديل في الحلقة القادمة مع أننا على يقين تام بأن المكتولة ما بتسمع الصايحة. 
تاني كسرة ياالفاتح جبرا:
قال وزير المالية/ علي محمود الكضاب (إن الإقتصاد السوداني في وضع أفضل من الإقتصاد الأمريكي، لأن ديون أمريكا تساوي ناتجها القومي)، وللحقيقة فقد بلغ الدين العام لأمريكا مؤخراً 102% من ناتجها القومي، ولكن ليسمح لنا معاليه أن نسأله سؤالاً بسيطاً، كم يبلغ الناتج القومي للسودان بعد إنفصال الجنوب، وكم يبلغ دينه الخارجي حالياً؟. ونتطوع بالإجابة على الشق الثاني من السؤال بأن الدين الخارجي السوداني يبلغ حوالي 38 مليار دولار.
إلى أين نحن مُساقون في دولة رئيس جمهوريتها بذئ جاهل، ونائبه الأول كسًار تلج بسيفه البتار، ومساعده أبو العفين يُدير خده الأيمن عندما يصفعه ولي النعم على خده الأيسر، ووزير ماليتها كاذب مُنافق، ووزير خارجيتها شحاذ فاسد، ورئيس برلمانها يبصم بأصابعه العشرة على توجيهات السُلطة التنفيذية، وكُل قادتها لا يستطيعون الصدع بقول الحق!؟.
إذا كان الغُراب دليل قومٍ لقادهم إلى جُثث الحمير.

 

آراء