هذا هو “التجاني الطيب”…وهذا هو “حزبه”!!!.
صديق عبد الهادي
1 December, 2011
1 December, 2011
(1)
Siddiq01@sudaneseeconomist.com
أوردت صحيفة "جريدة الحرية" التي اسسها كل من "جون روسوورم" و"صمويل كورنيش"، كأول جريدة تُعنى وتنطق بحال الأمريكان من اصول أفريقية في الولايات المتحدة الامريكية، الأمريكان السود، أوردت في إفتتاحية عددها الاول والذي صدر في مدينة نيو يورك في يوم 16 ماس 1827م، مقطعاً بسيطاً ولكنه كان ذا دلالة عميقة، إذ يقول، " إننا نتطلع للتبشير والتصدي لقضيتنا بأنفسنا، فلقد تحدث الآخرون نيابة عنا طويلاً". هذا الموقف، ومنذ اللحظة الاولى، هو ما تبناه الراحل "التجاني الطيب"، رئيس تحرير جريدة الميدان الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، بالرغم من انه لم يكلف الآخرين ولو قليلاً من عناء الدفاع عن مشروع العدالة "الجديد" الذي تبناه حزبه. وما في ذلك من تجاوزٍ للحقيقة، إذا ما نظرنا إلى تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي في 1946م وتأسيس جريدة الميدان في 1954م.
إطلع "التجاني الطيب"، كاحد مؤسسي الحزب وجريدة الميدان، بمهمة التبشير والتصدي، بشكلٍ يكاد ان يصل مصاف الإطلاق، وقد سما في ذلك سمواً باهراً، للحد الذي أضحى فيه رمزاً من رموز القضايا الكبرى، تلك القضايا التي إرتبطتْ وترتبطُ في إنجازها بالمؤسسات التي حملت على عاتقها مهام التغيير الجذري.
إنني لا ازعم، وكثيرون غيري، معرفة الراحل "التجاني الطيب"، ولكن يمكنني القول، وبزعمٍ أكيد، أنه واحدٌ من "القلائل" الذين يخيبون، وفي سبيل معرفتهم، ظن التطابق بين التوقع والحقيقة!!!. فنحن الذين وفدنا إلى رحاب الحركة الديمقراطية السودانية، والتي في قلبها الحزب الشيوعي، في السني العاصفة التي أعقبت يوليو 1971م، كانت لنا، وقتها، تصوراتنا الخاصة وتخيلاتنا عن ذلك النفر من الشيوعيين السواطع، اولئك الذين عََبَروا بالحزب من فوق جسور الدم ليعودوا به في ثبات مبين، وليودعوه حضن الشعب. شعبنا الذي لا تُطال ودائعه، ولا تُضار!. كان "التجاني الطيب" واحداً ممنْ اسدوا تلك المهمة النبيلة، وواحداً ممن أحكمتْ سياجها حوله تخيلاتنا الخاصة!!!.
ففي يوليو عام 83م، وفي صباح العيد وفي قسم المديرية بسجن كوبر العمومي، جاء وفي خطوٍ خفيفٍ ورشيق لا ينبئ عن عمره، ولا يمتُ إليه. وكانت تسبقه وترفُّ على وجهه إبتسامةٌ ودودة. كان ذلك هو "التجاني الطيب"، جاء من الزنازيين الشرقية، والتي كانت تُعرف بالشرقيات، ليبارك العيد على المعتقلين. وقد كانوا من احزابٍ مختلفة، بينهم نقابيين وطلاب وغيرهم. وكان بين المعتقليين عددٌ من قادة الحزب الشيوعي، المهندس صديق يوسف، سعودي دراج، الراحل علي حبيب الله، التوم النتيفة، الشفيع خضر، حسن عثمان، محمد بابكر، عباس السباعي وآخرون. كانت تلك هي المرة الاولى التي ارى فيها الراحل "التجاني الطيب". ومما كان يُحكى عن حزمه وصرامته كنت اتوقع شخصاً قاسي الوجه، قمطريري الملامح!!!. فلقد خاب توقعي وجافى الحقيقية!!!. ولا اشك في ان ذلك هو حال كل منْ سمع به ولم يقابله او يراه.
قد يعتقد عددٌ ليس بقليل من اعضاء الحزب واصدقائه بأن تحديث برنامج الحزب الحالى مرتبطٌ بإنفتاح المناقشة العامة التي بدأت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، إلا ان الحقيقة قد تكون غير ذلك. وقد ترجع مسيرة التحديث إلى ما بعد المؤتمر الرابع، غير انه قد تكون من ارأس محطاتها تلك المساهمة في تطوير البرنامج التي أدارتها قيادة الحزب من داخل سجن كوبر في عام 83م وما تلاه حتى إنتفاضة الشعب في ماس/ ابريل 1985م.
طلبت قيادة الحزب من الشيوعيين والديمقراطيين المعتقلين الكتابة في مجالات تخصصهم، إن كانت الاكاديمية او المهنية، وكذلك عن تجاربهم وخبراتهم في الميادين الاخرى مثل النقابات وتنظيمات الشباب وغيرها، وذلك لاجل تطوير برنامج الحزب. أًنجزت تلك المساهمات وقُدِمتْ في شكل محاضرات داخل المعتقل وذلك قبل تسليمها لقيادة الحزب خارجه.
كانت مساهمتي التي قدمتها في الاقتصاد السياسي لنشاط التأمين التجاري سبباً في إلتقائي وتعاملي مع الراحل "التجاني الطيب" إبان سني الديمقراطية الثالثة. وذلك حين دعاني الاستاذ محمد إبراهيم نقد لمناقشة تلك المساهمة معه، قبل أن يشير عليّ بالذهاب للقاء الراحل "التجاني الطيب" في جريدة الميدان، لإتفاقٍ مسبقٍ بينهما على ذلك. كانت مناقشة الاستاذ نقد مفيدة وكان نقده عميقاً. كانت إحدى نقاطه التي اثارها، هي، ما السبب في توسلي كتابات المفكرة اليسارية الاشهر "روزا لوكسمبيرج" عوضاً عن استفتاء واستنطاق نصوص "كارل ماركس" فيما يخص معالجة راس المال التجاري؟!!!. وكانت إجابتي بانني ، ليس وقتها وحسب بل وما زالت، اعتقد بأن مساهمات "روزا" في نقد الاقتصاد السياسي للراسمال التجاري والمالي المتعلق بالبنوك والمصارف وبحركة التامين التجاري كذلك كأنشطة راسمالية صميمة، لهي مساهمات عميقة لا تضاهى. ولذلك كان "لينين" محقاً حين قال،عند إستشهادها، "لقد هوى نسر الماركسية المُحلِّق"، وبالفعل كانت تحلق عالياً ليس بنضالها السياسي فحسب، وإنما بفضل فتوحاتها الحصيفة في نقد الاقتصاد السياسي للرأسمال والذي يقف فيه كتابها "تغيير إجتماعي ام ثورة؟" كواحدٍ من المساهمات المتميزة.
ولكنه، وبرغم الجهد الذي بذلته في تلخيص المساهمة فقد طلب مني "التجاني الطيب" إعادة صياغة الموضوع من أوله وإلى آخره وذلك لتنقيته من الروح الأكاديمية لكي يصبح صالحاً للنشر الصحفي في جريدة الميدان. كان درساً قاسياً ومفيداً، تابع تنفيذه معي الصديق صدقي كبلو المحرر الاقتصادي غير المتفرغ لجريدة الميدان حينها. ومن بعدها اصبحت مساهماتي للميدان تمر عن طريق مكتبه مباشرةً.
كان تربوياً منصفاً، لم يخف عني إعجابه بإستعراضي لكتاب الشاعر الشيلي العظيم "بابلو نيرودا"، ذلك الذي كان ينتقد فيه الرئيس الامريكي "ريتشارد نيكسون".
"التجاني الطيب" رجلٌ حازم وعطوف، وقد يقول الكثير من الناس بذلك، إلا اني في هذا المقام اكتفي بشهادتين لا يطولهما الطعن باي حال من الاحوال. الأولى أنني وذات مرة ذكرت للاستاذة "فاطمة أحمد إبراهيم"، وذلك في عام 1994م، بان "عم التجاني الطيب" رجلٌ صارم، وقبل ان اكمل جملتي قالت لي "في العمل الرسمي ولكن قلبو كبير، ولا احد يعرف التجاني اكثر مننا". واما الشهادة الثانية فمن الاستاذة "خنساء سوار الدهب" التي التقيت بها، تلك المرة، في ولاية ميرلاند بالولايات المتحدة الامريكية وذلك في عام 2005م، فيما اعتقد، حيث حكت لي عن احدى تجاربها مع الراحل "التجاني الطيب". وكان ان تناقشتْ معه حول موضوعٍ يتعلق باحدى الانقلابات العسكرية، فإحتدَّ معها الراحل في المناقشة. ولم تقبل ذلك منه، وقد جرى ذلك في منزل الراحل. فما كان منه، وبعد ايامٍ قليلة، إلا ان زارها في منزلها بحي الملازمين معتذراً.
إن مورد الإعتذار موردٌ صعب لا يرده إلا خيار الناس وأشجعهم. و"التجاني الطيب" رجلً خيِّر وشجاع، وليس في ذلك شك.