“دكتور سقراط”…ابن البرازيل البار وحكيم حكمائها

 


 

 


Siddiq01@sudaneseeconomist.com    
أشار أديب أرغواي "إدواردو جالينو"، في كتابه الذي جاء تحت عنوان " كرة القدم، تحت الشمس وفي الظل"، إلى بعض مشاهير العشاق لكرة القدم، والذين من بينهم الاديب والكاتب الانجليزي "وليم شكسبير"، والفنان الايطالي الاشهر "ليوناردو دافنشي"، وكذلك الفيلسوف والمفكر " ميكافيلي". وهذا الاخير كان يعشق ممارستها!!!.  وبالطبع من بين هؤلاء يحتل كاتبنا مكانه ايضاً، حيث انه زيَّنَ مدخل كتابه بإعترافٍ بليغٍ، قائلاً، "لقد مرَّتْ السنوات تباعاً، وفي الختام قبلت ان اكون كما هو أنا: إنما رجلٌ يتسول كرة القدم الجميلة. ظللتُ اطوف حول العالم، ويدي ممدودةٌ، في كل أستاد اتضرعُ، "لمسة جميلة في سبيل الله" ".
أخترت هذا المدخل للكتابة عن اللاعب البرازيلي، والثوري اليساري الفذ "دكتور سقراط"، لاعب الوسط السابق لنادي "كورنثيانز"، والمنتخب الوطني البرازيلي وقائده، لأنه واحدٌ ممنْ صنعوا تلك "اللمسة" "الجميلة والآسرة" التي ظلّ يبحث عنها "إدواردو جالينو"، في  ميادين هذه اللعبة المحبوبة، والعجيبة.   
تعتبردولة البرازيل واحدة من الدول ذات الاقتصادات الناهضة، وتحظى، إلى جانب دول قليلة من بينها الهند، بإحرازها لمعدلاتٍ عالية في نموها الإقتصادي. إلا أنها، وبرغمه، ما زالتْ تفرض نفسها على مخيلة شعوب العالم بانها البلاد التي تجيد صِنعة كرة القدم، وتهب العالم ألمع المبدعين فيها. وبالفعل، فإن لعبة كرة القدم وممارستها في البرازيل، وما يرتبط بها من مهرجاناتٍ و أدبٍ وطقوسٍ وعشقٍ، تمثلُ ركناً ركيناً في ثقافة شعب البرازيل. إذ تتمتع البلاد بوجود أندية عريقة في تأسيسها، مثل "فلامنجو" في عام 1895م، "فاسكو دي جاما" في 1898م، و"كورنثيانز" الذي لعب له "دكتور سقراط" تأسس في عام 1910م.
البرازيل هي البلد الوحيد في العالم الذي يفوق عدد لاعبيه المحترفين الموجودين في خارج البلاد عدد افراد بعثاته الدبلوماسية، حيث يوجد 5 الف لاعب برازيلي حول العالم، في حين ان دبلوماسيه لا يتعدى عددهم 1250 دبلوماسي.
البرازيليون "مهوسون" بهذه اللعبة، فهم يتعاملون مع "الكرة" نفسها بإعتبار انها "إمرأة" او "انثى" يتوجب التعامل معها برقةٍ ورفق، فلذلك هم لا يلعبون بها وإنما يلاعبونها ويرقصون معها. ولا ادلَّ على هوس البرازيليين من أنهم أقاموا ملعباً لكرة القدم في مدينة "ماكابآ" التي تقع في ولاية "آمابآ" في إقليم "الآمزون"  حيث يمر خط الإستواء،  ليعبر ذلك الخط دائرة السنتر، أي بمعنى ان خط الاستواء هو الذي يقسم ذلك الملعب لنصفين. وقد عُرِف ذلك الملعب بـ "أستاد الصفر الكبير"،  (Big Zero Stadium)، إذ انه  وعند بداية كل مباراة، وبعد إجراء القرعة، يسأل حكم المباراة قائدي الفريقين "في اي نصفٍ من الكرة الأرضية، يود كل منهما أن يبدأ فريقه اللعب؟!!!".
أنجبت البرازيل في مسيرتها الوضيئة  ثلاث أساطير في كرة القدم، "مانويل فرانسسكو دوس سانتوس" والمعروف بـ "جارنيشا"،  ولقد كان عاملاً بسيطاً في مصنعٍ للنسيج، و"أديسون آرانتيس دي ناسيمنتو" والمعروف بـ "بيليه"، وهو لم يعرف اي مهنة أخرى سوى ممارستة كرة القدم، أما الاسطورة الثالث فهو "سقراطيس برازيليرو سامبايو دي سوزا فييرا دي اوليفييرا، والمعروف بـ "دكتور سقراط" والذي كان يعمل طبيباً إلى جانب ممارسته لكرة القدم.
ما هو مشترك بين هؤلاء الثلاثة انهم لعبوا في اعظم فريقين وطنيين مثَّلا البرازيل في منافسات كأس العالم، وهما، الفريق الذي فاز للبرازيل بكأس العالم في 1958م، حيث اشترك فيه "جارنيشا" و"بيليه"، والثاني هو الفريق الذي لعب في نهائي منافسات العالم في عام 1982م، والذي كان يقوده ككابتن "دكتور سقراط". ويجمع كل الناس انه كان أميز فريق، على الاطلاق، في العالم يخسر في نهائيات كاس العالم!!!.
لم يكن كل من الثلاثة يمثل حالة إبداعية لوحده فحسب، وإنما كانوا يختلفون في جوانب أخرى. رحل "جارنيشا" فقيراً معدماً إلا من حب الناس له، حيت قال عنه "جاو بيدرو إستيدايل" مؤسس "حركة من لا يمتلكون أرضاً"، "لقد كان جارنيشا يمثل توليفة برازيلية من الفقر والابداع والحنو. كان عامل نسيج بسيط، ولكن ببساطته وبموهبته الكروية وهب إلينا الكثير من السعادة". وفيما يخص "بيليه"، ففي الوقت الذي كان فيه "جارنيشا" في مواجهةٍ مع "المؤسسة"، اصبح "بيليه" جزءاً من "المؤسسة" نفسها، اي انه اصبح ناجحاً في عالم المال المرتبط بالمؤسسة الرياضية. أما "دكتور سقراط" فلم يكن يختلف عنهما بإعتباره مهنياً متعلماً وحسب، وإنما كان صاحب موقف متكامل فكرياً وسياسياً، موقفٌ ربط فيه بين الرياضة كمجال للابداع وبين ضرورة العدل الإجتماعي، وكذلك ضرورة سيادة القيم النبيلة، مثل الحرية والديمقراطية وغيرها. وقف ضد السيطرة والوصايا بكل اشكالها، بدءاً بمواجهة إدارات الأندية وإنتهاءاً بالوقوف ضد الأنظمة العسكرية القمعية التي مارست الحكم في البرازيل.
أفرد الكاتب والناقد البريطاني "اليكس بيلوس"، في كتابه "كرة القدم، الطريقة البرازيلية"، فصلاً كاملاً عن لقائه بالأسطورة "دكتور سقراط"، واسمى ذلك الفصل بـ "حوار سقراط"، وهو الفصل الخامس عشر والأخير في الكتاب. يقول "اليكس" ان  "دكتور سقراط" مارس السياسة في مجال كرة القدم إلى حدٍ لم يسبقه إليه احد من قبل في البرازيل. فلقد كان مؤسساً لما عُرف بـ "ديمقراطية نادي كورينثيانز"، حيث انه وبقية اللاعبين إنتزعوا حقهم في التصويت على كل ما يخص امر النادي، بما في ذلك توقيت التمارين الرياضية في النادي، بل انهم طبعوا علي قمصانهم الرياضية الشعار الشهير " صوتوا في يوم الخامس عشر" وذلك في عام 1982م، وهو اليوم الذي كان وقتها يصادف الانتخابات في البرازيل لاجل إختيار نواب البرلمان، وحكام الولايات  وعُمدْ أو معتمدي المدن.
ويقول "دكتور سقراط"، انه كان متأثرأ لحد كبير بوالده، ذلك الرجل العصامي القادم من اسرة فقيرة، والذي علم نفسه بنفسه، وكان يمتلك مكتبة ضخمة، نهل منها "سقراط" جلّ معارفه، إذ كان يمارس هواية الإطلاع فيها إلى جانب والده، وأن اول تجربة تعرض لها وكانت محفزة له ومحرضة لاهتمامه بالسياسة كانت في عام 1964، ووقتها كان عمره عشر سنوات، حينما استولى العسكريون على السلطة في البرازيل، ورأى والده يقوم بحرق احد الكتب، وكان عن "البلشفيك"!!!.
كان لـ"دكتور سقراط" أفكاره النظرية حول ممارسة كرة القدم كنشاط إبداعي لا ينفصل عن الحركة الإجتماعية وتطورها في البرازيل. إذ كان يرى ان التطور الاقتصادي والرأسمالي، والذي ادى إلى إتساع المدن في البرازيل لعب دوراً أساساً في رفد مجال كرة القدم بمحترفين من الطبقات المسحوقة، مما اضعف حالة التمييز التي كانت سائدة في ذلك المجال  وفي أنديته الكبرى، والتي كانت تاريخياً حكراً لأبناء الطبقة الوسطى، وخاصة الذين كانوا ينحدرون من اصول بيضاء اواوربية. ومما يؤكد من صحة ما ذهب اليه "دكتور سقراط" في هذا المنحى، ان التمييز العنصري لم يكن وقفاً على مجال الرياضة لوحده، وإنما كان سائداً  في مجال إدارة الدولة نفسها، حيث انه وبتقلد "بيليه" لمنصب وزير الرياضة في وزارة الرئيس "فرناندو هنريك كاردوسو" الذي جاء للسلطة ديمقراطياً في عام 1994م، كان التدشين لتحولٍ جديدٍ، وهو ان يكون للبرازيل، ولأول مرة في تاريخها، وزيراً اسوداً في مجلس وزرائها!!!.   
كانت لـ"دكتور سقراط" أفكاره الخاصة ايضاً حول تطوير اللعبة نفسها. كان يرى ان فقدان اللعبة لجمالياتها راجعٌ لما حدث في مجال تطوير المقدرات البدنية لللاعبين أنفسهم، حيث ان متوسط المسافة التي كان يقطعها اللاعب قد زاد من 4 كيلومترات في التمرين الواحد إلى 12 كيلومتر، مما ادى إلى تضييق المساحات بين اللاعبين في الميدان، وبالتالي إلى حرمانهم من ممارستهم للمهارات الفردية، الامر الذي كان متاحاً من قبل لإضفاء النكهة الجمالية على اللعبة. فلذلك فقد كان يرى ان يتم إعتماد تسعة لاعبين للفريق الواحد عوضاً عن إحدى عشرة لاعباً حتى يتم توفير المساحات المطلوبة لابداء المهارات والامكانات الفردية الغائبة.
كان "دكتور سقراط" عاشقاً لكرة القدم، ومحباً لوطنه البرازيل. لم تكن إضافاته لـ"اللعبة" على مستوى المعارف النظرية  لوحدها، وإنما اضاف إليها جمالياً على المستوى العملي داخل ميادينها. كان مشهوراً بإجادته اللعب والتمرير بكعب قدمه. وقد قال عنه الاسطورة "بيليه" ذات مرة، "إن سقراط يلعب بكعبه إلى الخلف بطريقة تفوق كثيرأ ممنْ يلعبون إلى الأمام وبمقدمة أقدامهم".
وفي حبه للبرازيل اراد ان يقول بان الاشياء تعمل في ترابط، وكان يسعي إلى ان يتم توظيف طاقات وإمكانيات المبدعين لاجل خدمة القضايا الإنسانية النبيلة المتمثلة في الحرية والديمقراطية والحق في حياةٍ أفضل. كان احب الابطال إليه هما، المناضل الثائر "تشي جيفارا"  والمغني "جون لينون".
حكى للكاتب البريطاني "اليكس بيلوس" أن من الاشياء العجيبة التي قابلها أنه لبى، في عام 1996م، دعوة من "معمر القذافي"، ديكتاتور ليبيا السابق. والذي عرض على "سقراط" بأن يقوم بترشيح نفسه لرئاسة البرازيل، وسوف يلتزم هو بتمويل كامل حملته الانتخابية. ولكن "دكتور سقراط" رفض عرض "الديكتاتور".
رحل المبدع الوطني واليساري المحبوب "دكتور سقراط" في يوم الاحد الرابع من ديسمبر 2011م، رحيلاً مفاجئاً. ولكنه على اية حال، كان اسعد حظاً، إن كان من الممكن ان يُقال ان في الموت حظٌ، إذ رحل وبلاده تنعم بنظامٍ ديمقراطي، وذلك بالقطع، افضل حالٍ من ظروفٍ إستشهد فيها آخرون كان ان سلكوا ذات الطريق، من أمثال  كابتن الفريق الوطني لايران، وعضو حزبها الشيوعي ـ حزب تودا ـ الذي أعدمه ملالي النظام الاسلامي القمعي في اوائل ثمانينيات القرن الماضي، إبان هجمتهم الدموية على الحركة الديمقراطية الايرانية. تلك الهجمة التي أعدموا خلالها الآلاف من المبدعين، من رياضيين وشعراء ومفكرين وعلماء إيرانيين.
قال الرئيس "لولا دا سيلفا"، الرئيس السابق للبرازيل، في رحيل "دكتور سقراط"، " إن المساهمات السخية التي قدمها سقراط لنادي كورينثيانز، وللعبة كرة القدم، وللمجتمع البرازيلي لا يمكن ان تنسى".
أما الرئيسة الحالية للبرازيل، السيدة "ديلما راوسيف" فقد قالت، "لقد فقدتْ البرازيل واحداً من أعزَّ أبنائها".
خاتمـــــــــــة/
رأي سوداني في حق "دكتور سقراط " أبلغ مما قال به "بيليه":ـ
في مباراة البرازيل الشهيرة ضد الاتحاد السوفيتي السابق في كأس العالم في عام 1982م، أدى "دكتور سقراط" واحدة من اجمل مبارياته، حيث انه احرز هدفاً، وتسبب في الهدف الثاني، والذي كان من اجمل اهداف المونديال، حيث مرر "باولو إيزيدور" في الجناح اليمين الكرة إلى  "دكتور سقراط" الذي لم يتردد في ان يدعها تمر من بين رجليه، وبدون ان يلتفت، إلى لاعب الوسط "أيدر"  الذي جاء مندفعاً ليعالجها بمهارة عالية وليحرز منها اجمل اهداف البطولة.
في اليوم التالي لتلك المباراة  وفي محل العمل سألت صديقي "طارق" عن رأيه فيما فعل "دكتور سقراط". فكان رده:
"والله دا كُبْرِي لو الواحد ركبوا ليهو مرايات بالجنبة ما يقدر يفتحو!!!."
شكراً لـلراحل "دكتور سقراط" على الامتاع. ولقد صدق نجم إيطاليا "باولو روسي"، الذي قال، " كان سقراط لاعب من زمن آخر"!!!.  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
(*) تمّ الإعتماد في كتابة هذا المقال على المصادر التالية:
(1)  Bellos, Alex “Futebol, Soccer, The Brazilian Way”.    
New Yok, USA,  2003                                                      
(2)   Galeano, Eduardo “Soccer in Sun and Shadow”.      
London, UK, 1998.                                                          
(3)       Foer, Franklin “How Soccer Explains The World”.
New York, USA, 2004.                                                   
(4)   موقع بلوومبييرغ.
(5)  الاسوشيتد برس، و
(6) موقع الاتحاد الفدرالي البرزيلي لكرة القدم.

 

آراء