مروي ذكريات ومذكرات (3/3)

 


 

 



شرفي - الكابلي -  وقيع الله

أحمد إبراهيم أبوشوك

تناولنا في حلقتين السابقتين مروي في مذكرات الإداري حسين محمد أحمد شرفي الذي عمل فيها مفتش مركز عام 1957م، وفي ذكريات الأستاذ عبد الكريم محمد الكابلي الذي شغل وظيفة كاتبٍ في محكمتها الجزئية في النصف الثاني من عقد الخمسينيات، ونختم هذه المنظومة الثلاثية بالوقوف عند بعض المشاهد والشواهد التي رواها الإداري بشير حسن وقيع الله، ونشرها مسلسلة في صحيفة الوطن. ويُعدُّ وقيع الله مخضرماً بين صاحبيه، لأنه عاش طرفاً من عمره الإداري في عصر مروي الزاهر إدارياً، وطرفاً آخر في بدايات عصرها الحالي المرتبط بمخرجات سد مروي، وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية في المنطقة.

مروي في ذكريات وحكايات إداري متقاعد
الإداري المتقاعد هو الأستاذ بشير حسن وقيع الله، من أبناء جلاس البار، دَرس الثانوية العليا بمدرسة مروي، وبعد تخرجه من كلية الآداب بجامعة الخرطوم في سبعينيات القرن العشرين، التحق بخدمة الحكومات المحلية، مساعد ضابط إداري بمجلس ريفي مروي إلى أن رُقي إلى درجة مساعد محافظ بالمديرية الشمالية، حيث كانت تُزين واجهة عربته الحكومية بشعار المديرية الشمالية، ذي النخلات الثلاث، باعتباره شارة من شارات السلطة في المديرية التي كانت تمتد من حجر العسل شمال الخرطوم حتى حلفا القديمة على حدود السودان الشمالية. ولذلك يُعد الضابط الإداري بالمعاش بشير حسن وقيع الله أطول الضباط الإداريين عمراً بمجلس ريفي مروي، فضلاً عن أنه نشر مذكراته وحكاياته عن العمل الإداري مسلسلة في صحيفة الوطن، وخصص جزءاً مقدراً منها لمنطقة مروي، التي يصفها قائلاً:

"من منا لم يسمع بمروى وتاريخها، فقد كانت مروي تمثل مَعْلَماً إدارياً، و مَعْلَماً تاريخياً، ومَعْلَماً جمالياً وثقافياً. ففي جانب الإدارة ظلت تمثل العاصمة الإدارية للمنطقة منذ فترة ما قبل الاستقلال، حيث اختارها جاكسون باشا لتكون مقراً للإدارة. ومنذ ذلك الوقت، وعلى طول العهود التي تعاقبت، تميزت بنوع من الإدارة أصبح مضرباً للأمثال، منذ أن كانت تُعرف "بمركز مروي"، ثم مجلس ريفي مروى، الممتد من الحدود مع ولاية نهر النيل حتى منطقة الباجا شمالاً، وقد كانت مقراً لمساعد المحافظ، ومفتش الحكومات المحلية، والضابط الإداري الأول لمجلس المنطقة... ويتبع ذلك تمركز الأجهزة الحكومية بها، وأجهزة الشرطة والقضاء، وعدد من منظمات المجتمع المدني، وقد وثق الكثيرون لتلك الفترات، من الذين عملوا بها من خلال مذكرات التسليم والتسلم، التي كانت سمة من سمات انضباط الخدمة المدنية. أما أنها معلمٌ تاريخيٌ، فإن الممالك التي نشأت بالمنطقة تمحورت حولها، ففي ضفتها الشرقية آثار بعانخي، وتهراقا، وجبل البركل، وآثار الكرو، وفي غربها آثار ترابيل نوري، والغزالي. إلى جانب ذلك متحفها الشهير، الذي كان معروفاً، ولكن بكل أسف تمَّ ترحيلُه إلى المتحف القومي بالخرطوم، ولست أدري كيف تمَّ ذلك، علماً بأن الآثار لا تكتسب أهمية إلا في تواجدها في أماكنها ومسرح أحداثها. أما كون مروى معلماً جمالياً وثقافياً، فلأنها تقع على شاطئ النيل الغربي، عند مصب خور أبودوم في النيل، وقد أفلح الذين أسسوها بغرس أشجار اللبخ على امتداد الشاطئ، مما أكسب المدينة مظهراً ظليلاً ورائعاً، يرتبط معها بالفنون والثقافة، حيث تباري الشعراء في وصفها، والتغني بها، فانشد الكابلي في الستينيات أوبريت مروى الرائع، الذي مطلعه "فيك يا مروى شفت كل جديد". لقد كان شاطئ مروي المرصوف كُورنيشه بالحجارة يضم منازل كبار الموظفين، وهي واسعة وظليلة، تضم في داخلها وحولها الحدائق المُنسقة، وأشجار الفاكهة المتنوعة، ولنا فيها ذكريات عندما سعدنا بالسكن فيها في تلك الفترات البعيدة. لقد كانت تمتد في ذلك الجانب من المدينة مساحات واسعة، تضُمُ مكاتب ومقرات الزراعة، والبساتين ... لقد شهدت مروي منذ العهد الإنجليزي تقاليد راسخة في الأداء في مختلف المناحي، وكانت مؤسساتها وسمعتها معروفة في كل مكان، فمن منا لا يذكر شرطة مروي، وهي تعطي لمركز مروي هيبته، ومستشفى مروي، وهو قبلة أهل المنطقة كلها في تلك الأيام، وبساتين مروي وفروعها في نوري والقرير، وحتى بنطون مروي كان له سمعته، ويحفظ الناس حتى أسماء (الرواويس) فيه، رحم الله من سلف منهم، وطول عمر الأحياء منهم. لقد انطبع في أذهاننا ونحن نعمل في الإدارة بمروي آنذاك أسماء البيوتات والقيادات والأفراد، منذ عهد المرحوم محمد عبيد، ومحمد عبد القادر، وحسن أحمد سعد، وآل العطا، وآل صادق، وآل الباهي، وأهل أبو دوم المجاورة بكل أفرعهم وكافة الحوشاب."  

هذه صورة ذهنية وتاريخية رسمها الأستاذ بشير حسين وقيع الله عن مروي، التي بدأ بها تاريخ حياته الإداري، ثم ينقلنا من هذه اللوحة الشاعرية عن مدينة مروي إلى إجراءات اختياره مساعد ضابط إداري بالحكومات المحلية في مطلع العقد السابع من القرن العشرين، ويردف ذلك بحديث شيق عن التدريب الذي تلقاه على يدي الباشكاتب المتمرس علي أحمد سعيد، قائلاً:

"عندما تم تخرجنا من جامعة الخرطوم تنافسنا مع المتقدمين لوظائف الضباط الإداريين المحدودة في ذلك الوقت منافسة حادة، باعتبار أنها كانت الوظيفة المرغوبة الأولى، فكان الضابط الإداري منذ بداية تعيينه تخصص له عربة، ويخصص له منزل حكومي، ويبدأ عمله بسلطات واسعة. وقد سعدتُ بأن تمَّ اختياري ضمن الذين وقع عليهم الاختيار بعد معاينات وفحوصات دقيقة في كل مجال، وامتحانات تحريرية، وشفهية. وقد تمَّ توزيعي إلى المديرية الشمالية، فقابلنا مدير المديرية آنذاك المرحوم حسين محمد أحمد شرفي، الذي زودنا بالنصائح. وتمَّ تقسيمي مساعد ضابط لمجلس ريفي مروي، وهناك قدمني الضابط الإداري الأول إلى باشكاتب المجلس؛ ليشرف على برنامج تدريبي العملي.
عند دخولي على الباشكاتب وجدت رجلاً يجلس بمكتبه فارع الطول، أسمر اللون، يرتدي جلابية، وعمامة بيضاء كبيرة، وإلى جانبه عصا غليظة، كانت لا تفارقه، وتزين وجهه شلوخ شايقية عريضة. ذلكم هو باشكاتب ريفي مروي الشهير في ذلك الوقت علي أحمد سعيد. وقد رحب بي، ووضع لي برنامج التدريب الأسبوعي بأقسام المجلس المختلفة: في المساحة، والحسابات، والأراضي، والشرطة، والصحة. على أن أقضي أسبوعاً بكل قسم، وقد تابع معي التدريب بدقة متناهية. إن مهنة الباشكاتب في ذلك الوقت كانت شاملة، فهي تشمل كل المهام الموزعة اليوم بين السكرتارية، والعلاقات العامة، والمكتب التنفيذي والمراسم. إن مهام كل هذه الجهات كان يقوم بها الباشكاتب، بالإضافة إلى استقباله المكاتبات الواردة، وفحصها، وتصدير الصادرة، واستلامها عرائض المواطنين وطلباتهم، ومتابعة الرد عليها. وقد كانت من أهم مهامه إعداد وصياغة القرارات، وتقديمها للمسئولين لاعتمادها، والتوقيع عليها. لقد كانت شخصية الباشكاتب في المجالس المحلية في تلك الآونة تمثل ركناً أساسياً في الأداء. والباشكاتب علي أحمد سعيد يعتبر من أشهر الباشكتبة في السودان، فهو قد التحق بالعمل منذ فجر الاستقلال، عندما كان المرحوم عبد الله إدريس (تنقاسي)، هو أول رئيس لمجلس ريفي مروي بعد الاستقلال، وقد تدرج علي أحمد سعيد في موقعه لعشرات السنين، وعاصر العشرات من الإداريين، والمحافظين، ومساعدي المحافظين، ومفتشي الحكومات المحلية، فكان في كل تلك الفترة يعمل بكفاءة عالية حتى أصبح موسوعة في معلومات المنطقة، وأصبح ملماً بكل قضاياها ومشاكلها، لقد كان كمبيوتراً بشرياً في وقت لم تعرف فيه أجهزة الكمبيوتر. فقد كنا نلجأ إليه في كل صغيرة وكبيرة، فيوفر لنا المعلومات الصحيحة الدقيقة، وهناك عدة مواقف تميز بها هذا الرجل، فعندما اجتاحت السيول مروي، وسقطت المكاتب، وإبتلَّت الملفات بالمياه، طمست العديد من القرارات الهامة في مجال فض النزاعات، ومشاكل الأراضي، والأمن وخلافها، وقد استعنا بعلي أحمد سعيد، ووجدناه يكاد يحفظ كل القرارات الصادرة في كل المجالات لعشرات السنين، فكان هو المرشد الوحيد الذي تم الاعتماد عليه في تبييض ما أتلفته السيول، قد شهدت اللجان وأطراف النزاعات بصحة كل ما ذكره. وقصة ثانية عنه. ففي عهد سلطة مايو زارنا بمروي الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم، نائب رئيس الجمهورية آنذاك، وقد كانت ثورة مايو في قمتها، وقد خاطب أحد الاجتماعات بأسلوب ساخن، متهماً القيادات بمروي بالتقصير، وذلك بعدم طوافهم المستمر عل المنطقة، وأشار بأنه (يلف) السودان كله كل أسبوع، وقد صمت الجميع خشية الاصطدام بالمتحدث، ولكن علي أحمد سعيد نهض مخاطباً نائب الرئيس بلهجة شبيهة بلهجته الحادة، موضحاً له بأنه يلف السودان بطائرة، وهم يتجولون (بالحمير)، واستنكر له مخاطبته القيادات بتلك اللهجة الحادة، فتخوف الجميع بأن مكروهاً سوف يلحق بالباشكاتب؛ لكن نائب الرئيس تراجع وقال: "أيوة نحنا عايزين ناس شجعان زي العم دا".

لعلنا نستقى من هذا النص ثلاث قضايا مهمة. أولها أن التعيين في وظائف الخدمة العامة كان يتمُّ وفق إجراءات إدارية مرعية وعادلة، يتبلور هدفها الرئيس في ترشيح مقدم الطلب المناسب للوظيفة المناسبة، بغض النظر عن انتمائه السياسي أو خلفيته القبلية، ولذلك حظيت مؤسسات الخدمة المدنية بكوكبة من الموظفين الأكفاء، الذين كان لهم دور رائد في دفع مسار العمل الإداري دون التحيز لجهة قطاعية، كما ذكر السيد حسين محمد أحمد شرفي أن طبيعة عملهم الإداري كانت تقضي أن يكون الإداري "على صلة وثيقة من الصداقة مع جميع الأحزاب، والطوائف، والهيئات، والجماعات"، وأن يعاملهم "إدارياً كإخوة مواطنين، سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين وطني اتحادي، وختمي؛ إلا بقدر ظروف الواقع والحق." ولكن للأسف أن هذه المعايير قد تجاهلتها بعض القوى السياسية الحاكمة التي آثرت الولاء السياسي على حساب المؤهلات والخبرة، وكانت النتيجة تدني أداء الخدمة المدنية العامة في معظم أرجاء السودان. وترتبط القضية الثانية بأهمية التدريب الإداري بالنسبة للضباط الإداريين؛ لأن الضابط الإداري كان عبارة عن ممثل للحكومة المركزية على المستوى المحلي، لذلك يجب أن يكون لديه إلمام واسع بإجراءات العملية الإدارية على المستويين الأفقي والرأسي. وتتجلى القضية الثانية في أهمية دور الباشكاتب المؤهل؛ لأنه يمثل القلب النابض للمجلس، فيما يختص بحفظ الخطاب الصادرة والواردة، وعرائض المواطنين وطلباتهم، والقرارات الصادرة بشأنها، وكيفية فتح الملفات الحكومية وإغلاقها، وإعداد الفهارس وتصنيف المحتويات. الآن أصبح جزءاً من هذه الإجراءات من نصيب السكرتيرة التي تجلس عند مدخل باب كل مسؤول كبير، وتقوم باستلام عرائض المواطنين، وتقديمها لاتخاذ القرارات المناسبة، وغير المناسبة بشأنها، دون أن يتم أي تصنيف أو ترتيب لتلك العرائض، كما أنَّ المسؤول نفسه يكتفي بالتعليق على ظاهر العريضة أو باطنها، ويعطيها لمقدمها، الذي يحملها من مكتب إلى مكتب آخر إلى أن يحصل على التصديق النهائي، وبذلك تفقد العريضة (الوثيقة الحكومية) صفتها المرجعية الآنية، وصفتها البحثية اللاحقة؛ لأنها لم تحفظ في أرشيف الدولة حسب إجراءات العمل الديواني. ولا جدال أن الالتفات لهذه المسألة أمر مهم، ويحتاج إلى تقويم ديواني يعيد الأمور إلى نصابها.   
وبعد تلك الصورة التاريخية المليئة بالدروس والعبر ينتقل الإداري بشير حسن وقيع الله إلى رسم صورة معاصرة لمروي ما بعد السد والشريان، والإشارة هنا إلى سد مروي، وطريق شريان الشمال الذي ربط الولاية الشمالية بالعاصمة القومية، وكلا المشروعين يُحسبان في قائمة إنجازات حكومة الإنقاذ. والصورة في مجملها تحدثنا عن الطفرة العمرانية التي شهدتها مروي، وانعكاسات ذلك على وضعها المحلي الموروث، وارتباطها المستقبلي بالحكومة المركزية بحكم وضعها المتميز من ناحية التطور العمراني الذي شهدته، ومن ناحية دورها في رفد معظم مدن السودانية بالطاقة الكهربائية. وتتجلى حيثيات إفادة الإداري المخضرم بشير حسن وقيع الله في النص الآتي:  

"ورغم أنني قد كنتُ أعملُ بمروى لفترة طويلة، ثم غادرتُها وعُدتُ إليها بعد طول غياب، وبرغم كل تلك المدة التي قضيتُها بها فقد ضاعت مني المعالم، وأنا في زيارتها مما اضطرني للاستعانة بخبير يوصلني من موقع إلى آخر. إنه تطور مُتسارع، يفوق كل تصور، ويشيرُ إلى أننا موعودون بمدينة رئيسة كبرى جديدة من مُدُن السودان، برفقة شقيقتها ورفيقتها مدينة كريمة. وخاصةً بعد قيام "مروى لاند "التي أرى أن تصبح مقراً للمؤتمرات العالمية والإقليمية، تماماً كما يتمُ في دول كثيرة. إنَّ الكثير من عواصم العالم تقيم مؤتمراتها في مثل هذه المنتجعات، فمصر تعقدها بشرم الشيخ، وليس القاهرة، وكينيا بنيفاشا، وليس بنيروبي، وليبيا بمدينة سرت، وليس بطرابلس. لذلك فلتكن مروي هي المقر البديل للعاصمة في عقد المؤتمرات العالمية، ومنها تصدر الاتفاقيات، لتسمى اتفاقيات مروي ... لقد عدتُ من مروي وفي ذهني تصور لهذه المدينة الجديدة الضاربة جذورها في التاريخ. وقد افتتحتُ مشروع مروي لاند، الذي لم تنبرِ جهة محدودة بتبنيه، ويبدو في ذلك غاية التواضع ونكران الذات، فهل هو من إنتاج معتمدها السابق الأخ جعفر، أم معتمدها الحالي الهمام (بندق)، أم هو ثمرة من ثمرات سد مروي والمشاريع المصاحبة له. على أي حال فلتهنأ مروي، وهي تمثل قلب مناطق الأهل بهذا المشروع الفريد، والدعوة لأبناء المنطقة بالخرطوم بأن لا يعودوا من زيارتهم لمناطقهم قبل أن يشاهدوا منتجع مروي لاند، وأنا على يقين بأن صور حدائق ومنتجعات العاصمة سوف تُمسح من أذهانهم."

خاتمة
بهذا العرض نصل إلى أنَّ قيام مجالس الحكم الشعبي المحلي في مروي، وكريمة، والدبة، وبعدها المحليات في ظل نظام الحكم الفيدرالي قد قَصَّرَ الظل الإداري والخدمي من المنطقة، وجعل بريق مروي ولمعانها السابق يخفت رويداً رويداً، ولكن ظل منظرها الفاتن على شاطئ النيل باقياً راسخاً في الأذهان، كما وصفه الأديب الشاعر محمد المكي إبراهيم، الذي زارها في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وقال عنها:

"لوحة متناسقة من الأحمر، والأخضر، والأزرق النيلي، مهرجان من اللون فرحان، وأمام هذا المنظر لا يبقى لديك وقت للتصديق، كنا نتوقع الكثير من مروي، ولم نجد شيئاً، لا شيء سوى النيل، والنيل في مروي كريم وجميل. الشاطئ أخضر، وعلى حافتيه تمتد جزائر من النخيل الأخضر، يمكنك أن تستلقي عليه واضعاً أقدامك على الرمل، ليغمرها الماء عند المد، ويمكنك أن تجلس لساعات على الشاطئ دون أن تحس بحرارة الشمس من فرط طراوة النسيم، ولكن لا تأمل بأكثر من هذا ... علاقات الموظفين بمروي، يبدو أن شيئاً ما في جو المدينة يساعد الناس على أن يكونوا أكثر صفاءً، وطيبةً، وإنسانيةً، أينما ذهبنا كان اللطف يحيط بنا، الدعوات، والرحلات، والتلطف، والذوق، واهتمام الإنسان بالإنسان. وفي مروي لا توجد فوارق الاسكيلات، الناس يعرفون بعضاً، ويجالسون بعضاً، دونما اهتمام بالدرجات والترقيات، ليس هذا مقصور على العلاقات الاجتماعية، ولكنه ينعكس حتى على علاقات العمل، كل المصالح تعمل بانسجام، وبلا مشاكل. مروي أحد الأماكن القليلة التي تنجح فيها تجربة إنسانية عميقة، وأساسية، تجربة الحياة مع بعض، رغم جفاف الحياة، وقلة معطياتها، تجربة التكاتف في وجه الفراغ، والجدب، والمحل."

نقول للشاعر ود المكي أنَّ مروي اليوم لا تُشبه مروي الأمس في عهدها الإداري الزاهر؛ لأن فلك الحياة فيها أضحى يدور حول سد مروي، ومنجزاته المادية، وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية على التركيبة الديمغرافية في المدينة والمنطقة وما حولها، ولذلك تبدلَّت علاقات الناس الاجتماعية ذات السحنة الريفية، وأصابها شيء من ترف الحضر، وارتخاء وشائج القربى، كما يقول العلامة ابن خلدون. فإذا سألت عن سد مروي، فهو أضخم مشروع للاستفادة من الطاقة الكهرومائية في إفريقيا، إذ يبلغ طوله 9.2 كيلومتراً، وارتفاعه 67 متراً، بسعة تخزينية قدرها عشرة ملايين متر مكعب من المياه، وتمتد خلفه بحيرة صناعية طولها 176 كيلومتر، ومساحة سطحها 800 كيلومتراً مربعاً. وحسب التقارير الرسمية فإن السد يسهم في توليد طاقة كهربائية بقوة 1,250 ميغاواط، ويتوقع أن يروي 300,000 هكتار من المشاريع الزراعية في الولاية الشمالية، فضلاً أنه يوفر الحماية اللازمة للمناطق الواقعة شماله من خطر فيضان النيل. وصحب إنشاء السد تنفيذ العديد من المشاريع العمرانية في مدينة مروي، مثل الطرق المسفلتة، والجسور، وخط للسكة الحديد يصل بين السد والكاسنجر، ومدينة سكنية على طراز حديث؛ لإقامة العاملين؛ وفوق هذا وذاك سلسلة من المنشآت الخدمية والترفيهية. ولكن إلى جانب إشراقات سد مروي وإسهاماته المقدرة في تنمية المنطقة، توجد هناك بعض الآثار البيئية والاجتماعية المترتبة على تنفيذ المشروع، ونذكر في مقدمتها مشكلة تهجير أهالي أمري والمناصير الذين غمرت مياه السد أراضيهم، فمشكلة المناصير لا تزال قائمة، وتحتاج إلى حلٍّ جذري من قبل الحكومة الفدرالية وإدارة السد، وأيضاً قضية الآثار البيئية على المشاريع الزراعية، وكيفية ريها بطريقة منتظمة، علماً بأن نهر النيل قد انحسر انحساراً ملحوظاً في المناطق الواقعة شمال السَّد، ويضاف إلى ذلك قضية نزع أراضي الولاية الشمالية الحكومية، وضمها إلى إدارة السَّد. لكن إذا تركنا هذه التحديات جانباً، ونظرنا إلى مروي في ضوء الإيجابيات التي أشرنا إليها أعلاها، نلحظ أنها قد عادت إلى الواجهة مرة أخرى، ولكنها في ثوب تنموي واستثماري، يرتبط بإنتاج الطاقة الكهربائية؛ لمقابلة الطلب المتزايد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولتحسين واقع الزراعة المروية في السودان،  ورفع المستوى المعيشي للفرد والمجموعة بخلق استثمارات وفرص عمل جديدة لسكان المنطقة.

•    نقلاً عن صحيفة الأحداث
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء