كباشي عبد الرحمن الوسيلة ” المَّكْ ”

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com


كباشي عبد الرحمن الوسيلة " المَّكْ "

صُدفة مُصَابحَة  شوفْتَك تَجيبَ الفَكْرَة
رِيحةْ الزّمَن القَديم ،"كوكَابتو" سِتَ النَفْرَة
سِيرتَكْ يا العَظيم جَالِس بَرَاكْ في الحَكْرَة
البِحَسِبْ جَمايلَكْ ، يستَنى يوم الحَشْرَة
(1)
سيدي ، متّعكْ المولى بالصحة و العافية وأمان الزمن ونداوة العزوَّة يا "دُخري" العشيرة  . فقد كنتَ ولما تزل تُطيِّب الأحْزان وتُمسِك ألجِمة الأفراح  أن تجفل أفراسها ، فلا تطيع إلا أمركَ برخاء يَدك الخضراء  التي تبذل . وصباح بسمَكَ الذي يُشمِس ليل الفقراء والطيبين ، أكبر من صباحات الأماني وأضخم من السحاب الذي يحجب وهج الشمس  العنيد في بيئة حماها المولى بشمس حلَّتْ مكان الطبيب  . تعلمتَ  سيدي ألا تفرح إلا في زحام عامة الناس حين يستبشرهم السَّعد وأنت بينَهُم ،ترمي بسهمك ناصعاً بالخير . لا تسكن روحك إلا في صُحبة الأضياف حين يجتمعون  عندكَ . وفي مجلسك  تتجمّع الولائم  وتعْظُم الذبائح ، ثم  الطعام  متنوع أشكاله وأنواعه وألوانه. على آنية لا تشبه آنية البيوت :    " قُدَاحة خليفة المهدي "  كما يقول أهلنا ، تشبعُ الأعيُن قبل البطون . وزاد أضيافك  الذي يفترش السِماط يكفي أضعاف أعدادهم .لا يأتون إلا حِزماً يملئون الدار ، فيفيض الخير على الجيران .
جئت سيدي من زمن لا تنفع معه مقاييس العصر أو انضباط العيش  أو إدارة الوقت. جئت من زمنٍ يقيسون فيه المواعيد بمقاييس أهل الزراعة و الراكضين خلف النشوق  .
لك طول العًمر ،
يا سيداً  قدِم علينا بفحولة أهل التاريخ القديم في الكرم . من جينة أهْلك  مُكوك " الفتيحاب " و" أب سِعد " . وحين تناسلت العشيرة ، ضربت الجينات أخماساً في أسداس، حيرى ماذا تفعل معكْ ؟. فخرجتَ أنتَ من مقاييس الراهب النمساوي  "جريجور مندل  " ، وجئت إلينا  طفلاً أواخر الأربعينات من القرن الماضي ،في زمان ليس بزمانك. جاءت طفولتك لا تشبه منْ حولِك من الأقران . أخذتَ  بعض ملمَحَكَ من أبيك " المَّكْ عبد الرحمن الوسيلة ". فمشيت تتبعْ  أثر الحافر ، لكن سهمك مفرود القوس ، مُزخرف الحواشي يُباهي غيره. لا تًشابه قوسكَ أقواس الفرسان ، فحين يَتَمطى يُخيفُ الريح وسطوة العواصف .
يقولون أندى ما في التاريخ الاجتماعي عندنا،هي"سيرة الكرم والبطولة " .فكنت أنت سيدها وفارس حوبتها . كأن الأرياف قد مَضَغْتَ نباتها وعشتَ وَداعة مزارع  النيل الأبيض عند ضاحية  الفتيحاب . لم تُغنيك الوظيفة الحكومية فنبذتها، فشرعها ذلّة الحضور والتمام والانتصاب أمام الرؤساء ومحاكاة لبس الفرنجة . فأنت منذ جئت تضبُط زمانك ضائقة الفقراء  وتوقهم للفرح ، فأنت فرّاج كُربتهم وحادي درب مسعاهم. لذا كان لك أن تلبس لباس فلاحي جُزر " السروراب " حيث مزارعكم ، وانتعلتَ نِعالهم وتحدثتَ بحديثهم ، فاستعادت روحك المُحلقة في التاريخ  ألقها . وامتلأ صدرك بريح رطبة برطوبة الزرع  حين تهلّ بَشائره .
(2)
عشيرة سيدنا  تسكُن فريق " الشَّياخة " ،في  حي" أبو كدوك" بأم درمان ، وهو الفرع الذي انحدر من " الفتيحاب " . وحين أخرج المستعمر بعض أهلها الذين كانوا في موقع تمّ اختياره لكوبري أم درمان القديم ليصبح معسكراً لجيش المستعمر" مكان السلاح الطبي حالياً " ، خرجتْ العشائر عام 1913 إلى أرض فضاء  شمال المنطقة . أرضٌ غطتها الأعشاب وشجر السدر والحنَّة ، فنشأت أحياء " الرُجال بانت " و " أبو كدوك ". وكان أول الساكنين  ابن " أبوكدوك " صاحب راية المهدية ، فسُمي الحي باسمه " أبو كدوك " الذي تحده شمالاً " خور حمدان أبو عنجة " وجنوباً  " بانت غرب" وشرقاً " حي الضباط ". وبعد "ابن أبوكدوك "  تجاسر القادمون وعمروا الأرض.
كانت " الشيَّاخة " مسكن سيدنا الأول ففيه البيت الكبير. وتوسعت الأسرة من  بعد الابن والبنات والحفدة ،فغادر إلى أم درمان الجديدة " أمبدة " لمسكن أرحب ، فيه سعة  .
تلاقت الأسرة الكبيرة بيننا  بزواج  جدنا الأكبر" إبراهيم التِميم " بجدته " بنت المك " ، وتربى الأعمام في بيتها، ولم يحفظ المولى لنا ذرية تَمد جسر الوشائج . وبقيت الجيرة كعُشرة الدّم . لكن صداقتنا  نبعت بثقل شخصيته الآسرة  ، ولم يكن فارق السن بيننا كبيراً حين التقت أهواؤنا ، فأخذت عنه  ميِّزات ، يتحلل فيها المرء من ربقة حُب الذات،فتجد روحك مسكنها وأنت وسط الجماعة .
(3)
كان  ولم يزل " كباشي " حفياً بأهازيج العشيرة كأنه قد وُلد أيام الممالك القديمة . للعمّ والجدّة وابنة العمّ شأن في نفسه غير الذي اعتدنا . له أمثال ضاربة في القدم ، من أمثالها :" كان فاتَتَكْ بتْ عَمَكْ أُخُد بِتها". كان في ذاكرته شبق ميراث العشيرة في تكوينها القديم . كأنه سيف استله التاريخ من غِمده في مُتحف الحياة الاجتماعية ، ونهض بيننا لحماً ودماً. أخذ أجمل ما في تاريخ العشائر من طيبة النفس وأريحية المسلك والتواضُع . عجم الماضي سنانه وخضّبَ مشاعره المجدولة بمحبة الناس .
قد جاء يوم شُكركْ  يا بهي الطَّلعْ، في موعدٍ غير الذي يتحسب له الناس . دُمْ سيدي بألف صحة وعافية ، ونسأل  المولى أن يهبكَ من الرزق بطول قامة أحلامك ،و أن تصبح ميسوراً رغم ضائقة البلد ،لتُعطِّر أحلام الفقراء بالمِسك ، وتٌثقل العرائس بجدائل الهدايا . وتظل كما عودتنا في الأفراح وفي  الأتراح " مُتلزماً مُتحزماً " و " سيد القوم ".
عبد الله الشقليني
12-5-2012
\\\\\\\\\\\\\\\\\

 

آراء