القرار 2046 والحكومة السودانية (1) … بقلم: أم سلمة الصادق

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

(حفر يديك وغرق ليك)!
منذ حادثة تدخل الناتو  في كوسفو 1999 ومنذ اصدار الأمم المتحدة لقانون مسئولية الحماية    (R2P) في 2005 صار هناك مفهوم عالمي جديد للسيادة  يقرر أن حق الحماية الانسانية حق  مقدم على حق السيادة الوطنية  وصار المجتمع الدولي لا يسمح لدولة بشن حرب ضد شعبها بحجة أن ذلك شأن داخلي - زجرها عنه يجرح خاطر سيادتها الوطنية .(ولعل هذا الموقف-في كوسفو  هو أوضح تعبير على صعود أهمية قوانين حقوق الإنسان مقابل المبادئ الراسخة لسيادة الدول وحقها في صيانة وحدتها الترابية) مثلما كتب د.عادل الصفتي على الشبكة العنكبوتية تحت عنوان استقلال كوسفو وازدواجية النظام الدولي.
ومع أن مثل تلك التدخلات تحدث بازدواجية في المعايير (اعتداء غزة مثالا) وقد تفتح الباب واسعا من قبل دول الهيمنة  لفرض مصالحها  عن طريق تلك التدخلات الانسانية على حساب السيادة  لكن في ظل ما يمكن أن يحدث من قبل دولة تجاه شعبها من ظلم وانتهاكات،  يكون  تدخل المجتمع الدولي ضروريا. كما يمكن للدول حماية سيادتها ومصالحها عبر وحدتها وتماسكها الداخلي  واتباع الديمقراطية والحكم الراشد في نظامها السياسي وتقوية اقتصادها ونسيجها الداخلي  بما يقلل من ذرائع التدخل ضدها و يسد منافذه ليحصره  في أدنى حدوده . فإن أرادت دولة ما التغول على دولة ذات سيادة تلتزم المواصفات الآنفة الذكر  تجد الباب أمامها  محكم الإغلاق  بمثل ذلك  التماسك القوي  والحكم الرشيد ومثلما قال الشاعر الملهم  نزار قباني قديما :(لم يدخل اليهود من حدودنا وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا).
بالنسبة لازدواجية المعايير في النظام الدولي هي ثغرة معيبة يجب ويمكن  اصلاحها بالعمل الدؤوب من داخل المنظمة الدولية لكشفها والطعن فيها بكل السبل المشروعة المتاحة وهذا ليس بمستحيل لأننا نعرف أن القانون الدولي مع ظلمه  لكنه متطور باتجاه حقوق الانسان وقد يأتي اليوم الذي يكون فيه عدله شاملا إن حرصنا على بلوغ مساعينا مراميها.
أما ما نحن بصدد مناقشته اليوم  بخصوص القرار الدولي  2046 الصادر من مجلس الأمن بشأن الحالة في دولتي السودان وجنوب السودان فهو منذ 9 يوليو 2011  (تاريخ انفصال الجنوب عن السودان) مما  يقع تحت تصنيف العلاقات بين الدول ذات السيادة والتي تحث جميع المواثيق الدولية والاقليمية على احترامها والحث على اتسامها بعدم العدوان والتعاون المثمر .
نحن نعرف أن السودانين ورثا  تركة مثقلة من مرارات حرب تطاولت منذ عشية الاستقلال في 1956  لكنها في ظل نظام يونيو  الحالي اتخذت أبعادا دينية بشن الحرب على الجنوب على أساس الجهاد مما عقدها ودفع الحركة الشعبية التي مثلت الطرف الجنوبي  فيها  الى المطالبة لأول مرة بالانفصال في 1993 .وفي 2005 تحت ضغوط عالمية مكثفة أجبر نظام المؤتمر الوطني في الخرطوم والحركة الشعبية في الجنوب على توقيع اتفاقية نيفاشا، الاتفاقية التي أفلحت في وقف الحرب في حينها لكنها لم تبت في مسائل كثيرة ظلت  معلقة والخلاف حولها  أكسب  العلاقات  بين الدولتين  عدائيات   تصاعدت  وتيرتها  الى حرب تنذر بالتوسع والشمولية وبجر كل المنطقة الى دائرتها مما فيه تهديد للأمن والسلم الدوليين وهي  الخلفية  التي أوجبت تدخل الأمم المتحدة للسيطرة على الموقف المتفجر  ووقف الحرب .
الجدير بالذكر أن حكومة السودان في 24 ابريل 2012 تقدمت الى مجلس الأمن بالشكوى ضد حكومة جنوب السودان على خلفية احتلالها لهجليج في العاشر من ابريل 2012  الاحتلال الذي وجد إدانة دولية وإقليمية ومحلية لأول مرة لصالح حكومة السودان منذ مدة طويلة خلال علاقتها المتردية مع المجتمع الدولي بسبب عدوانها على شعبها في دارفور وتدخلاتها السافرة في دول الجوار (مثل تشاد ومصر).
لكن مجلس الأمن نظر الى علاقة السودان وجنوب السودان بمنظار أشمل من الاعتداء على هجليج واحتلالها وفي  جلسته رقم  ٦٧٦٤ ، المعقودة في ٢ /مايو ٢٠١٢  اتخذ  القرار 2046 بشأن الحالة في دولتي السودان وجنوب السودان .
للتعليق على حيثيات القرار وموقف الدولتين منه  وعرضه على المشاريع الوطنية السودانية مثل مشروع الخلاص الوطني المقدم من حزب الأمة وبسط الجدل حول القرار قبولا ورفضا يلزمنا أولا تلخيص موجز (غير مخل ) لما ورد في القرار 2046.
ملخص الديباجة والقرارات:
أشارت الديباجة الى قرارات  وبيانات سابقة بشأن الوضع في السودان وجنوب السودان لاستصحابها  كما عبرت  عن الأولوية في احراز تقدم كامل وعاجل في المسائل العالقة وفقا لاتفاقية السلام الشامل ،التأكيد على سيادة البلدين واستقلالهما ووحدة أراضيهما وفقا لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها من(عدم تغيير الحدود بالقوة،التسوية السلمية ،حسن الجوار ،الازدهار الاقتصادي والتعاون الاقليمي)،ادانة أحداث العنف المتكررة في جانبي الحدود بما فيها احتلال هجليج والقصف الجوي ،القلق من الحالة الانسانية المتردية وانتهاكات حقوق الانسان، الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية خاصة بالنسبة  للمنشآت النفطية والحالة  الاقتصادية المترتبة ،وجوب تقصي الحقائق وتقييم الخسائر من قبل جهة محايدة ،القلق على رعايا الدولتين ، التأكيد على منطقة حدودية منزوعة السلاح –كما نص اتفاق 30 يوليو 2011- بشأن تسمية بعثة دعم الحدود، والتأكيد على أن النزاع في النيل الأزرق وجنوب كردفان لا يمكن حله الا بالطرق السلمية ،حماية المدنيين في النزاعات المسلحة وحماية موظفي الأمم المتحدة وفقا للقرارات الصادرة بالخصوص،الترحيب بجهود الاتحاد الأفريقي الرامية لحل النزاع ،التأييد  الكامل لقرار مجلس الأمن التابع للاتحاد الأفريقي في 24 ابريل 2012 لتهدئة الأحوال في فترة ما بعد الانفصال والتطبيع بين البلدين،اعتبار الحالة الراهنة مهددة للأمن والسلم الدوليين ،مما يوجب التصرف بموجب الفصل السابع لتنفيذ القرارات الآتية(10 قرارات مفصلة):
1-    يقرر الاجراءات الآتية:
-    وقف العدائيات في غضون 48 ساعة.
-    الانسحاب غير المشروط على جانبي حدود الدولتين.
-    تفعيل آليات أمن الحدود خلال اسبوع.
-    التوقف عن ايواء متمردين في الدولتين.
-    تفعيل اللجنة المخصصة لتلقي شكاوى انتهاكات الدولتين.
-    وقف الأعمال الدعائية والتحريضية.
-    تنفيذ الاتفاق المبرم في 20 يونيو 2011 بشأن الادارة المؤقتة في ابيي واعادة  انتشار القوات من قبل الدولتين في غضون فترة لا تتجاوز الاسبوعين.
2-    العودة للمفاوضات بلا شروط في:
-    النفط
-    رعايا البلدين
-    تسوية المناطق الحدودية
-    الوضع النهائي لأبيي.
3-    التعاون الكامل مع الاتحاد الافريقي ورئيس الهيئة الدولية المعنية بالتنمية على أساس الاتفاق الاطاري في 28 يونيو 2011  بشأن الشراكة السياسية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية –قطاع الشمال والترتيبات الأمنية بولاية النيل الأزرق وجنوب كردفان.
4-    حث الطرفين(حكومة السودان والحركة الشعبية) على قبول الاقتراح الثلاثي من الاتحاد الأفريقي الأمم المتحدة والجامعة العربية بإتاحة ايصال المساعدات الانسانية .
5-    اختتام المفاوضات المشار اليها في الفقرة 2 في غضون ثلاثة أشهر من اتخاذ القرار وفي حالة الفشل في ذلك الطلب من الأمين العام بالتشاور مع فريق الاتحاد الأفريقي ورئيس الهيئة الحكومية المعنية بالتنمية ورئيس مفوضية الاتخاد الأفريقي بابلاغ مجلس الأمن في غضون 4 شهور من تاريخ صدور هذا القرار عن حالة المفاوضات بما في ذلك مقترحات مفصلة عن المسائل التي لم يتم البت فيها .
6-    الطلب الى الأمين العام بالتشاور مع الاتحاد الافريقي لمراقبة تنفيذ الاتفاق ومتابعته في غضون اسبوعين ثم مرة كل اسبوعين بعد ذلك عن حالة المفاوضات واتخاذ تدابير اضافية بموجب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة حسب الاقتضاء.
7-    على جميع الأطراف تعزيز حماية وحقوق الانسان والمساءلة عن الانتهاكات بما فيها الاغتصاب.
8-    الاشادة بقوات الأمم المتحدة المؤقتة لابيي وما تبذله.
9-    أهمية وضرورة إعادة بناء سلام شامل وعادل ودائم بين البلدين.
10-    ابقاء تلك المسألة قيد النظر.

نبدأ دراستنا للقرار 2046 بمقارنته بنص المشروع الأمريكي الذي قدمته لمجلس الأمن مندوبة الولايات المتحدة السيدة  سوزان رايس في 26 ابريل 2012 والمشروع الأمريكي يستند على ما ورد في البيان الختامي لمجلس السلم والأمن الافريقي في 24 ابريل .
المقارنة بين النصين تكشف عن  فروقات طفيفة لكنها واضحة : من تلك الفروقات أن القرار 2046 تضمن في ديباجته ادانته لاحتلال هجليج (حكومة جنوب السودان)وللقصف الجوي(حكومة السودان) بينما اقتصر المشروع الأمريكي على ادانة القصف الجوي والترحيب بقرار الانسحاب من هجليج .
تحدث المشروع الأمريكي بعمومية عن تدمير البنية التحتية الاقتصادية وتحدث قرار مجلس الأمن بتحديد واضح عن الأضرار التي لحقت بالمنشآت النفطية في هجليج .
سكت المشروع الأمريكي عن أي تحقيق بخصوص هجليج وغيرها وكذلك عن تقييم الخسائر فيها بينما ذكر القرار 2046 وحوب التحقيق وتقييم الخسائر.
وتوجد أيضا فروقات في نصوص القرارات:
في الفقرة الثانية من البند الأول  يذكر مشروع القرار الأمريكي سحب جميع القوات المسلحة الى حدودها الداخلية بعمومية بينما يذكر القرار 2046 في نفس المكان( قواتهما المسلحة )-أي بالاشارة للدولتين.
في البند الرابع  يذكر المشروع الأمريكي (أن يقبل السودان بالمقترح الثلاثي) بينما في القرار 2046 الصادر من مجلس الأمن (يحث الطرفين-حكومة السودان والحركة الشعبية لقبول المقترح الثلاثي)بالاضافة لتفصيل أكثر في هذا البند  بخصوص حماية الموظفين الأممين الشيء الذي غاب عن مقترح قرارات  المشروع الأمريكي مع وروده في الديباجة.
البند السادس  في القرار 2046 تم دمجه مع البند تسعة  في المشروع الامريكي بخصوص اتخاذ مزيد من الاجراءات بموجب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة.
كما تم التفصيل في القرار عن مراقبة التنفيذ وتقديم تقرير عنها لمجلس الأمن بعد 15 يوم ، وتكون المتابعة مرة كل 15 يوم.
وبسبب هذا الدمج كانت بنود القرار الصادر من مجلس الأمن 10 فقط بينما المشروع الأمريكي زادت بنوده ليكون  عددها 11.
لا شك أن هذا القرار أملته الضرورة التي قررتها الحالة الأمنية المتردية بين الدولتين المتجاورتين ونذر تحولها الى حرب شاملة ،لكن  مثل هذه القرارات الأممية المتخذة ضد دولة ما  بموجب الفصل السابع والدالة على هوان تلك الدولة على المجتمع الدولي لا تصدر دون أسباب ملحة تفضي اليها حتما :فالعالم لم يشهد دولة تعمل وفقا للمفاهيم الدولية المتوافق عليها من احترام لحدود الدول الأخرى وللمواثيق الدولية  خارجيا والتعامل الرشيد مع شعبها داخليا ومع ذلك صدرت ضدها القرارات الأممية بموجب الفصل السابع .ونحن في السودان كذلك لم نعرف مثل تلك القرارات في السابق حينما كان على سدة حكم السودان عقلاء يديرون شأنه وفقا للمعايير الدولية المحترمة  ولم يعرف السودان مثل هذه القرارات التي يشكل مجرد صدورها ضد الدولة المعنية عار في الجبين ونقطة سوداء في مسيرتنا الوطنية  الا في هذا الزمن الأغبر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل و تقدمنا فيه المتأخرون!فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .
في الاسبوع المقبل بإذن الله نبحر معا في عباب القرار 2046 نقتله بحثا ويقتلنا كمدا.
وسلمتم



umsalama alsadig [umsalsadig@yahoo.com]

 

آراء