السُّلطة والتُراث وأخلاقيات المُثقف السُّوداني

 


 

 





يعالج هذا المقال العلاقة الجدلية بين السُّلطة والتُراث وأخلاقيات المثقف السُّوداني، علماً بأن السُّلطة في مفهومها العام تتشكل من وجهين، أحدهما رسمي يرتبط بالمؤسسات والأجهزة الحكومية التي أُنشئت بموجب إجراءات قانونية، منحتها سلطة جبرية في تنفيذ الأعمال المناطة بإنجازها، أو المكلفة بالأشراف عليها؛ وذلك بخلاف السُّلطة الشعبية التي تُعرف بالنفوذ، وتستمد قوتها من القيم المحلية، أو الدينية التي يستند صاحب السُّلطة إليها في بسط نفوذه على الآخرين. وفي المقابل يعني مصطلح التُراث موروثات الأسلاف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تنتقل عن طريق الممارسة والإقتداء من جيل إلى جيل، وذلك في شكل أنساق شعرية، أو قصصية، أو أمثال، أو حكم متداولة، أو تقاليد وأعراف متعارف عليها، أو سلوك عام متجذر في قيم الحياة الإنسانية المعيشة.
ولذلك نرى أن العلاقة بين السُّلطة والتُراث في السُّودان علاقة تلازمية؛ لأن القيم التُراثية تسهم بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة في صياغة أنماط الممارسة السلطوية، ويظهر ذلك جلياً عندما نربط تلك الممارسة السلطوية ببعض القيم الحداثية، مثل الديمقراطية، والحقوق السياسية، وأدب الاستقالة عندما يفشل صاحب السُّلطة في تنفيذ المهام السياسية والإدارية الموكلة إليه. والشاهد في ذلك أن معظم المثقفين السُّودانيين يتحدثون دوماً عن التحول الديمقراطي، وضرورة تفعيل الممارسة الديمقراطية، ولكنهم عندما يخلون إلى كينوناتهم الحزبية يلزمون الصمت، أو الـتأييد الخجول لبعض الممارسات الحزبية التي تنافي قيم الديمقراطية الحقة. ومن أصدق الممارسات السياسية التي تؤكد ذلك أن رئاسة الأحزاب السياسية في السُّودان ليس قابلة للتداول، أو تجديد الدماء، إلا بفعل الموت، أو الانشقاقات السياسية. ولا عجب أنَّ هذه الظاهرة تدل على تأثر الحراك السياسي في السُّودان بالموروثات القبلية والدينية، التي تتحاشى الحديث في مثل هذه القضايا، فبعض الأحزاب السياسية تعتبرها من المحظورات، وبعضها الآخر يحاول أن يجد لها مبررات في إطار ديمقراطي غير مقنع، أي بمعنى أن يظلَّ رئيس الحزب في منصبه ثابتاً ما دام يحظى بتأييد الأغلبية الميكانيكية له، أيَّاً كان عطاؤه ومؤهلاته السياسية، وبذلك يكتسب شاغل المنصب قدسية، تجعله أرفع من المحاسبة، أو المنافسة، أو الاعتزال. وعند هذا المنعطف تختلف ممارسة الديمقراطية عند أهل السُّودان، قياساً بالبلدان التي تؤمن بأهمية التداول الديمقراطي، وضرورة تجديد الأفكار والعطاء لضمان استمرارية المؤسسات السيادية أو الحزبية، ومن هنا نبعت فكرة تحديد القيد الزمني بالنسبة للمناصب السيادية العليا (رئاسة الجمهورية مثلاً)، ورئاسة الأحزاب السياسية، بدورتين متتاليتين فقط، حتى لو كان عطاء شاغل الوظيفة عطاءً متميزاً.      
أما أدب الاستقالة فلم يكن موجوداً في قاموس التُراث السُّوداني؛ لأن بقاء شاغلي المناصب السيادية أو الوظيفية في مناصبهم مرهون بدرجة علاقتهم الشخصية مع صاحب القرار الأعلى، وبذلك تضحى تلك العلاقة الشخصية أرفع مقاماً من سيادة القانون في بلد تنظر إلى قضايا المال العام باعتبارها قضايا "ميرية" سائبة، واختلاس المال العام حسب موروثها المحلي ليس من الجرائم الكبرى التي يجب أن يعاقب عليها القانون، بل إن بعض القيم التُراثية تصف المختلس "بالشاطر"، وتحث المواطن العادي على الاعتداء على المال العام، وذلك بقولها: "إن فاتك الميري أتمرق في ترابه". ولذلك نلحظ أن الشارع السُّوداني يتعامل مع قضايا الاعتداء على المال العام باستخفاف عجيب، حتى لو حدث ذلك داخل الوزارات التي تدعي العصمة الإسلامية لنفسها. وأصدق شاهد على ذلك تقرير اختلاسات وزارة الإرشاد والأوقاف الذي عرضه الوزير خليل عبد الله أمام المجلس الوطني، أعلى هيئة تشريعية ورقابية في الدولة؛ إلا أن ثقافة "خلوها مستورة" كانت سائدة في ذلك المحفل المحاسبي بالرغم من تناقضها الصريح مع قوله رسول صلى الله عليه وسلم: "لو سرقت فاطمة بنت محمد؛ لقطع محمد يدها". والمحزن في الأمر أن نموذج وزارة الإرشاد والأوقاف يُعدُّ واحداً من النماذج التي نُشرت في الصحف السيارة بشأن شاغلي بعض المناصب التنفيذية، وكان من المفترض أن تفضي تلك الاتهامات إلى استقالتهم، أو إقالتهم حفاظاً على حرمة المال العام، ليخضعوا للمحاسبة القانونية.
ويرتبط البُعد الثالث بمفهوم "الرجالة" في صناعة القرار السياسية، وتنوير الشارع العام بشأن التحديات التي تواجه دولة السُّودان. وقد استخدم الدكتور الطيب زين العابدين هذا المفهوم في تحليل ردّ فعل الحكومة السُّودانية على اعتداء حكومة جنوب السُّودان على منطقة هجليج الواقعة داخل الأراضي السُّودانية، وذلك بقوله: "أصرت الحكومة أن تعلن أمام الحشود الجماهيرية أنها استردت هجليج عنوةً واقتداراً، وليس بسبب انسحاب الجيش الجنوبي، وكان من المصلحة السياسية أن نؤكد على نيَّة الانسحاب؛ لأنه يعني اعتراف الحكومة الجنوبية بخطئها في اقتحام هجليج؛ لأنها منطقة سودانية لا خلاف عليها، ولكن الحكومة السُّودانية أرادت أن تثبت للملأ "رجالتها" وقدرتها على استرداد أرضها." ونلحظ أن مفهوم الرجالة التُراثي هذا ينعكس دائماً في الخطاب السياسي في السُّودان، الذي يعطي الأولوية لعواطف الناس المحلية المتأثرة بقيمهم التُراثية، دون أدني احترازٍ بأن مثل ذلك الخطاب لا يخدم القضايا الخلافية على طاولة صُنَّاع القرار الدولي، الذين يعطون الأولوية للدبلوماسية الراشدة، بغض النظر عن المواقف السياسية المشحونة بمخرجات التُراث السُّوداني التي تفقد مصداقيتها دائماً أمام ضغط المؤسسات الدولية ذات المصالح الاستراتيجية في المنطقة.
إذاً الإشكالية الأساسية المرتبطة بالتوظيف السلبي للموروثات التُراثية في محاكمة عطاء السُّلطة تكمن في ضعف القيم الأخلاقية بالنسبة لمعظم الناشطين السياسيين الذين يقفون على ضفتي الصراع السياسي (الحكومة والمعارضة) في السُّودان، ويقدمون مصالحهم الحزبية، أو الشخصية على حساب المصالح العامة، ولا يحتكمون إلى قيم الديمقراطية، ومبادئي العدالة التي أقرَّتها كل الأديان السماوية والأعراف، بل يميلون إلى منطق أوسكار وايلد: "نحن نطبق القيم المثالية على الناس الذين لا نحبهم"، ولكنهم ينسون تحكيم مثل هذه القيم المثالية عندما يكون الأمر يهمهم على المستوى الشخصي، أو الحزبي. فتجدهم يفلحون في صناعة المبررات التي تزين سوءآت السياسات الخرقاء على مستوي المؤسسات السيادية، أو الأحزاب السياسية، وثقافتهم في ذلك إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، دون أن يعيروا التفاتة إلى الاستقامة الأخلاقية باعتبارها الأساس المعياري الذي يميز المثقف عن غيره، ولذلك أفلحت السلطات الحاكمة والأحزاب المعارضة في الاستعانة بثلة من "المطبلاتية"، الذين يسعد معظهم بإيقاد البخور تحت أرجل أهل الشوكة، ولا يجرؤن بالقول لهم إذا أساءوا، "أسأتم"، وفي الوقت نفسه تلتزم القلة منهم بالصمت الذي يجعلها تقف في دائرة "السَّاكت عن الحقِّ شيطانٌ أخرس"، أو الذين يحدد مارتن لوثر سوء خاتمتهم بقوله: "أسوأ مكان في الجحيم محجوز إلى أولئك الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة". وبهذه الكيفية يرتبط العطاء البخس بالشريحة الانتهازية من المتعلمين وأنصافهم الذين يصلون نسبهم بالمثقفين دون مراعاة للقيم الأخلاقية الناظمة لسلوك المثقف، وعليه يجوز وصفهم ببيت الداء، وموطن الفشل الذي رافق الحكومات السُّودانية منذ أن نال السُّودان استقلاله عام 1956م وإلى يومنا هذا.

نقلاً عن صحيفة الأحداث   

Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء