الشفاء للدكتور : منصور خالد

 


 

 




قال أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي :


وكيف تُعلُك الدنيا بشيء .. وأنتَ لِعِلة الدنيا طبيب

وكيف تنوبك الشكوى بداءٍ ..وأنت المستغاث لما ينوب

(1)
اتصلت بسعادة السفير (م) والكاتب" جمال محمد إبراهيم "، وعلمت أن الدكتور" منصور" طريح فراش الاستشفاء . ندعو له بالسلامة للجسد وللروح .وأن ينهض سالماً مُعافى ليكمل ما تبقى من رسالة  . لا أن ينزل السيف إلى الغمدِ . صباحكَ نور من الإصباح ، ونغمك الدافئ في بطون ما تكتب.ألف سلامة لك أيها النجم الصاحي ، بك الأيام تعتلي هامة الزمن ، بك الأرض رحيبة وأنت فارس كتابها الموثق ، في وطن اعتادت الصدور أن تطمر تاريخها.
بالوجد ذاته الذي تسير به قلوبنا متوكئة على المشاعر التي نقتسم حياتها في دنيا عصية على القبض . سخية بالتقدم عند الذين هم من حولنا في الدنيا . في حين أبطأنا نحن السير بوطننا ليلحق برفاقنا في الإنسانية وهم يسرعون الخطى. يتخذون من العقل دُرة لترشيد المنهج وطرائق التفكير ثم العمل ، وهو الكنز الذي يتعين أن يكون ثروتنا جميعاً . تلك مرابط أحصنة الفوارس ، ومنها الانطلاق . لا أحد ينتظر من يفقأ عينيه ويمُدّ صحن التسول .
(2)
لنتوقف قليلاً في سيرة الذين نتشارك معهم خبز الثقافة والشأن العام الحامض . كان الدكتور " منصور خالد " رفيق درب في دنيانا .يكبرنا سناً وخبرة ومعرفة . عرفناه من التاريخ ومن حياته العامة  ومن خلال  كتاباته قبل أن نلتقي في برهة يوم ساطع ، أكاد أذكره في العام 1983 كأنه الأمس. بمثل ما كان يحفه إرث صوفي يخضّب بطن الذاكرة ، فلسيدنا  دنيا يراها غير التي يرى عامة الناس  .
قال لي الصديق الأستاذ  " فخر الدين كرار " ، كان الدكتور في كل كلمة يريد تدوينها ، يدعونا ونحن في بواكير أيام التخرج من الجامعة  أن نذهب إلى دار الوثائق ، ونبحث  وندقق عنها ، حتى نجدها . يصورها ويرقمها ، ثم يدونها مادة يبني عليها رؤاه وتحليله في أسفاره . ذكر الصديق  الأستاذ   " هاشم حبيب الله " أنه كان في يوم من أيام التاريخ مبعوثاً  من قبل الدكتور  " منصور "لتوثيق حياة الشاعر" عبد الله محمد عمر البنا " بقريته " عمارة البنا " بأرض البطانة قبل رحيله في ثمانينات القرن الماضي  وكان برفقته صنّاجة شِعر البطانة الشاعر" الفرجوني". قَضَيا أكثر من أسبوعين  توثيقاً . وتلك خامة معرفية تنتظر فسيلتها ليشتلها صاحبنا  بيده الساحرة في الكتابة عن الجيل الذي عمِل في التعليم بكلية غردون التذكارية في ثلاثينات القرن الماضي لنقرأ ثمارها آخر المطاف. ونزعم أيضاً ومنذ زمان أن الدكتور   " منصور " بصدد أن يوثق لأم درمان ، وربما يكتب  في السيرة الذاتية.
الدكتور" منصور" موجز العبارة ودقيق التوصيف ، بلغة جزلة  وبلاغة  ساحرة لا تُصعِّر خدها للقارئين والقارئات .تصل بيسر لمجموعات متنوعة من الذين يهمهم الشأن العام وخبايا حيواته. يعتمد قدرة توثيق لا تُضل أن توصلك للرؤى ناصعة بهية مكنوزة بالمعرفة . يستعين بالرصد ، ومن ثم ينسج رؤاه ناضجة صدّاحة في أسفار يضع فيها حكايات مسيرة وطن بموارده وشعوبه وصفوته مُتقلبي الأهواء والطبائع، لتأخذ مكانها اللائق في المكتبة العالمية قبل السودانية . قد يختلف كثيرون مع رؤاه أو في سيرة تجاربه وخياراته، ولكنه امتلك الجسارة في خوض الشأن العام وتحمُل تبعات ذلك . وضع نهجاً جديداً لكل موقع تقلد وظيفة مرموقة فيه. يُجبرك أن تنتبه أنك أمام قامة عالية بما تخيره من منهاج وما كسبه من خبرات معرفية وأكاديمية ، ليس من السهل أن تختلف معه دون أن تستعين بذخيرة  من الحُجج الموثقة  التي لا تقبل  الشك .
(3)
عمِل الدكتور " منصور خالد " في بواكير شبابه مديراً لمكتب رئيس وزراء السودان السابق السيد " عبد الله خليل " في الخمسينات ، ثم من بعد التأهيل  محاضراً  للقانون الدولي بجامعة "كلورادو" بالولايات المتحدة الأمريكية وخبيراً في اليونسكو ، ووزيراً للإعلام ثم الخارجية في السودان ، وحامل مشاعل أُخرى أكبر من الحصر. في حوزته ملفات عن التاريخ السوداني من الصعب على المرء معرفتها لولا حدسه السابق  بأن التوثيق  الدقيق  يقطع شك المعلومة ويؤسس البنية التحتية المعرفية قبل التحليل وإبداء الرأي .فكان يسابق ريح عصره مثل كل المبدعين الذين هم أكبر من   التقييم . 
لم يستسهل " الدكتور منصور" الحياة وحِفظ معرفته في صدره مثل كثيرين من مجايليه ولكنه انتفض في زمان كان له أن يسترخي مثل غالبية أجيال السودنة. كتب درراً في الصحافة والاجتماع والتاريخ و الاقتصاد والإدارة والسياسة والقانون. اهتم بالكتابة مثل غيره من المبدعين  كالشاعر " محمد المهدي المجذوب "والكاتب الأستاذ" جمال محمد أحمد " وبروفيسور  " عبد الله الطيب المجذوب" والكاتب الروائي " الطيب صالح "  و " الدكتور "جعفر محمد علي بخيت "، وقبلهم جميعاً " الشيخ بابكر بدري "  وقليل من أصحاب السطوة الثقافية التي رأت تحرير إبداعها من سلطة الشفهية الغالبة على شأننا الثقافي والفكري . احتجب معظم تاريخنا  الموثوق وتفاصيله الدقيقة وغطس  في صدور الكثيرين  ، ورحلت الأذهان بهذا الكم الهائل من المعرفة وعضَّينا أصابع الندم  . تقلب المبدعون الذين ذكرنا في مجالات الشِعر و التاريخ والرواية والإدارة والقانون وفي الخبز الثقافي المتنوع ، وجاء الدكتور" منصور " في مرحلة صعبة ، تصطخب بالصراع قرب خروج المستعمر وإلى تاريخ اليوم. وأصبح ليس من شهود العيان فحسب ، بل من ضمن  اللاعبين في تشكيل ملامح واضحة لعلاقة المثقف بالسلطة  في منعطفات الوطن التاريخية الحادة.
(4)
الدكتور منصور خالد ، مثله مثل الدكتور " جعفر محمد علي بخيت " و" الدكتور محمد عبد الحي " و الأستاذ " جمال محمد أحمد " استجارت بهم السلطة في وقت انقسمت عواطفهم ما بين أن يقدموا ما في وسعهم من معارف في شق طريق أفضل للوطن وفق رؤاهم ،و يتخذوا بما يستطيعون من سطوة مستحقة للعمل العام لرد دَيّن الوطن ولكن من تحت عباءة نظام حاكم ،جاء من إعسار نظام ديمقراطي لم يزل على بداوته ليس بقادر على استحداث رؤيا التجديد لإدارة وطن متنوع الشعوب والأعراق والثقافات مكنوز بثروات مطمورة لا يعرف أحد أفقاً لها ، وبين أن يسوِّقوا لنظامٍ : "جاء بليل العسكر لا خبرة لديه ولا أحد يعرف لأصحابه رؤى ، حين بدءوا حياتهم السلطانية " .
إن اختلفنا في أن السياسة المباشرة ليست من خبز همّنا اليومي الثقافي رغم أنها حياتنا التي نحيا .ورغم خطرها على الشمائل والملامح. متراوحة بين التراث وقدرتنا على النهوض في تمام قمر المعاصرة والحداثة أو نستكين لتراث سلفي موغل في القدم.إن لأسفار الدكتور" منصور " في الشأن الثقافي وحياة الصفوة في السودان القديم  وفي قضايا جنوب السودان أو السودان الجنوبي ، بحسبه صاحب رصيد الشراكة في صناعة اتفاقية " أديس أبابا " 1972 ، الأولى التي امتدت سلاماُ أحد عشر عاماً ، ثم لاحقاً مستشاراً لقيادة الحركة الشعبية منذ الثمانينات و إلى اتفاق " نيفاشا " 2005 وما بعدها . له  خبرة نسجت أسلوبه البلاغي المميز في الكتابة وفي تناول الوقائع و تحليلها وقراءة المستقبل ، ثم الخروج بنبوءات الحياة  اللاحقة. ورسم لوحة لكيف ابتلعنا السمّ ونتذوق الآن مرارة فشل دولتين ،لما تزل الديمقراطية والسلام والتنمية فيهما أحلام لا تأتي ولو في النوم العميق .
(5)
كتب عنه الراحل والدبلوماسي الكاتب "جمال محمد أحمد "في ثمانينات القرن الماضي :

(...وأنا الذي صحبته سنين أعرف أنه قومي سوداني في البدء، وأكبر من كل بطاقة يسير بها الناس، يتصيدون المكان الأرفع لذاته، لا لما يتيح لواحد أن يعمل، وعذاب المكان الأرفع لا يعرفه غير من افتقده. أثلجت غضباته صدور أكثر الشباب، لأنه واحد منهم، يتميز عنهم ببيان يقنع، يعبر عن ذاتهم كما يعبر عن ذاته، فهي تحس ما يحس، ولا تملك ما يملك هو، من معرفة بتجارب عالمنا العربي والأفريقي، يتصدى لدقائق الحكم والإدارة والتعليم والثقافة. يستلهم تجاربه الثرة. يخيف الواحد بنشاطه الجسدي والذهني، تأتيك رسائله من أطراف الأرض يبث فيها مشاعره وأفكاره، ويحدثك عن الذي قرأ من سياسة وأدب لا تدري، متى وجد الفراغ، وعن الذين لقي من أئمة الفكر والسياسة، لا يمس واحد منهم استقلاله الفكري.... ما أدري إن وقف عند كلمة معلمنا "لطفي السيد" أم لم يقف، لكنها تصفه وتصف كل الذين يعيشون الطلاقة الجامحة: "إن أراد قارئ أن يفهم حديثي هذا دفاعا عن فكر بعينه، فليعد قراءة الحديث مثنى وثلاث ورباع... وإن أراد أن يفهمه دفاعا عن دولة، فليعد قراءته مثنى وثلاث ورباع فالذي أدافع عنه هو أمر أخطر من هذا بكثير...الذي أدافع عنه هو حقنا في أن نفكر بحرية طليقة... وهو واجبنا في أن نتصرف بإرادة.)
(6)
من أسفاره المبذولة : حوار مع الصفوة - لا خير فينا إن لم نقلها - السودان والنفق المظلم – الفجر الكاذب - جنوب السودان في المخيلة العربية - النخبة السودانية وإدمان الفشل(من جزأين) - السودان، أهوال الحرب.. وطموحات السلام (قصة بلدين) - (الثلاثية الماجدية ) صور من أدب التصوف في السودان . وله الكثير الذي ينتظر النور.
*
ألف سلام عليك سيدي أينما حللت ،و للعافية أن تلثم مُحياك المضيء بإذن واحد أحد .
عبد الله الشقليني
25/6/ 2012

عبد الله الشقليني
abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء