جنبوا شعبكم مشقة التغيير ما استطعتم

 


 

 



Khalidtigani@gmail.com


حالة فريدة من الشفافية هبطت على الحزب الحاكم في السودان هذه الأيام بلغت حد تقديم قادته اعترافات نادرة غير مسبوقة تقر بأن الأداء الاقتصادي للحكم بلغ حداً من التردي قاد الدولة للوقوف على شفير الإفلاس مما يستدعي "تجرع سم" إجراءات قاسية للنجاة. تُساق هذه الحجة بإصرار عجيب, دون وعي بدلالاتها المنطقية والاستحقاقات السياسية الموضوعية التي يجب أن تترتب عليها, ليس من باب المصارحة والمكاشفة, بل لأن إقناع مؤسسات الحزب الحاكم نفسها التي استفاقت أخيراً على هول الكارثة وجسامة تبعاتها اقتضى ذلك, ولتمرير حزمة الإجراءات التي تحيل حياة المواطنين إلى حجيم لا يُطاق, والتي وصفها وزير المالية محقاً في نوبة صراحة آخرى بأنها إجراءات تتخذها دولة مفلسة, وهي تدابير تعاقب المواطن ضحية فشل الحكم في إدارة الشأن العام وتحمله المسؤولية, وتتفادى ببساطة مساءلة ومحاسبة الذين تسببوا في قيادة البلاد إلى هذا الحال البئيس.
وأخطر دلالات هذا الإقرار المثير بالفشل, وإن كان جاء أصلاً في كواليس مداولات الحزب الحاكم بغرض مواجهة المقاومة الواهنة التي لقيتها الإجراءات بادئ الأمر, قبل ان تصبح متداولة في الخطاب السياسي العام, أنها تمثل اعتراف السلطة الحاكمة بصراحة وبدون مواربة أن نتاج حصيلة ثلاث وعشرين عاماً من الانفراد بالحكم هو قيادة البلاد إلى أبواب الانهيار الاقتصادي, وإطلاق نذر ميلاد دولة فاشلة بامتياز. 
ولو كان لهذا المأزق الكارثي من فائدة فهو أنه أجبر أخيراً قادة الحكم على النزول من أبراج الشعارات العالية وإنهاء حالة الإنكار المتواصلة, والاعتراف متأخراً بأن الأمور ليست على ما يرام, وأن خزانة "جبانة المال العام الهايصة" أضحت خاوية على عروشها لم يعد فيها ما يسد رمق آلة "النهب المصلح" الحكومية على حد وصف أطلقه الرئيس البشير شخصياً ذات يوم, ولم يعد فيها ما يلبي جشع فساد طبقة الرأسمالية المتوحشة المتدثرة بلبوس الإسلام, دعك من أن يود فيها ما يؤمن حتى القليل لإدارة دولاب الحكم. وهذا الاعتراف يعني بوضوح أن كل تلك الإنجازات التي كان يُتغنى بها وتستخدم كغطاء لإعطاء مشروعية للحكم أصبحت هشيماً تذروه رياح الحقيقة المرة حين استفاق الشعب السوداني لتقول له حكومته بعد أكثر من عقدين من السيطرة على السلطة, عفواً أصبحنا مفلسين وعليك أن تدفع الثمن.   
والاعتراف في حد ذاته لا ينطوي على محمدة ما لم يقد إلى مساءلة ومحاسبة. ولكي تكون الشفافية كاملة, وليست انتقائية, يجب أن لا تُقال أنصاف الحقائق بزعم مواجهة الشعب بالواقع المر, فهناك ثمة أسئلة محورية ملحة لا يمكن القفز عليها يتفادى قادة الحكم طرحها أصلاً دعك من الإجابة عليها, وهي كيف ولماذا ومن أوصل الاقتصاد السوداني, الغني بموارده وفرصه, إلى هذه الحالة المذرية من فشل تاريخي ذريع غير مسبوق؟. لأن تقديم الأجوبة الحقيقية والصادقة على هذه الأسئلة المهمة هي السبيل الوحيد لتقديم تشخيص دقيق وصحيح للأسباب التي أفضت إلى هذا الوضع المأزقي, وتكمن في مضامينها الوصفة الوحيدة لخريطة طريق ناجعة لمعالجة هذه الأوضاع الكارثية التي تنذر بأن الأسوأ لم يأت بعد.
على أن أكثر الاعترافات مضاضة في الخطاب الحكومي, الإقرار بأن تقسيم البلاد وفصل الجنوب وتبعات ذلك كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير وأبانت كل أمراض الاقتصاد السوداني التي كانت تسترها أموال النفط السهلة فما أن ذهبت حتى خر صريعاً في أشهر معدودة. ومما يؤسف له أن قادة الفريق السياسي والاقتصادي في الحزب وحكومته الذي يقدمون هذا الاعتراف المتأخر, هم أنفسهم الذين ظلوا يصرحون علانية طوال السنوات الماضية مطمئنين الرأي العام بأن تفتيت البلاد وانفصال الجنوب سيكون مجرد نزهة لن يؤثر على الشمال, بل ويصرون بلا هوادة على أن البلاد ستكون في أحسن حال وهي تتخلص من عبء الجنوب, وللمفارقة هم أنفسهم الذين يأتون اليوم ليبرروا للمواطنين سوء الحال والمآل بأن هذا الجنوب الذي قالوا أنهم لن يذرفوا عليه دمعة, يبكي البلاد كلها ألما وحسرة على هذا الرهان الخاسر بامتياز الذي افقد البلاد وحدتها, ولم يحقق سلاماً, وأعاد إنتاج الحرب, وها هو يقود البلاد إلى فشل اقتصادي غير مسبوق, وليكتشف المواطن أن الشمال في الواقع هو الذي كان عبئاً على الجنوب وليس العكس. ومع ذلك فإن من يتوجب عليه أن يدفع ثمن هذه المقامرة بمقدرات البلاد هو المواطن المغلوب على أمره, وليس ولاة الأمر الذين طالما تباهوا بأن تلك الاتفاقية التي لم يطيقوا عليها صبراً هي أعظم إنجازات عهد الحكم الحالي. 
والحماسة المفرطة والتصريحات اليقينية التي يبديها المسؤولون في الحكومة بأن السبيل الوحيد لمعالجة الانهيار الاقتصادي الوشيك حتمية اتخاذ هذه الإجراءات القاسية, استخفاف بعقول الناس واستهانة بذكائهم, وتعامل مع هذا الأمر الخطير بخفة وكأن هذه الأزمة الخانقة هبطت من السماء فجأة, أو جاء بها شياطين متآمرون يستهدفون الحكم, ويتجاهلون تماماً, ببراءة يحسدون عليها, مواجهة الحقيقة الواضحة أن الوصول إلى حالة الانهيار الاقتصادي هذه لم تأت صدفة, ولم تحدث عرضاً, لم يصنعها مجهولون, ولم يفرضها أحد, بل هي حصاد مر لسياسات النظام وأسلوبه في إدارة السلطة ورهاناته الخاطئة المتراكمة على مدار أكثر من عشرين عاماً. والاقتصاد على وجه الخصوص لا يمكن أن يتداعى بسهولة, حتى ولو كان اقتصاد جمهورية موز, لو لم ينخر سوس غياب الرؤية وقلة الكفاءة والفساد في عظامه على مدى طويل من الزمن, وحين يخر يتبين ولاة الأمر حينها فقط أن الشعارات البراقة لا تصلح لتغطية عورات الخواء السياسي.
لا يحتاج المواطنون لمصارحتهم بحقائق حال بئيس يعلمونه جيداً أكثر من حكامهم, يقاسون تبعاته, ويعايشونه بمرارة, ويدفعون ثمنه وحدهم, لا ينتظرون أحداً لينقل لهم خبراً قديماً, فحتى الأطفال باتوا يعلمون عمق حالة الانهيار الاقتصادي وقد تلاشت قيمة الدريهمات التي كان يجود بها عليهم آباؤهم إذ أضحت لا تقوى على شراء أقل ما كانوا يعهدونه لها من قيمة, ويرون الحسرة في عيون أهاليهم وقد عز الوفاء بأبسط متطلبات الحياة. لا يحتاج المواطنون لمن يحكي لهم قصص الفشل في إدارة شؤونهم, ولا لمن يسوق لهم مبررات واهية غير مقبولة عن أسباب العجز في تفجير طاقات بلد تعج بإمكانات وموارد قل نظيرها بين الدول, بل يحتاجون لقيادة تتحمل المسؤولية عن حصائد كسب أيديها.
ومسؤولية القيادة لا يحققها التباهي بالقدرة على اتخاذ قرارات قاسية من يدفع ثمنها حقاً مواطنون لا ذنب لهم فيما حدث من انهيار, تحملهم المسؤولية عما لم يرتكبوه, بل تكمن شجاعة القيادة وصدقها وعدم ترددها عندما تكون مستعدة حقاً لتحمل المسؤولية عما قادت إليه البلاد من إنزلاق إلى أتون التشرذم والإفلاس. ومحاولة القفز على المقدمات الموضوعية والأسباب الحقيقية الذي أدت إلى هذه الحالة المأزقية, وإلى الاقتصار على التعاطي مع نتائجها وكأنها نبت شيطاني, أو قدر لا محيد عنه, متجاهلة دفع الاستحقاقات السياسية للعجز عن تحمل المسؤولية بحقها, تعني بوضوح أن الأسوأ لا يزال قادماً, لأن الذهنية التي أنتجت هذه الأزمة, والتي تترفع عن المراجعة النقدية الجدية وتحمل المسؤولية عن تبعاتها, ستنتج أزمات أكثر كارثية لن تؤدي إلى إسقاط النظام فحسب, بل ستقود إلى سقوط الدولة السودانية ذاتها في أتون فوضى لا أحد يعلم مداها.
والسؤال ما الذي يجعل الإجراءات القاسية الحالية, والخالية من أية إصلاحات حقيقية جدية, وبلا رؤية مبصرة ولا استراتيجية مبتكرة, ستقود البلاد فعلاً للخروج من المأزق الراهن؟, وما الذي يجعل قادة الحكم مصرين على أنها السبيل الوحيد للحل؟. وما دام يملكون هذا الإصرار والإرادة على حل ويبدون واثقين منه فلماذا انتظروا حتى حلت الكارثة؟ وما هو هذا الاكتشاف العبقري الجديد الذي لم يكن معلوماً لديهم ليطرحوه هذه المرة, ومن أين جاء هذا الحل السحري الذي حصلوا عليها فجأة ليمثل طوقاً للنجاة؟.
لم يقل لنا ولاة الامر ما الذي حل بما سمي ب"البرنامج الإسعافي الثلاثي" الذي تم تبنيه قبل بضعة أشهر فقط وأُدعي بأنه الطريق السديد إلى التعافي الاقتصادي في غضون سنوات ثلاث, ثم ما لبث ان أنهار الوضع الاقتصادي كله في أقل من نصف العام. ولمإذا فشل هذا البرنامج الذي حُشد له دهاقنة الاقتصاديين في الحزب الحاكم وجرى تسويقه على أنه عصا موسى, ثم يأتي هؤلاء انفسهم ليحدثوننا أن ذلك كان مجرد مزحة ثقيلة, وأن الحل الجديد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, هذه الإجراءات القاسية المخترعة هذه المرة بحسبانها سفينة نوح هالك من لا يركبها.
كيف يصدق المواطن هؤلاء القوم, الذين قالوا له إن السماء ستمطر ذهباً بعد التخلص من "أوشاب الجنوب" فإذا هي تمطر سحقاً وقحطاً, وكيف يصدقون الذين يقفزون من برنامج إلى آخر من بين غمضة عين وانتباهتها, ويصيحون في كل مرة وجدتها وجدتها, دون حتى أن يهتموا أن يشرحوا للناس على الأقل لماذا فشل البرنامج السابق, دعك من أن يتحملوا مسؤولية عن ذلك, لم يتركوا للناس سبيلاً ليصدقوا شيئاً. 
ثم أين ما قيل أنها استراتيجية ربع قرنية للنهضة الشاملة, وأين الخطة الخمسية الأولى في هذه الاستراتيجية التي انقضت العام الماضي, وأين ما قيل أنها النهضة الزراعية التي شرع فيها قبل بضع سنوات, وانتهت بنا لأن يصبح السودان مستورداً للغذاء ببلايين الدولارات؟ والعبرة بالنتائج لا بالتمنيات, وليس بسوق التبريرات. أيعقل أن يأتي قادة الحكم والحزب بعد كل تلك الوعود, وبعد كل هذه السنوات ليقولوا ببساطة أننا نواجه انهياراً اقتصادياً لا قبل لنا به بغير إجراءات تنتزع آخر في ما جيوب المواطنين الخاوية, بدعوى ألا حل إلا بذلك, ثم ينجو من تسببوا في هذه الكارثة ليس من المساءلة فحسب, بل يكافئوا أنفسهم تشبثاً بالسلطة ولو كان ثمن ذلك ذهاب ريح الوطن, وإزهاق أرواح مواطنيهم بالمسغبة.
ومن يسمع تبرير الإجراءات المعيبة هذه بأن الهدف منها رفع الدعم الذي يستفيد منه الأغنياء على حساب الفقراء يكاد يحسب أن أغلبية مواطني السودان من الموسرين أهل الدعة, ولا احد يجهل أن الكثرة الغالبة هم من الفقراء أهل الصفة الذين لا يسألون الناس إلحافاً. وأيهما أجدى وأسهل محاسبة القلة النادرة على ما يتمتعون به بما لا يستحقون, أم العمل بمبدأ الشر يعم الأغلبية الكاثرة, والخير يخص أهل الحظوة. 
يحاول الحكم تسويق مزاعم للإصلاح ضمن هذه الإجراءات بما سًمي إعادة هيكلة الدولة, وتخفيض مخصصات الدستوريين, وترشيد الإنفاق العام. وهذا اعتراف آخر مثير للاستغراب, فما دام هذا الأمر ممكناً أصلاً فلماذا مارسه قادة الحكم ابتداءً, ولماذا السفه في إهدار الأموال العامة حتى ولو كانت تملك الدولة خزائن الأرض والسماء, دعك من أن تكون عاجزة حتى عن إنتاج كفايتها من الغذاء, وما الذي اضطرها لممارسة تعرف أنها تكلف خزينة الدولة ما لا طاقة لها بها, ولا تبدي استعداداً للتراجع عنها إلا بعد أن وقع الفأس على الرأس. والطريف في الامر أن مثل هذه التدابير ذاتها أعلن عنها الحزب الحاكم في العام 2006 حين اتخذ إجراءات قاسية مماثلة, ولكن ثبت أنها وعود غير جدية لمجرد ذر الرماد في العيون لم يتحقق منها شيئاً, خاصة وأن العائدات النفطية السهلة التي توفرت بعد ذلك أسهمت في المزيد من الإهدار للموارد العامة والفرص التاريخية للنهوض, ولكنها بددت جميعاً لان لا أحد اهتم سوى بالقصور المشيدة, وأهملت الآبار المعطلة.
والمسألة التي يغفل عنها المنتقدون لترهل الهياكل الحكومية, ليست تلك المصاريف التي تتكبدها الخزانة العامة لتمويل امتيازاتهم التي لا حصر لها فحسب, ومع ذلك تبقى أمراً زهيداً, حين تحسب الكلفة الحقيقية لتبعات قلة الكفاءة وتواضع الأداء وبؤس مردود جيوش المستوزرين "والدستوريين" الذين لا يكاد أغلبهم يصدق أنه بلغ من الدنيا هذه الحظوة, دعك من ان يكون مهيأ للعب دور منتج في إدارة شأن الدولة. والمسألة ليست هي حسابية أو عددية, بل ما هي قيمة ما ينجزون فعلاً وما الذي يمكن أن يضيفونه.
ومن الغرائب مما أتت به التبريرات الحكومية في شأن الترهل غير المسبوق في هياكل الدولة ما سمي بضرورات "الإرضاء السياسي" توسعاً في التوظيف على حساب المال العام دون أدنى عائد تنموي, وسمعنا اعترافات نادرة أن الولايات والمحليات تقتطع في السودان لأول مرة على اسس عنصرية وعشائرية لإرضاء تلك القبيلة, أو لاستمالة الآخرى, بمعنى آخرى تم تحويل الدولة السودان وارتدادها إلى عهد الإقطاعيات. ثم الزعم أن ذلك التوسع غير المسبوق اقتضته اتفاقيات السلام التي لا حصر لها ولا عد لها مع تلك الجماعات التي نازعت الحكم سلطته ففاوضها ورفعها من مرتبة عصابات شذاذ الآفاق التي كان يصفها به, إلى مرتبة حكام يقاسمونه القصر الجمهوري والمناصب السياسية والتمتع بامتيازات ومكاسب,
ولا يمكن للحكم أن يشتري الولاء السياسي لخصومه ومؤيديه على حد سواء فقط من أجل البقاء في السلطة بأي ثمن, ثم يأتي ليبررالعجز بالكلفة العالية "للإرضاء السياسي".  ولا عزاء للمواطن المغلوب على أمره فهو في نهاية الأمر من يدفع فاتورة ذلك.
وفي الواقع فإن ذلك ليس إرضاءً سياسياً, بل ابتزاز سياسي بامتياز ظل الحزب الحاكم يحضع له إذ أثبت أنه لا يستجيب إلا لمن يقارعه بالسلاح, ولا يبدو مستعداً للاستماع لصوت العقل والحكمة. وطريق الإرضاء السياسي الحقيقي واحد لا ثاني له, تأسيس نظام حر ديمقراطي مكتمل الأركان تتوفر له مؤسسات حقيقية تتوازن فيها السلطات وتتوفر فيه مبادئ المحاسبة والمساءلة والعدالة, يقرر فيه المواطن بكامل حريته وإراداته الكاملة وفي عملية سياسية سليمة وشفافة لا التفاف عليها من يحكمه. 
وثالثة الأثافي نواب البرلمان الذين خضعوا لضغوط الحكومة كالمعتاد ليثبتوا مرة آخرى بتمريرهم للإجراءات الحكومية التي لم تأبه حتى للاعتبارات الشكلية إذ شرعت في تنفيذ قراراتها حتى قبل نيل موافقتهم المضمونة عليها, وليتأكد أن البرلمان جهاز سياسي مترهل آخر زائد عن الحاجة, تنفق عليه أموال طائلة لغرض الزينة. والأولى ان يحل لتوفير نفقاته في أغراض آخر طالما أظهر دائماً أنه مستعد للبصم على قرارات الجهاز التنفيذي, وما يستوجب حله ليس هذا فحسب, بل عجزه عن الوفاء بواجبه, وإلا فأين كان هذا البرلمان واقتصاد البلاد يتداعى أمام أعين نوابه طوال السنوات الماضية, ولو كان برلماناً حقيقياً لما وقف متفرجاً على فشل الجهاز التنفيذي وعجزه عن إدارة اقتصاد البلاد حتى قادها إلى حافة الإفلاس. ثم لا يجرؤ أن يحاسب أو يسائل أحداً على قصور وفشل لم يعد سراً.
لا ينبغي لقادة الحكم أن ينتظروا أحداً ليحاكمهم "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا", عليهم فقط أن ينظروا في صحيفة أعمالهم ويحاسبوه انفسهم على تعهداتهم للشعب في بيان الانقلاب, وعلى الشعارات المرفوعة ل"إنقاذ البلاد", وان الحكم "لله لا للسلطة ولا للجاه", وليقدروا بأنفسهم أين هم. وأين البلاد من تلك الوعود المغلظة, ولو نظروا في بيان الانقلاب وللمفارقة أن هذه الأيام تصادف ذكراه الثالثة والعشرين, لأرتد بصرهم وهو حسير. فكل تلك التعهدات انقلبت إلى نقيضها, وعادت البلاد إلى وضع هو أخطر مما كان كائن يومها, تم تقسيمها, واتسعت رقعات التمرد فيها, وباتت مهددة بالمزيد من التشرذم, وها هي تصبح على شفير الإفلاس.
"لا, لست راضياً فقد كان هناك الكثير الذي ينبغي علي عمله, ولم أنجزه, وفشلت في أشياء كثيرة, ولكن لن أقول انني لم آخذ فرصتي كاملة, ها قد حانت فرصة الآخرين". بهذه الكلمات ذات المضامين الرفيعة رد الزعيم الماليزي المعروف د. محاضر محمد على الصحافيين الذين سألوه عن عشية تنحيه بطوع إرادته عن الحكم, بعد نحو اثتين وعشرين عاماً قضاها رئيساً منتخباً لوزراء بلاده. لم يكن محاضر يتصنع التواضع, وهو مدرك لحجم النجاحات والإنجازات الضخمة التي حققها لماليزيا حتى تبوأت مرتبة متقدمة بين اقتصادات الدول الكبرى, وأضحت نموذجاً يُشار له بالبنان إقليمياً ودولياً, ولكنها إشارة إلى مكونات شخصية القيادة الفذة التي تدرك أن لطموح البقاء في السلطة حدوداً حتى ولو كنت صاحب إنجازات خارقة. وأن الأمة أبقى من زعمائها مهما بلغ شأوهم, وأنها تستحق باستمرار أن تتاح أمامها الفرص لتجديد الدماء والأفكار والرؤى والقدرة على العطاء.
في نهاية رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" يورد الطيب صالح على لسان بطلها مصطفى سعيد وهو يوصي الراوي بطفليه قبل ان تبتلعه امواج النيل "جنبهما مشقة السفر ما استطعت" يريد بذلك ألا يعيدا إنتاج مأساته التي عاشها بعد سفره إلى مجاهل عالم الغرب.
ونصيحتي الأخيرة لقادة الحكم "جنبوا شعبكم مشقة التغيير ما استطعتم", وهديتي إليكم الحديث النبوي الشريف"ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً".
لو كان لدينا نظام سياسي ديقراطي حقيقي لدعونا لانتخابات مبكرة تفضي إلى ميلاد نظام حكم يتمتعه بمشروعية شعبية تمكنه من الخروح من عنق الزجاجة الحالية, وبما ان ذلك لا يمثل حلاً في ظل طبيعة الأوضاع الحالية المفتقرة لتقاليد ممارسة ديمقراطية حقيقية راشدة, فإن أسلم السبل لحل وطني شامل التوافق على وضع انتقالي جيد الترتيب حقيقي التمثيل يمهد لقيام نظام سياسي جيد يعبر بالبلاد إلى بر الأمان. فإن الأزمة في جوهرها سياسية قبل أن تكون اقتصادية, وما نخشاه على وطننا سيادة منطق "سيناريو الانتحار الجماعي". , وليحفظ الله البلاد والعباد ويهيئ لها من أمرها رشداً.
عن صحيفة "إيلاف" السودانية
الأربعاء 27 يونيو 2012

 

آراء