في الممانعة الكيماوية

 


 

 




(1)

هناك سؤال ظل يطرح نفسه بإلحاح منذ أن قسم العرب أنفسهم إلى "ممانعين" من أهل الصمود والتصدي، و "معتدلين" من أهل السلام والتعاون مع "المجتمع الدولي"، وهو السؤال التالي: متى يمانع الممانعون؟ وكيف ومتى يصمد الصامدون؟ وهو سؤال ما يزال ينتظر الإجابة المقنعة. وقد أعاد السؤال طرح نفسه في الأيام الأخيرة في الحديث حول أسلحة الدمار الشامل التي قيل أن سوريا تمتلكها، وذلك بصيغة: متى ستستخدم سوريا هذه الأسلحة؟


(2)

في الحقبة الأولى من المواجهة بين ما سمي وقتها بالأنظمة "الرجعية" وتلك التي سمت نفسها "تقدمية" (أطلق بعضهم على تلك الفترة تسمية "حقبة الحرب الباردة العربية")، كانت الأنظمة "التقدمية" تفخر بأنها تصارع الاستعمار والامبريالية، وتجتهد في تحرير العرب منهما، مقابل احتماء الأنظمة الرجعية بالدول الاستعمارية. كان "التقدميون" عندها في موقع الهجوم، حيث كانت الأنظمة التقليدية تتهاوى بسرعة تحت زحف قوى التغيير. وقد تطور الأمر بحيث أصبحت الدول "التقدمية" تصرف جهداً أكبر في الصراع مع الدول التقليدية منها مع أعداء الخارج (من أمثلة ذلك تدخل مصر في اليمن، وصراع اليمن الجنوبي والعراق مع جيرانهما، ناهيك عن مغامرات ليبيا القذافي).


(3)

في بعض الأحيان، لم يكن التمايز بهذا الوضوح. على سبيل المثال، فإن دولاً مصنفة "رجعية" (تونس، المغرب، وليبيا) ساهمت بقدر أكبر من غيرها في حرب تحرير الجزائر، كما أن مساهمة الدول التقليدية في دعم نضال فلسطين لم يكن أقل من غيره. ولكن الأمور انقلبت رأساً على عقب بعد حرب عام 1967 الكارثية، حيث اعترفت الأنظمة "التقدمية" لأول مرة باعتمادها على خصومها "الرجعيين"، خاصة بعد مؤتمر الخرطوم الذي تعهدت فيه الدول التقليدية برصد موارد كبيرة لدعم "صمود" الصامدين. وتعمق الأمر بعد حرب أكتوبر 1973 التي لعب فيها سلاح النفط دوراً كبيراً.


(4)

منذ ذلك الحين، لم تعد ظاهرة "الصمود والتصدي" ودعاوى "الممانعة" أكثر من شعارات صوتية. وحتى قبل ذلك فإن "الممانعة" كانت دائماً بالوكالة، حيث تقوم الأنظمة بدعم حركات "مقاومة"، فلسطينية في الغالب، ولبنانية أحياناً. ولكن حتى هذا النضال بالوكالة تراجع بسرعة، لعدة أسباب، أولها أن التنافس والصراع الذي احتدم بين الأنظمة "التقدمية" ورط الحركات الفلسطينية وغيرها في صراعات هذه الدول مع بعضها. أيضاً أدى إخراج المقاومة من الأردن ولبنان إلى إغلاق هذه الساحة، كما أن ظهور حركات مقاومة إسلامية إما مستقلة أوموالية لإيران، سحب البساط من تحت الأنظمة. وفوق ذلك فإن تورط العراق، أكبر وأقوى الدول "التقدمية" في الحرب مع إيران، نتج عنه تبعية شبه كاملة لدول الخليجن وقد تلقى ضربات قاصمة حين حاول التمرد عليها.


(5)

الإشكالية الأكبر لدول "الممانعة" لم تكن حروبها الجانبية الكثيرة (مع بعضها البعض أو مع الدول الجوار)، وإنما حروبها المستمرة مع شعوبها. فعلى الرغم من أن هذه الأنظمة رفعت شعارات "شعبوية" حول المقاومة، ومقارعة الاستعمار، والعدالة الاجتماعية، إلا أن واقع سياساتها تعارض كثيراً مع هذه الشعارات، كما أن ترويجها لنموذج حكم الفرد وسطوة المخابرات قوض الثقة بها، وجعلها تنفق معظم جهودها في قمع الشعوب. وبالتالي لم يعد لهذه الأنظمة فائض طاقة لمقارعة عدو الخارج، بل حتى للدفاع عن السيادة. بل إن هذه الأنظمة أصبحت أكثر ارتهاناً للخارج من خصومها. فمن لم يكن تابعاً لروسيا تحول إلى قن لإيران أو ملحق بدول الخليج.


(6)

ورغم ما أنفقته هذه الدول على التسلح، وما فرضته على شعوبها من تضحيات بالحرية والكرامة باسم الممانعة، فإن أياً من هذه الأنظمة لم يطور قدرات دفاعية تؤهله للصمود في وجه هجوم خارجي من إسرائيل، أو حتى من إيران، فضلاً عن أن تسمح له بالتحرك لاسترداد أراض محتلة أو استعادة حقوق مسلوبة. وعندما تعرضت هذه الدول (أو مناطق نفوذها كما في لبنان) لهجوم، لم تكن لها أي قدرة على التصدي، فكانت في ممانعاتها مثل ربات الخدور العزل، بل لعلها كانت أقل ممانعة.


(7)

هذا يعيد طرح السؤال الأساسي: متى يمانعون إن كانوا أصلاً ينوون ذلك؟ بنى العراق، على سبيل المثال، ترسانة ضخمة من الأسلحة غير التقليدية، ولكنه لم يستخدم أياً منها عندما هوجم واستبيح. وشهدنا بعد ذلك أغرب المشاهد التي وصلت حداً من الإذلال بلغ تفتيش غرف نوم زعيم البلاد وهو راغم بحثاً عن أسلحة مخبأة. وهكذا تحولت المسألة من كون السلاح مرصوداً للدفاع عن أمن الدولة، إلى تحول الدولة إلى مدافعة عن سلاح ثبت أنه لم يكن سوى وهم. نفس الأمر نشهده في سوريا اليوم، حيث أكد النظام رسمياً أنه لن يستخدم ترسانته من الأسلحة غير التقليدية إلا إذا هوجم، ثم عاد فقال إنه لن يستخدمها أبداً، حتى إذا هوجم. فلماذا إذن كان تضييع المال والجهد في تكديس أسلحة لن تستخدم تحت أي ظرف؟


(8)

الذي تأكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك هو أن قادة الأنظمة الاستبدادية هم أجبن الخلق، وكذلك جيوشهم، لأن هذه الجيوش تخضع لنظام إرهابي يغرس الجبن غرساً في النفوس. ولهذا شهدنا كيف انهارت هذه الجيوش وفر قادتها قبل جنودها في أي مواجهة ذات بال. بل إن ما نراه اليوم من تعامل الجيش السوري مع جيوب المقاومة، حيث لا يجرؤ على الدخول في مواجهة مع الثوار، وإنما يكتفي بالتصدي للمدنيين، أو قصف المواقع من بعد. فمن كان يخاف من حفنة مسلحين بالأسلحة بالخفيفة، كيف يجرؤ على مواجهة إسرائيل وترسانتها؟

(9)

ما ننصح به الآن هو تحويل المنطقة العربية برمتها إلى منطقة منزوعة السلاح. ذلك أن أعظم انجازات الشعوب العربية، من ثورة 1919 في مصر إلى ثورات الربيع العربي، مروراً بالانتفاضات الفلسطينية، ظلت حتى الآن هي تلك التي أنجزتها الشعوب المجردة من كل سلاح. أما الأسلحة المكدسة في مخازن الحكام العرب فهي إما عديمة الجدوى، وإما يستخدمها الجبناء للاستئساد على العزل من النساء والأطفال، ثم يلقونها ويهربون عند أول طلقة، بل أول زجرة من عدو. النظام السوري، مثلاً، تراجع خلال ساعات عن التهديد باستخدام سلاحه، وذلك لمجرد صدور تصريحات زجرية ضده. وأنا متأكد من أن الشعب السوري الأعزل كان سيكون أكثر صموداً في وجه أي عدوان خارجي من قادة لا يجرؤ أي منهم على المشي في شارع عاصمته. قبح الله الجبن والجبناء، خاصة من يحمل السلاح منهم!

Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء