مسؤولية انفصال جنوب السودان: تأليف د. سلمان محمد أحمد سلمان .. تعقيب أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
11 August, 2012
11 August, 2012
الشخصية السودانية السياسية مسكونة بأدب المشافهة، وتضخيم الذات، بعيداً عن التوثيق الدقيق للأحداث السياسية التي اشتركت في صياغتها، وعن القراءات الموضوعية القائمة على تحليل مفردات الحدث السياسي في إطار الواقع الذي تجسَّدت فيه. ولذلك، يكثر التشيع للآراء الشخصية، والمذاهب الفكرية التي ينطلق منها السياسي السوداني؛ لأنَّ النفس الإنسانية بحكم تكوينها البشري، كما يرى ابن خلدون، "إذا كانت على حال اعتدال من قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيُّع لرأي، أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله" . وأحياناً ينتج الخطأ أو التضليل بفعل القراءة الذاتية المبتسرة للحدث السياسي؛ لأنَّ الإنسان عندما يجرؤ على رواية الأحداث من منظور شخصي، لتضخيم فعله السياسي في المحافل العامة، أو المجالس الخاصة، يعطي روايته لتلك الأحداث نوعاً من الصدقية والتواتر في مخيلته الذاتية، وكذلك عند الآخرين غير الملمين ببواطن الأحداث، وطبيعة المناخ الذي تشكلت فيه. انطلق الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان من فرضية مشابهة لفرضية ابن خلدون عندما استهلَّ مقاله عن "مسؤولية انفصال جنوب السودان"، بقوله: "من التوجيهات المبدئية والأولية التي يتلقّاها طلّاب دراسة علم التاريخ هي توخي الحذر والحيطة في كتابات الأشخاص الذين هم طرفٌ في الأحداث موضوع المقال أو الكِتاب. فهؤلاء الكُتّاب قد يرتكبون واحداً، أو أكثر من ثلاثة أخطاء، هي: أولاً تضخيم دورهم الإيجابي؛ وثانياً عدم ذكر أيٍ من الأخطاء التي وقعت، أو التعرض لها بصورةٍ غير متكاملة، وثالثاً تقديم التبريرات غير السليمة أو الصحيحة للأخطاء، إذا تمّ التعرُّض لها". وقد طرقتْ هذه المحاذير ذهن المؤلف سلمان عندما قرأ مقال الدكتور غازي صلاح الدين العتباني الموسوم بـ "قرار الاتحاد الإفريقي استنساخ للإيقاد ثم نيفاشا جديدة." واتخذ من تقويمه لذلك المقال نقطة انطلاق لتحديد مسؤولية القوى السياسية عن انفصال جنوب السودان، وتوطين أدوارها في بنود الاتفاقيات التي أبرمتها مع المفاوض الجنوبي في ظروف سياسية مختلفة، ومتداخلة مع بعضها. وفي تعقيبنا على مقال الدكتور سلمان بحلقاته التسع، نبدأ بعرضٍ للخطوط الرئيسة المكونة لنسيج تلك الحلقات، ثم تحليل محتوياتها، والوقوف عند النقاط الجوهرية التي أثارها المؤلف بشأن مسؤولية الأطراف السياسية، ودرجة إسهامها في دفع مسار جنوب السودان نحو الانفصال، والتداعيات التي تمخضت عن ذلك الحدث المفصلي في تاريخ السودان الحديث والمعاصر، قبل أن يكون واقع السودان واقعاً يحكى عن قصة دولتين متجاورتين من حيث الزمان والمكان، ومتخاصمتين بشأن تقاسم الثروة النفطية والمائية، والحدود السياسية المشتركة.
عرض الدكتور سلمان مقاله عن مسؤولية انفصال جنوب السودان في تسع حلقات، رتبها حسب العناوين الرئيسة الآتية:
المقال الأول: الدكتور غازي العتباني: مسؤولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا
المقال الثاني: الدكتور علي الحاج: إعلان فرانكفورت ومسؤولية انفصال جنوب السودان
المقال الثالث: مبادرة السلام من الداخل ومسؤولية انفصال جنوب السودان
المقال الرابع: التجمّع الوطني الديمقراطي ومسؤولية انفصال جنوب السودان (1)
المقال الخامس: التجمّع الوطني الديمقراطي ومسؤولية انفصال جنوب السودان (2)
المقال السادس: حزب المؤتمر الشعبي: اتفاق جنيف ومسؤولية انفصال جنوب السودان
المقال السابع: شماليو الحركة الشعبية ومسؤولية انفصال جنوب السودان
المقال الثامن: التدخّل الاقليمي والدولي ومسؤولية انفصال جنوب السودان
المقال التاسع: القوى السياسية الشمالية ومسؤولية انفصال جنوب السودان
اتخذ الدكتور سلمان من مقال الدكتور غازي صلاح الدين مدخلاً لإثبات فرضيته الثلاثية القائمة على تضخيم الذات، واختزال الأحداث في صياغات مبتسرة، وتبرير المواقف المعارضة للمزاج السياسي العام، عندما يكون الراوي من صنَّاع القرار السياسي، واستناداً إلى ذلك أوضح كيف اختزل الدكتور غازي الأحداث، وكيف ضخم دوره التفاوضي عندما قال:
"في سبتمبر من عام 1994م انتُدبت لقيادة وفد مباحثات السلام في كينيا بدلاً من الرئيس السابق للوفد. كان ذلك التكليف لمرة واحدة فقط، وكانت المهمة التي أوكلت إليّ واحدة ومحددة للغاية وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد الذي صاغه الوسطاء أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها [...] أدى الوفد مهمته بكفاءة عالية، إذ دام الاجتماع حوالي خمس وثلاثين دقيقة فقط. رفض الوسطاء، الذين نصبوا أنفسهم قضاة في ذات الوقت، تعديل إعلان المبادئ فكان البديل هو أن تموت مبادرة الإيقاد التي أصبحت بالفعل بعد ذلك الاجتماع العاصف كبيت مهجور تخرقه الأنواء من كل جانب [...] بصفتي رئيس الوفد في تلك المهمة الفريدة تعرضتُ لهجمة شرسة من الإعلام الغربي وُصفت فيها بأسوأ النعوت ومن بينها بالطبع أنني شخص متطرف، لكنني على الصعيد الشخصي لم أنم أقرّ عيناً ولا أشفى صدراً من نومي في تلك الليلة."
يرى الدكتور سلمان أن هذه الرواية فيها اختزال مخل، وعرض مضلل للقارئ، علماً بأنَّ الدكتور غازي لم يُكلف لمرة واحدة، بل استمر تكليفه لرئاسة وفد المفاوضات حتى نوفمبر 2003م، أي بعد ما وقَّع بروتوكول مشاكوس الذي استند إلى مبادئ الإيقاد التي اعتمدتها حكومة الخرطوم عام 1997م، دون اعتبار للتكليف السابق رئيساً لوفدها، وقَبِل رئيس الوفد أن يستمر في المفاوضات دون تقدير لموقفه السابق، بدليل أنَّه وقَّع على بروتوكول مشاكوس الذي استندت على مبادئ الإيقاد في 20 يوليو 2002م، وبناءً على ذلك عدلت الصحافة الغربية من وصفه"بأنه شخص متطرف" عندما رفض مبادئ الإيقاد، إلى وصفه مع صنوه سلفاكير ميارديت: "بأنهما رجلا دولة، يتميزان بالحكمة والمسؤولية". ويعلق الدكتور سلمان على الموقف المتناقض، قائلاً: " أشارت السيدة هيلدا جونسون في كتابها إلى رأي الدكتور غازي في بروتوكول مشاكوس، ودوره في التفاوض والتوقيع عليه. وأوضحت أنه ذكر لها أنه لم يكن هناك تطابقٌ في الآراء حول بروتوكول مشاكوس داخل الحكومة، ولكنه تشاور مع أعضاء الوفد، واتصل بالسيد رئيس الجمهورية، وكبار المسؤولين قبل التوقيع عليه. وأضاف "بالنسبة لي فقد كانت هذه فرصة العمر التي لايمكن إضاعتها. لقد كان أمامي في تلك اللحظة بالذات مستقبل السودان. إنه لا يمكن لقائدٍ يملك عقلاً سوياً إضاعة تلك الفرصة." وبعرض هذه المواقف المتقابلة حاول الدكتور سلمان أن يقدم رسالةً إلى القارئ السوداني مفادها أنَّ صناع القرار السياسي في ذلك السودان لا يملِّكون الحقائق الكاملة للمواطن الذي يفاوضون باسمه، بل يميل أكثرهم إلى العرض المبتسر الذي يخدم قضاياهم الآنية.
وبعد هذا المدخل النقدي للساسة السودانيين في شخص الدكتور غازي صلاح الدين حاول الدكتور سلمان أن يقدم إضاءات تاريخية ساطعة ومفيدة لفهم مسار المفاوضات، ولتحديد دور كل القوى السياسية من قضية تقرير مصير جنوب السودان، الذي تجسَّد بصفة رسمية في إعلان فرانكفورت، ممهوراً بتوقيع الدكتور علي الحاج مُحمَّد نيابة عن حكومة السودان والدكتور لام أكول عن فصيل الناصر المنشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، وذلك في 25 يناير 1992م، وقد نصّت الفقرة الثالثة من الإعلان: "بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار." وحسب تفسير الدكتور سلمان أنَّ هذه الفقرة لم تستعمل صراحة مصطلح "تقرير المصير"؛ لكنها أنها أشارت إلى المُقوِّم الأساس لهذا المبدأ، وهو الاستفتاء. ولذلك يرى الدكتور سلمان أنَّ رفض الدكتور غازي صلاح الدين وحكومة السودان لمبادئ الإيقاد لسنة 1994م، بحجة أنها تضمنت بنداً يقضي بتقرير مصير جنوب السودان، رفضاً غير مبرر في صياغ الأحداث التاريخية التي شكل قاعدتها إعلان فرانكفورت لسنة 1992م.
ولا يحصر الدكتور سلمان نفسه في إعلان فرانكفورت بأنه ضربة البداية في مسار تقرير المصير الذي وافقت عليه الأطراف السودانية المتفاوضة والمتصارعة، بل يردُّ ذلك إلى وقائع الاجتماع الذي عقدته الحركة الشعبية لمكتبها السياسي بمدينة توريت في السادس من سبتمبر 1991م، وأصدرت بموجبه حزمة من القرارات، أهمها القرار رقم (3) الذي نصّت الفقرة الثانية منه على الآتي:
"النظام المركزي للحكم في السودان، والذي يستند على دعائم العروبة والإسلام مع إتاحة الحق بإقامة نظمٍ لحكمٍ محليٍ ذاتي أو دولٍ فيدرالية في الجنوب (أو أي أقاليم أخرى) تمّت تجربته، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لذلك تأرجح السودان بين الحرب والسلام منذ الاستقلال، وأخذت الحرب 25 من 36 عاماً من هذه الفترة. في أية مبادرةٍ للسلام مستقبلاً سيكون موقف الحركة الشعبية من نظام الحكم هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفيدرالي، أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة، أو تقرير المصير."
يعتقد الدكتور سلمان أنَّ هذا القرار كان يمثل نقطة تحول في شعار السودان الجديد الموحَّد الذي رفعته الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983م، وأنَّه كان بمثابة قرار استباقي لإفراغ دعوة الفصائل الجنوبية المنشقة النازعة نحو الانفصال من محتواها، وبذلك يدحض الدكتور سلمان فرضية الدكتور الواثق كمير، وبعض الشماليين في الحركة الشعبية، التي تعزو التغيير في موقف الحركة الشعبية من الوحدة إلى الانفصال إلى مفاوضات السلام الشامل، ومقتل الدكتور جون قرنق في أواخر يوليو 2005م. ولعلنا نتفق مع الدكتور سلمان أنَّ مثل هذا الافتراض المتأخر فيه قراءة مغلوطة لتسلسل الوقائع التاريخية، فضلاً عن أنَّه يغفل الواقع الذي تشكَّلت فيه الحركة الشعبية لتحرير السودان في أحضان نظام منقستو هايلي مريام الذي كان يرى في شعار السودان الجديد كرت ضغط يمكن أن تمارسه حكومة أديس أبابا على الخرطوم لمحاصرة الفصائل المناهضة لنظامه في إثيوبيا، ولا شك أنَّ هذه الرؤية قد تبدلت بعد موت منقستو في مايو 1991م، حيث فقدت الحركة الشعبية أهم حليف لها في المحيط الإقليمي، وبذلك عمدت إلى تغيير أجندتها السياسية؛ لتواكب المتغيرات الحادثة.
وبعد ذلك ينتقل الدكتور سلمان إلى توصيف الواقع الذي أفرزته مبادرة الإيقاد لسنة 1994م، والتي يعتقد أنها لم تأت من فراغ سياسي، بل أُسست مفرداتها على مخرجات مؤتمر توريت لسنة 1991م، وإعلان فرانكفورت لعام 1992م؛ ولذلك يرى أنَّ رفض الدكتور غازي صلاح الدين لمبادئ الإيقاد لم يكن رفضاً منطقياً، بدليل أنَّ الحكومة التي يفاوض بالنيابة عنها قد أشارت ضمناً إلى حق تقرير المصير في إعلان مبادئ فرانكفورت الذي أبرمته مع فصيل الناصر المنشق، وراجعت موقفها الرافض لمبادئ الإيقاد عندما أقرَّتها عام 1997م دون تقديم أدنى مسوغٍ موضوعي يشفع للرفض الذي تبنَّاه الدكتور غازي. وفي هذا السياق السياسي التقطت الحركة الشعبية الأم مبادئ مبادرة الإيقاد، واستخدمتها في مفاوضاتها مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي؛ لانتزاع حق تقرير المصير، حيث وقّعت الحركة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي اتفاقية القاهرة في 13 يوليو 1994م، ومع حزب الأمة اتفاقية شقدوم في 12 ديسمبر 1994م، ثم اتفاق قوى المعارضة السودانية الشمالية الرئيسة في 27 ديسمبر 1994م. وقد مهّدت هذه الاتفاقيات الطريق لمؤتمر القضايا المصيرية الذي نظمته المعارضة الشمالية (التجمع الوطني الديمقراطي) في أسمرا في يوليو 1995م، ودعت الحركة الشعبية لتحرير السودان لحضوره، ثم خرج المؤتمرون بجملة من التوصيات، أهمها الاعتراف بحق تقرير المصير، متعللين بأنه سيسهم في إنهاء الحرب الأهلية، ويعزز استعادة الديمقراطية في السودان، ثم يمهد الطريق لبناء سودان جديد قائم على العدالة والديمقراطية. وبعد فترة وجيزة من إعلان مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا وقعت حكومة السودان اتفاقية الخرطوم للسلام في إبريل 1997م، باعتبارها تتويجاً للمسار الذي بدأه نظام الإنقاذ في محادثات فرانكفورت لسنة 1992م. ثم أخذت تلك الاتفاقية بُعداً دستورياً عام 1998م، حيث ضُمنت في المادة 139 من دستور السودان لعام 1998م التي تقضي بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وفي هذه الأثناء تسربت بعض المياه من تحت جسر الإنقاذ، حيث أفضى صراع القصر والمنشية إلى خروج المؤتمر الشعبي، بقيادة الدكتور حسن الترابي، من عباءة المؤتمر الوطني الحاكم. بعد فترة من تلك الأحداث العصية التقى حزب المؤتمر الشعبي بالحركة الشعبية لتحرير السودان في جنيف في 17 فبراير 2001م، ومثّل الحركة الشعبية في ذلك اللقاء باقان أموم وياسر عرمان، بينما مثّل المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام، وعمر إبراهيم الترابي. ووقّع الطرفان "مذكرة تفاهم بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني الشعبي"، في 19 فبراير عام 2001م. ومن أهم بنود تلك المذكرة البند الرابع الذي أكّد الطرفان فيه: "أنَّ حق تقرير المصير حق إنساني مشروع، وأن وحدة السودان يجب أن تقوم على إرادة أهله الطوعية، وقد أدان الطرفان محاولات النظام الأخيرة التنصّل عن حق تقرير المصير بعد أن التزم به في المبادرات والاتفاقيات السابقة." وقد علَّق الدكتور سلمان عن هذه التحولات السياسية، قائلاً: وبذلك "تأكّد للحركة أن المفاصلة داخل البيت الحاكم في السودان لن تؤثر على انجازها السياسي والقانوني التاريخي، وأن الحزب السوداني الوليد قد انضم إلى ركب المعترفين بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعليه لم يعد ذاك الوضع يستثني أي حزبٍ سياسيٍ شمالي."
في ضوء هذه الخلفية التاريخية لمسار المفاوضات يطرح الدكتور سلمان حزمة من الأسئلة المحورية المستقاة من مقال الدكتور غازي صلاح الدين: "ما الذي حدث لخطاب الدكتور غازي، ومهمته التي أداها بكفاءةٍ في سبتمبر عام 1994م؟ بل ما الذي حدث لوعده وتصميمه أن يسلّم السودان كاملاً للأجيال القادمة؟ وماذا عن تأكيده أن حق تقرير المصير تحت أية مسميات قد تؤدي إلى الانفصال أمرٌ غير وارد، وأن الحكومة غير مستعدة للتباحث حوله؟" ويبدو أن الدكتور سلمان أورد هذه الأسئلة الحرجة ليكشف عن سوءات التناقض في خطاب المفاوض السوداني، علماً بأن الدكتور غازي نفسه قد عُين رئيساً لوفد الحكومة المفاوض في كينيا، والذي وقَّع الاتفاق الإطار ي في ماشاكوس في 20 يوليو 2002م، وبموجبه مُنح حق تقرير المصير لجنوب السودان بعد مرحلة قدرها ست سنوات، وذلك من خلال استفتاء يقضي بالوحدة أو الانفصال، ويتم أجراؤه تحت رقابة دولية. ويصف الدكتور سلمان تلك المرحلة من عمر المفاوضات بقوله: "تواصل التفاوض حول قضايا الثروة، والسلطة، والإجراءات الأمنية، والتي أصبحت، بعد موافقة الحكومة الرسمية على حق تقرير المصير، تفاصيل لا أكثر ولا أقل. وظلَّ الدكتور غازي رئيساً لوفد التفاوض حتى 29 نوفمبر عام 2003م، حيث حلّ محلَّه النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه، رئيساً لوفد التفاوض. وهذا يعني أنَّ الدكتور غازي ترأس وفد السودان لمفاوضات السلام لمدة عامٍ ونصف (مايو 2002 حتى نوفمبر 2003م)، تمَّ خلالها اتخاذ أهم، وأخطر قرارٍ في تاريخ السودان." بهذه الملاحظة الفطنة يريد الدكتور سلمان أن يؤكد القول بأنَّ مسؤولية اتفاقية نيفاشا لسنة 2005م يجب أن تُوضع على عاتق الدكتور غازي صلاح الدين بدلاً عن الأستاذ علي عثمان محمد طه، الذي أصبح بمثابة كبش فداء لبعض الأخطاء التفاوضية التي وقعت فيها الحكومة السودانية.
بهذه الكيفية استطاع الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان أن يرسم مساراً تاريخياً لحركة المفاوضات السودانية، ويقف عند المحطات المهمة التي قادت إلى انفصال جنوب السودان، ويبرهن أنَّ الأحزاب السياسية سواء كانت في الشمال أو الجنوب قد أقرَّت حق تقرير المصير لجنوب السودان من زوايا مختلفة، ومصالح قطاعية ذات قواسم مشتركة، ومتناقضة في آنٍ واحدٍ. إذاً ما الملاحظات العامة التي يمكن أن نطرحها بشأن مقال الدكتور سلمان الموسوم بــ "مسؤولية انفصال جنوب السودان"؟
أولاً: يعكس المقال مهارة المفاوض الجنوبي في استدراج القوى السياسية الشمالية للاعتراف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وتتجلَّى هذه المهارة في أن المفاوض الجنوبي كان يتفاوض مع أكثر من جهة على حداه. إذاً تعدُّد موائد المفاوضات أضعف وضع الحكومة السودانية والأحزاب المعارضة لها في الشمال. واللوم في هذا الشأن يجب أن يُلقى على عاتق الحكومة السودانية التي عجزت عن نقل المفاوضات من إطارها القطاعي (الحزبي) إلى إطارها القومي، بمعنى أنها لم تشرك القوى السياسية الشمالية، أو الشخصيات القومية والمهنية في قائمة المفاوضين الذين لم يكن بعضهم من ذوي الخبرة العملية أو المهنية في مجال المفاوضات، بدليل أن الوفد الذي ترأسه الدكتور غازي صلاح الدين الدين كان يتكوَّن من السادة: إدريس محمد عبد القادر، ويحيى حسين بابكر، ومطرف صديق، وسيد الخطيب، وواضح من هذه الأسماء أن تمثيلهم التفاوضي استند في المقام الأول إلى عضويتهم في المؤتمر الوطني. والطريف في الأمر أن الدكتور غازي صلاح الدين، بعد أن أكل الذئب الغنم القاصية، بدأ يطالب أهل السودان بأن يصطفوا ضد قرار الاتحاد الأفريقي الأخير الخاص بالأزمة السياسية بين دولتي السودان وجنوب السودان، قائلاً:
"السؤال المطروح بقوة في هذه اللحظة هو ما هي خطة العمل لمواجهة هذا المنعطف الحرج الذي سيقرر مصير السودان. أولاً: لا بد من إدراك أن التحدي هو تحدٍ قومي، وليس مقتصراً على فئة، أو قبيلة، أو حزب. إن الخطة التي تحقق أكبر اصطفاف وطني، على غرار ما حققه احتلال هجليج، هي الجديرة بالنجاح. ثانياً: إن المعركة سياسية وقانونية في آن واحد. وسيكون من المفيد أن يأتمر قطاع واسع من القانونيين السودانيين ليبرزوا التناقضات القانونية السافرة في القرار، مثل مبدأ تحول الوسيط إلى قاض. [...] على الصعيد السياسي ينبغي إشراك كل القوى، والشخصيات السياسية السودانية، والخبراء، والمختصين في صياغة قراءة موحَّدة للأزمة، ومن ثم سياسة وطنية موحَّدة تجاهها. على الصعيد الدبلوماسي، على السودان أن يسعى فورًا لشرح مقتضيات القرار ومخاطره للدول العربية لمنع انزلاقها نحو تأييد القرار الإفريقي، وأن يسعى في ذات الوقت في حملة دبلوماسية نشطة لتعديل مواقف الدول الإفريقية المفردة تجاه القرار. وسيكون من المفيد أن تشارك في هذه الحملة كل القوى السياسية والمؤسسات القومية والشخصيات السودانية ذات العلاقات الإقليمية والدولية."
لاشك أنَّ هذه مبادرة محمودة وطيبة، يُشكر عليها الدكتور غازي صلاح الدين، لكن يجب أن نحاسب الروح الإقصائية التي انتظمت مسار حكومة الإنقاذ منذ تاريخ إعلانها في يونيو 1989م، ووضعتها في خانة المسؤول الأول من الأزمات السياسية الحادثة في السودان. فليس من الأجدى أن نلجأ لتصحيح التوجهات الإقصائية للنظام في أوقات الأزمات والإحن، بل يجب أن تكون هناك استراتيجية عامة، تميز بين الثابت والمتغير في السياسة السودانية، وتوضح كيف يصطف الناس حول الثابت الذي يتشكل في كنف سيادة القانون، وعدالة توزيع الفرص في الخدمة العامة والقطاع الخاص، وسماع الرأي الآخر بشأن القضايا المصيرية، وكيف يتدافعون حول المتغير الذي يتمثل في تفريعات الثابت، وتباين الحلول المطروحة بشأنها.
ثانياً: يبين مقال "مسؤولية انفصال جنوب السودان" بحلقاته التسع أنَّ الدكتور سلمان يقف في صف أولئك الذين كانوا يساندون وحدة السودان، بشقيه الشمالي والجنوبي، ويعتقدون أنَّ هناك مسؤولية يجب أن تلقى على عاتق الذين ساهموا في صياغة قرار تقرير المصير الذي أفضى إلى انفصال الجنوب عن الشمال؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى الواقع من خلال عدسة مقعَّرة، تبيّن أنَّ انفصال الجنوب عن الشمال لن يكون خاتمة المطاف في صراعات القطرين المتجاورين؛ لأنَّ الاختلاف في الحدود الجنوبية لشمال السودان، كما تصوروا، سيكون موطناً من مواطن النزاع الملتهبة بين القطرين، نسبة للتداخل القبلي بين القبائل الحدودية بشأن موارد المياه والمراعي، وبعض الأواصر الاجتماعية، فضلاً عن ذلك، فإنَّ تعريف مَنْ الشمالي ومَنْ الجنوبي سيخلق إشكالية بالنسبة للجنوبيين المقيمين في شمال السودان، والشماليين المقيمين في جنوب السودان، وإشكالية هذا التعريف ستلقي بظلالها على مشكلة أبيي الحدودية. ويبدو أنَّ أصحاب هذا الرأي كانوا محقين فيما ذهبوا إليه؛ لأنَّ آثار تداعيات الانفصال لا تزال ماثلة في الشمال والجنوب، وأنَّ عملية تحويل واقع الصراع من تمرد على السلطة الفيدرالية الحاكمة في الخرطوم إلى واقع دولتين متجاورتين ومتصالحتين في آنٍ واحدٍ لن يكن بالأمر السهل، بل يحتاج إلى رؤية استراتيجية فاحصة، ترعى مصالح الشعبين، بعيداً عن التشنجات السياسية غير المدروسة، والشاهد على ذلك مخرجات الاتفاق الذي وُقِّع حديثاً بشأن قضية ترحيل البترول من الجنوب إلى الشمال. وبناءً على هذه الحيثيات جاء عنوان مقال الدكتور سلمان في صيغة أقرب إلى التساؤل القانوني والسياسي: مَنْ المسؤول من انفصال جنوب السودان؟ وفي طرح موضوعي ومهني لحيثيات القضية استطاع المؤلف سلمان أن يحدد مسؤولية كل طرف من الأطراف السياسية في سياقها التاريخي والسياسي، دون أن يبرئ أيَّاً من القوى السياسية من عملية الانفصال، وإن اختلفت درجات تحمل المسؤولية، التي يقع وزرها الأثقل على عاتق حكومة السودان، أو المؤتمر الوطني بصفة أفصح.
ثالثاً: آمل أن يثير هذا المقال حواراً موضوعياً حول قضية انفصال جنوب السودان، كما أشار المؤلف إلى ذلك في صدر مقاله، وكيف تتمُّ معالجة التداعيات الناجمة عن ذلك القرار السياسي الذي يحسبه الدكتور سلمان "أهم وأخطر قرارٍ في تاريخ السودان". واعتقد أنَّ أوْلى الناس بالحديث عن هذه القضية بشفافية وموضوعية هم أولئك الذين ساهموا في صياغة قرار تقرير المصير، والنتائج التي ترتَّبت عليه؛ لينفضوا الغبار الذي ران على مذكراتهم التفاوضية، ويفيدونا بما حدث داخل القاعات المغلقة؛ لأنَّ الحلول الموضوعية لأي قضية يجب أن تؤسَّس على قاعدة واسعة من المعلومات القائمة على الشفافية، والتوثيق الدقيق لمفردات الأحداث، دون أن تكون أحكام الجهات المهنية المتخصصة ذاهلة عن مقاصد الأشياء. وهنا أخص بالذكر الأستاذ علي عثمان محمد طه، والدكتور علي الحاج محمد، والدكتور غازي صلاح الدين، والأستاذ سيد الخطيب أن يكتبوا مُذكّرات صادقة عمَّا دار خلف الكواليس في نيفاشا وما قبلها، ويوثّقوا لتاريخ المفاوضات بشأن قضية الجنوب، كما فعل الجنرال الكيني لازاروس سومبييو في كتابه المعروف بـ "الوسيط: محادثات سلام السودان"، والوسيط النرويجي هيلدا جونسون في كتابها الموسوم بـ "بسط السلام في السودان: القصّة الخفيَّة للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهليَّة في إفريقيا".
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]