الأستاذ علي محمد صديق ( 1945 – 2012 )

 


 

 



abdallashiglini@hotmail.com

الأستاذ " علي محمد صديق " (1945- 2012 )

(1)
لَوْ دَرَتِ الدُّنيا بِمَا عِندهُ .. لاستَحْيتِ الأيامُ من عَتبه
لعَلَها تَحْسِبُ أنَّ الذي .. ليسَ لدَيهِ ليسَ مِن حِزبِهِ
لا بُدّ للإنسانِ مِن ضَجعَةٍ .. لا تَقْلِبُ المُضْجَعَ عن جَنبِهِ
يَنسى بها ما كانَ مِن عُجْبِهِ .. وَمَا أذاقَ المَوْتَ مِن كَربِهِ
نحنُ بَنُو المَوتى فَمَا بالَنَا .. نَعَافُ مَا لا بُدّ مِن شُرْبِهِ

أبوالطيب المتنبي
(2)
للأرياف عَزوةٌ لا يعرفها إلا مَن تذوق شرابها . لا يأتي إلا من بعد عُسرة . ولكنها مذاقها قرنفُل الوجد من بعد الضنى . هو ابن الأرياف التي تحدرت من الشمال إلى الوسط إلى جبال النوبة في كردفان . تجري في دمائه صنابير العشائر ، فكان سودانياً تمدد آفاق البلاد بطولها والعرض .
(3)
رحل عنا الأستاذ ( علي محمد صديق ) في الثاني من أغسطس 2012 . من منا لا يذكر أن هطول الأمطار تنبؤنا ببشائر الخيّرين حين يرحلوا ويغسلوا دموع الأحباء بمطر الخير . من منا لا يذكر الثاني من أغسطس 1988 ، يوم الفيضان   العظيم. كان سيدنا في محفل الخير غارقاً في محبة أهله والعشيرة بعد أن قدم عطاء ثرياً لوطنه عندما كان في سدة العمل العام قيادياً من أعمدته ومثّل وطنه خير تمثيل في المهاجر ،وكان من أعمدة منتدى السودان الفكري شعلة وطنية وضاءة .وكان علماً ضمن رابطة الإعلاميين في الإمارات وقامةً هلاليةً سامقة .
(4)
ولد في " المجلد" . درس من بعد "الدلنج" في مدارس الأحفاد . وكان من المبرزين فتم قبوله بالمجان . درس على يد قامات تعليمية سامقة : منهم الأستاذ موسى المبارك ، والأستاذ الصادق عبد الماجد والأستاذ عبد الله الشيخ البشير  وكان من الأوائل عند دخولهم جامعة الخرطوم في بداية الستينات .كان رفيقاً لقريبه الشهيد "القرشي" . أحب أن يعمل في الحكومات المحلية  بعد التخرج ، وعمل ضابطاً إدارياً في" الدلنج" وجاب معظم الأرياف البعيدة ، التي لم تزل حتى تاريخه تحاول الوثوب من دولة الرعايا إلى دولة المواطنة . عمل ضابطاً إدارياً في منطقة " أبيي"في أواخر الستينات وأنجز في المنطقة بعض المشروعات الزراعية. له في صحافة السبعينات عمود ( أم جركم ما بتاكُل خريفين ).
(5)
كان ضمن الكوكبة التي استقطبتها السلطة أيام مايو فصار مسئولاً عن  أمانة الشباب أيام الحكم المايوي . وشارك  مثل رفاقه دكتور منصور خالد ، والأستاذ جمال محمد أحمد والدكتور جعفر محمد علي بخيت  ،و الأستاذ إبراهيم منعم منصور ، ودكتور سيد أحمد الجاك ودكتور بشير عبادي  وأبل ألير وغيرهم . جميعهم كانوا نماذج صادحة  للعلاقة بين  ( المثقف والسلطة ) وتداعياتها ، ولكنهم جميعاً عقدوا العزم أن يدفعوا ضريبة لوطنهم  وفق رؤاهم الخاصة حين سنحت الفرصة للعمل العام ، وهو موضوع اختلفت فيه الرؤى وتعددت فيه الروافد ما بين الوسائل والأهداف . وهو طريق وعِر تشتت فيه الصفوة .
(6)
إن اختلفت مع الأستاذ " علي محمد صديق " في حوار أو في قضية أو مسألة ،  يترك كل شيء وراءه من بعد الحوار،  لقبه المُحِب ونُبل سريرته وأصالة معدنه  ولا يفسد للود بينكما قضية . لم ينس والمنتدى الفكري حين  كرمه  في أكتوبر من العام الماضي أن يقدم اعتذاراً مفتوحاً لكل الذين لم يستوفِ طبعه أن يكون رفيقاً رءوفاً في الخلاف الفكري معهم . فهو عاطفي رقيق الاحساس ولن تعرف ذلك إلا عند المنعطفات الحادة . تغتسل عينيه في ساعات الوفاء ، فما أجمل منْ تطبَّع بطباعه . كالماء عندما يلقى الصخر يضجّ بالرغوة ، ثم لا يلبث أن يتلمس طريقاً هادئاً للمسير . أحب وطنه واحداً موحداً .ولم تُثنِيه كل القرائن الموضوعية بهزيمة الوحدة ، ولم يَقنَع بغير وطنٍ واحد يسع الجميع. فكان يغضب حين تدُل البعرة إلى البعير. غضبُ المُحب الذي وهب وطنه دمه وعمره لينهض .
(7)
هو من جيل العقد الثاني من بعد الاستقلال . التحق بالعمل العام منذ الستينات إلى الثمانينات. وقد اهتزت عاطفته كثيراً عند ميول القيادة المايوية لموالاة التطرف الإسلامي آخر أمرها . وأخرجه الزمان حزيناً تاركاً وطنه للمهاجر. وفي الخليج تنوعت خبراته وكان ممثلاً لوطنه خير تمثيل . عمل في البحوث والدراسات والمنتديات الثقافية والإعلامية  والرياضية . فمن منا لا يذكر محاضرته مع الدكتور "علي زايد "، عن وقائع أحداث ثورة أكتوبر 1964 كشهود عيان .وهما يحكيان قصة استشهاد القرشي ورفقته معهما  . وقد قدم الاثنان استقراءً للمستقبل منذ العام 2002 حين تنبآ بأن الوطن سوف يتآكل من أطرافه .
كانت حياته أيام الطلب تضج بالعمل العام ، وكان خطيباُ مفوهاً  وقيادياً  في المؤتمر الديمقراطي الاشتراكي في الجامعة حينما كان التمثيل الطلابي في جامعة الخرطوم نسبي و يمثل الجماعات الطلابية الفكرية المتنوعة .
(8)
في المهاجر رفد الحياة الثقافية بالكثير من المحاضرات والمداخلات الثرية ، كما قدم لنا الراحل ضمن مجموعة المحاور الست التي أعدها منتدى السودان الفكري خلال نصف عام  ( حول أزمة السودان) 2010 ، دراسة وطنية بامتياز عن المخاطر والمآلات . سكب فيها لطائف خبرته و عصير تجربته في العمل العام في أشباه المدائن والأرياف السودانية . وقد حفظنا ملف الدراسة ضمن مجموعة الدراسات التي أثرى بها منتدى السودان الفكري  الحياة الثقافية والفكرية والوطنية في المهجر .و خلال عام من  المحاضرات والمباحث والحوارات ، تتساقط الأخبار علينا بالثمار العجفاء وهزيمة الوطن الواحد وتناطُح عَنَزتي السياسة الغاشمة ، والجميع يشاهد المباراة بحسرة  .انهزمت الطموحات و الأحلام  في وطن السلام والاستقرار والتنمية والعدالة .
قدم الراحل دراسته ( وحدة السودان المعادلة الصعبة بين المرغوب والممكن ) مفتتحها بالفقرة الآتية :
(هل يأتي يوماً على السودان حيناً من الدهر لن يكُ فيه شيئاً مذكوراً؟ سؤال مشروع ، يكتسب مشروعيته من واقع حال السودان المثخن بجراحات البلايا – لا الابتلاءات ، وهي بلايا لأنها تأتي بفعل الإنسان وتأتي الابتلاءات بفعل عوامل خارجة عن إرادته وسوء تدبيره ، يكتسب عقلانيته من المخاطر والمهددات التي تتربص بوحدة السودان وبأمنه وسلامته ، وبمستقبله )..
(9)
ها هي المنافي تلقي بثقلها علينا كل حين ، وتحزّ أعناقنا بالفراق . نذكر بالخير أعماله النقدية والثقافية ومحاضراته الثرية في المنافي ومنتدى السودان الفكري وعطاء الخير الفسيح ، وهو يتلقى بصبر أخبار فرار الأحباء من أسرته والأسر السودانية من مواطنها في جنوب كردفان وقد لجأت إلى وسط وشمال كردفان .إنها من بلايا النظام وسلطة الحكام القساة على الأهل في النجوع والأرياف ، بعد أن صار للسودان محوراً آخر لشيطان حرب جديدة تنمو وتتسع، وهذه المرّة ضد أبناء الأرياف الذين يحلمون أن يصبحوا مواطنين لا رعايا.
(10)
نسأل المولي أن يسكنه مسكن أحبائه الذين اصطفي ، فقد أحب وطنه واحداً موحَداً . وقدم صورة مشرفة داخل السودان و في المهاجر ، لكن انكسر خاطره  آخر المطاف بسيل حزنٍ لم تردعه الجداول عن أن يقتلع خيام الفأل  ، يجرفها  إلى نهر الانفصال وقيام دولتين تحملان أوجاع شعبيهما ولا يحس الحُكام بوخز الضمير !  .

عبد الله الشقليني
5/8/2012

 

آراء