عليَّ وعلى شعبي!
د. محمد بدوي مصطفى
20 October, 2012
20 October, 2012
mohamed@badawi.de
عندما يتمعن المرء منَّا حياة الأمم الإسلامية تارة وحياتنا في بلاد النيل تارة أخرى، سيما في الحقبة الزمنية الأخيرة ربما يطرق رأسه المنتفخة سؤال: ماذا أصاب البلد وكيف غدى الناس بها؟ وحينما يتدبر وقتئذ حركتها وسكونها ومدّها وجذرها يُصاب دون أدنى شك بحالة اكتئاب حاد وإحباط ذريع لما آلت إليه الحياة على ضفتي نيلها الخالد. كيف لا والبسطاء من أهلنا يتجرعون في كل لمحة ونفس جغيمات وقائعها المسمومة وينهلون من ينابيع كوارثها التي لا تنضب. السوداني البسيط يجد في كل ركن وبكل محفل وعلى أعتاب كل سوق وداخل أسوار كل حارة أن الحياة لا تفتأ أن تثقل كاهله وهو مكسور الخاطر يركض دون لأي وراء لقمة العيش البائتة، وبين هذا وذاك لا يتركه هؤلاء فيملئون أذنيه بغوغاء التعصب وهتافات الزيف ووعود الفراغ التي - بكل أسف - أضعنا من جرائها أعز ما نملك: أرض الوطن ومهد حضارتنا التي ضربت بجذورها صحائف التاريخ. باتت الحياة من وطأتها عليه علقما ولظى، فصار السعير شرابه بعد صيام والزقوم مأكله بعد حرمان وكل يوم ينكسر أمام أشباح الغلاء المتفاقم فيظل يستجير من الرمضاء بالنار. غدى التقشف اللاإرادي يحزم طوقه على عنقه حتى وصل به أرذل العيش وذاك عبء تنوء بحمله كل نفس تواقة لأبسط أبجديات الحياة الكريمة. لم تفارق شفتيه كلمة "يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم" عسى ولعل أن يفصح صبره السرمدي هذا عن فرج وانفتاح. يرقب في توجس وخيفة ما تعانيه دنياه الصغيرة من خراب ديني، دمار نفسي، انحطاط سلوكي وانزلاق أخلاقي أصابها وتحول عنها إلى دنيا كل من يعرفه عن بُعدٍ أو عن كثب وما فتئ فيروس هذه المخمصة اللاإنسانية، التي ضربت في دياره بيتا وخيمة، أن ينتشر. نعم، ويتزايل في ثوب قدسيّ باسم الدين وفي جلباب التقوى بأمر الشرع فطاف كل شبر من أرضه العزيزة. هانحن ذا نقف ونتساءل: أين بلغت بنا السبل بعد ثلاثة وعشرون عاما من مبلغ؟ وأين رمت بنا أياد القدر من رمية بين الأمم، عربية كانت أم إفريقية؟ ضاعت سلة العالم للغذاء وانقضى عهد عملاق أفريقيا المهاب! فماذا ننتظر؟
في كل بلد تنتشر فتاوى الجهالة التي لا تمت للشرع بصلة. أهل تؤمنون أن النبي تزوج من أم المؤمنين عائشة (رضى الله عنها) وهي في سن السادسة وبنى بها وهي في سن التاسعة؟ ماذا فعلنا بربكم عندما نادي المنادي بوأد الطفلة في ثوب العروس؟ والطفلة قربان الشيوخ والشيوخ على أشكالها تقع. ففي تونس يُنادى بتحليل الجواري وما ملكت الأيمان وهناك ينادون بجهاد الشعوب وما وراء البحار يصبون المال لهم ليفعلوا بنا ما يشاءون. أهل يهدفون أن يرجعوا عجلة التاريخ إلى جاهلية القرون البالية؟ نعم كلهم من نفس الطينة، طينة البؤس، ومن نفس العملة الواحدة الموحدة، نعم هم "يورو" التعصب لا التسامح وهم عملة الخراب لا البناء وهم أبعد مما نعتقد ونؤمن! فهناك في بلاد الطالبان تسير عقارب الساعة إلى الوراء؛ فهم استطاعوا دون غيرهم أن يمحوا صحائف التاريخ بمساحة الجهل الفتّاك وعليّ وعلى القوارير. ألم تروا كيف أتوا – باسم الرحمن – على كل ما ترك التاريخ لهم من إرث عمّره أجداد البشرية بجهد جهيد وعرق مديد؟ فالغد يحمل ما نتطير به، فلا تأمنوا لهم جانبا ولا تستغربوا، لو أتى هؤلاء على اهرام مروي، ولا تسألوا إن حُطِّم ترهاقا وحضارته بعد غد، وليس الغد ببعيد. فما فعله طالبان تعلّم منه أهل مالي والصحراء من الطوارق، إذ أتوا باسم الحق على الأخضر منه واليابس! ومن ثمّ قضوا على رجال سطروا اسماءهم في أكاليل التاريخ بمداد النور وحبر الشموخ اللؤلؤي. أهل نسيتم كيف أحكموا الحبل على حلاج بلاد النيلين لأنه قال (أنا الحق)، وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟ أهل هو غزو جديد علينا من تلك الجماعات التي صارت تكتشف أهلنا من جديد وتنقب عن أراض في ثوب طفلة العرس، فنحن وهي قربان الشيوخ. كل يوم تشرق الشمس على بلاد النيل فتفيق في رجاء انفراج الكرب وبلوعة استقبال نسيمات عبقة تحمل إليه من سبأ النيل الخبر والخير اليقين. لكن شمس النيل هذي من غرابتها وكأنها أتت من مجرة أخرى! إذ تبزغ في كل ساعة عن مولد ألم جديد وانشطار خلايا عصبة جديدة من تلك الجماعات التي تكاثرت دونما إجهاض، كحبيبات الرمل في رحم أمّ النيل الخصيب. انتشرت تلك الجماعات لتتلون بألوان الطيف المتباينة كالحرباء، فأصبح شغلها الشاغل أن تخرج الناس - لا نفسها - من الظلمات إلى النور وغايتها تبرر الوسيلة. كلها تستوثق بوثاق واحد وتستربط برباط واحد ورايتها: الخراب باسم الدين والدمار بأبخس الأثمان. إنها لا تخشى في انهيار الأمم أحدا ولا تأخذها في الوصول إلى أهدافها لومة لائم ونهجها القويم: عليَّ وعلى شعبي! فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون!