مهرجان العُرس الرئاسي 2004

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com
مهرجان العُرس الرئاسي 2004.
ربما تطرب جامعة هارفارد لأن القيصر من خريجيها ، فخمسة عشر بليوناً من الدولارات التي أمر بها القيصر لنُصرة إفريقيا وإن شممنا رائحة رغيفها الساخن لا غير ، فهي للفقراء :  ( ليلة قَدرٍ هبطت في مهرجان ربَّاني حالِم ).
فتحت عينيَّ من بعد الصحو على مُنبه يقول وقد سبقني إلى الميعاد:
ـ إننا في الخامسة صباحاً بتوقيت المدينة التي عند سَحَرها استيقظت. السادسة مساء بتوقيت نيويورك، فاليوم يوم مهرجان قَبول مُرشح الحزب الجمهوري. أمنية تتجدد بالتمديد  لجورج دبليو بوش  لأربع سنوات أُخر إن هزم منافسه الديمقراطي ، ليَعمُر في بيت الرئاسة الأبيض !.
تقدم بسُترته الداكنة وربطة العُنق الحمراء بغالب ألوانها. القاعة تزينت بسينمائية مُبهِرة:  أرضية.. ترفع ألف ( بلقيس ) من سبأٍ سيقانهُنَّ ليَعبُرنّ ماءها الزجاجي ! .
يد قيصر اليُسرى تُحيي، كمن يعرف الحضور فرداً فردا. بَسمتُه تدرَّبت وأخفَت التقاطيع البلاستيكية إلاّ لِمَن يدقِق في الوجه المُغلف بلمسات المُختصين من خلف الكواليس. قامت الدُنيا البشرية واقفة تُصفق لقيصر . رويدا ثم ابتعد شبح المُرشح المُنافِس من الحزب الآخر ، فاليوم يوم سعد الجمهورية. للمال زينة ورونق. بطر الاحتفال لا يُقاس إلا بمهرجان افتتاح أولمبياد الألعاب ! .
تم اختيار نيويورك بعناية ، لأن زلزال الرئاسة بدأ منها، و (تسونامي ) التفجير قد اختار أطول بناياتها  عُلواً وسمواً.لم تُمسِكا ببعضٍ إلا ساعة الكارثة ، سقطت الأولى ثم لحقت بها الثانية قبل أن تُكمل نحيبها. نذكر جميعاً عندما نُقل الخبر لسيد البيت الأبيض في أذنه، تماسَك بعض الوقت.. ثم إلى المخبأ المُحصَّن دثرته اليد الآمنة العطوفة . هنا لا تعرف الحضارة الجديدة أن يقود المعركة قائدٌ يستفتح سيفه للمُبارزة أو يركب سيارة مكشوفة ككيندي. لقد ولى زمان صدر القائد العاري للرُصاص  ، فبطولة اليوم غير بطولة الزمن الغابر ، لكننا  عجبنا من المخابئ ضد التفجير النووي ، فقد انتهى توازن الرُعب منذ عهد رونالد ريجان ، فلِمَ الفوبيا !.
بدأ القيصر خطابه مُعتذراً عن هَنَّات لُغته الإنجليزية، واعتذر بلُطف أن من تجلس بجوار والده هنالك في الأعلى ـ يقصُد والدته ـ كانت تُصحح نُطقه الإنجليزي  حتى وهو جليس عرش الدُنيا !.
لن نُسرِف في الأغراض الخفية من أن خطاب القيصر بدأ يُدغدغ أحلام فقراء إمبراطورية الغِنى . يصور نفسه واحداً منهم،يُخطئ اللُغة مثل عَامتهم ،و اختارته مشيئة الله لقيادة الأمة، في الزمان والمكان  وأن خياراته من خياراتهم، فهو لم يعُد القيصر بن قيصر ! .
لن نتحدث عن المرايا الخفية على طاولة الإلقاء  والموصولة بكمبيوتر التلقين، لأن القيصر كما يبدو للنظارة والجمهور قد ارتجل المُخاطبة !. يداه فارغتان و حُواة العَصر أخرجوا الرئيس يومها  بسَحنةٍ لم نعرفها من قَبل ، ولغة لم نعرفها عنه . إن سلاسة لُغته عند بدء الموسيقى ، مُقارنة بتأتأة المُناظرة اللاحِقة مع خَصمه ، تُبيِّن  دون شك أن الرجل قد دخل القاعة  من قبل عشرات المرات و قرأ الخطاب على أقل تقدير أكثر من عشرين مرة، وأنه كان بصحبة مجموعة من الخُبراء جلسوا يُلقنونه الدور السينمائي :كيف يكون مُبهِجاً و مُبهراً ورائعاً  ، ثم حزيناً حُزن وطنٍ لم يذُق الطعم المُر منذ كارثة  (بير هاربر ) ، منذ نيف و ستون عاماً مضت ! .
ليوم العيد دوماً بهرجه لدى الصغار، ولدى الكِبار أيضاً ، فهوليود هي الحُلم السماوي في مُخيِّلة عباقرة صناعة الأجساد التي تصلُح للرئاسة !.
لم يدُر بذهني أن الخطاب الرئاسي سيجذبني بسحره ، فكاتبه أو كاتبته المُتخفية عن أنظارنا ،  ذات اختصاص مرموق في علوم النفس البشرية والإعلام وتاريخ الحفريات في قاع ذاكرة الأمة الأمريكية. هذا موعد التذكُر فلا شيء يُترَك للصُدفة ! . قد استحلب الخطاب كل مُبكِيات القاموس اللغوي ونسيَّ العِراق وأوجاعه !. كانت الحادي عشر من سبتمبر بقمتها الإنسانية الدرامية تُفرط القلوب وتُشقق الأكباد ببراءة ضحاياها ، إذ تسلقوا  الدرج وصعدوا المصاعد  لبدء يوم عمل نَشِط ، أو لمصيرٍ أسودٍ  أضمَره أعداؤهم ليُدوِّي صباح يومٍ  مُشرِق بالنار والأشلاء والأضاحي البشرية بمشهد سينمائي من ذات ما تفعله بنا هوليوود في قمة أحلامها ، وخيالها الجامح حين تصور القصص الخيالية ، لتكون حاضرة في المستقبل . جُرأةٌ  لا يعرفها  إلا الخيال الوثاب  !.
لن تُخطئ العين المُبصرة البراءة وهي تلبس لبوس القرابين دون أن تدري، ولن يمحو إنسانيتنا قاموس أحقاد السنين الآسن للسلطة الاستعمارية بحربائيتها الجديدة.فنَحْر الإنسان البريء بقصدٍ هو حِمل ثقيل على الأنفُس، في كل شرائع الدُنيا وكل أعراف الكُتب المقدسة وكتب الحِكَم القديمة.لدموع الإنسان أن تتقاطر على شطآن الجفون وهي تشهد الخطاب المُنضد بالعاطفة، يحكي كيف غادر شباب الإطفائيين بيوتهم الساكِنة الآمِنة لنُصرة من يقْدرون على نُصرتهم، يمدُّون يد العون، ثم قُبِروا معهُم وهُم على جمرٍ كاد يفوق الألفي درجة مئوية. صَهَرتْ المعادن فكيف بالأجساد !.
حكى قيصر الكون كيف أمسك والد أحد الإطفائيين الذين استشهدوا بكتفه عند زيارته رُكام مبنيي التجارة العالمية قائلاً:
ـ سيدي الرئيس.. لا تنسانا.
طفق القيصر يحكي ويصف تقاطيع وجه الأب المَكلوم . نفَث الفاه من دُرر العواطف ولفّنا إعصارٌ حزين. وجدت نفسي أدخُل عالم الإستجرار الإيحائي مشدوداً إلى التلفزة الباهِرة دون وعي ، واغرورقت آلاف الأعيُن في القاعة بالدموع ، من مشهد البراءة المَسفوحة عند الرُكام المُصوَر في خطاب القيصر.
يقولون فاجعة الحُزن الأصغر تُذكِّر بالحُزن الأكبر ، وتطفو على ماء بُحيرة التذكار أعظمها أثراً على النفس :
أذكر اليوم هُنا مُدية دامية لم تزل مغروزةً في الخاصرة الغربية من جسد الوطن ، وامتدت جنوبه الجديد . نار موقدة .
كيف تمتلئ  أنهُر العيون بمائها المالِح،  عندما يشهد الواحد منا كيف انطفأت العاطفة الإنسانية الرحيمة، وعمَّت البشاعة الكالحة بعض أبناء وطننا ذات زمان  ، يحرقون  قُرىً بأطفالها و شيوخها ونسائها بدمٍ بارد . للأنفُس التي تُحِس أن تنشج بالبُكاء ، فالدمع مُبتدأ رد الفعل الطبيعي ، أما الفعل فله جولة أخرى :
عندما تصفو النفوس من بعد الجراح ، ونستبين أن فعلاً لا إنسانياً قد وقع بكل غِلظة تفاصيله ، أياً كانت أرضه و أياً كان مُرتكبه ، فلن يستحق الجُناة إلا أن تصلهم يد العدالة لتقتص منهم طال الزمن أم قَصُر .
عبد الله الشقليني
6/11/2012

 

آراء