دمشق والخرطوم في جوف البركان
abdallashiglini@hotmail.com
( السياسة فنّ في الخداع ،تجد لها ميداناً واسعاً في العقول الضعيفة )
فولتير
( من الداخل ، من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة )
يسوع المسيح |1|
(1)
دمشق :
تحدث الجميع عن الصراع ، بين الشعب والحُكام . ثارات قديمة و الموت ليس على الفِراش.قد تصبح الأشلاء قبضات من تُراب ، ليس لها من قبر يتخذه العشاق مَبْكى. ونسي الجميع تاريخ سبعة آلاف عام مرسومة بأصابع الحجر الجلمود وملامح البشر الذين تخلقوا تحت رمال التاريخ واتحدوا وتفرقوا وتخاصموا وتعاشروا . على أرضها فرحوا وبكى الباكون أمانيهم ونقشوا أحزانهم في قلوب من رماد ، ورحلوا .
في بلاد الشرق نجمة من نُحاس مُحمى ، والقطرات مشروب إلهي عظيم ، لا تقدر عليه شفاه راجفة . قدَّم لها الحسين بن علي ويوحنا المعمدان وجعفر البرمكي رءوسهم على أطباق مُذهبة . وأشْعَرَ فيها "مُظفر النوّاب ":
(لديها من الوقت ما يكفي لتُرتب قبلةً مع مُذنَّب عابر، ومن الشهوة ما يدعو نحل الكون لرحيقها...، شقيقة بغداد اللدودة، ومصيدة بيروت، حسد القاهرة، وحلم عمان، ضمير مكة، غَيرة قرطبة، مقلة القدس، مغناج المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم.)|2|
فالحديث عن روحها التي لا تبلى ، وجسدها الذي يعيد تشكيل نفسه من بعد تاريخ طويل ، لن يعفينا من وقفة مع النفس ، فآلة الهدم الجديدة أكبر من خطوب البلايا وأوزار التاريخ.اليوم للتدمير قوةُ شيطانية ساحرة وقادرة ، ترصف الحمم البركانية قبل أن تقوم من مَقامِك أو يرتد لكَ بصر .
في هذا المشهد المهيب لتدمير البشر والحجر ، ينصِبُ أصحاب النفوذ في الدنيا العولمية الجديدة خيامهم للمشاهدة . يتبادلون الأنخاب تحت غُبار المعارك التي لا تعرف التمييز بين الأشياء . كأن الخير والشر التقيا صدفة ، وتحابا من أول نظرة واعتصرا الليمون الحامض وذابا في بعضهما.
قام الشرفاء وتركوا خوفهم جانباً ووقفوا عند مآذن الأشلاء ينتفضون. تقاطر الذين يعشقون الحرية أو يكرهونها . انضمّ إليهم آخرون لهم مآرب أخرى.التفَّت الراية السوداء إزاراً لعبدة الموت ، وتقاطر اتباعها من كل فج ومهرب ، وجاءوها بأجندة جديدة ودولة تاريخ أموي باطش يركبون خيل الحرية الجديدة ، فما الصدق فيما نرى ؟، وأي غيوم ظلام تلتفّ من حول النور ؟ . وجدوا في دمشق وما حولها من المدائن ضالتهم ، مكاناً هشاً للنفاذ ، ليتفجَّروا والدمُ أعراسٌ مقدسة ليوم في رؤى العقائد آتٍ .
تدور الدنيا ، ولا يعرف الإنسان خواتيم القصص ، فالواقع أكثر إدهاشاً من الحُلم . الأرض مجبولةٌ على الصهيل حين تدُك تُربتها المعاول التي لا تعرف عزق التربة للزراعة ولا شتل الفسائل أو مجاري الأنهر الصغيرة للسُقى أو أنابيب الري بالتنقيط .
قال السيد المسيح ( السبت إنما جُعل لأجل الإنسان ،لا الإنسان من أجل السبت.) |3| . لا سبت توقفت فيه المُجنزرة ، ولا يوم عيدٍ خلا من صناعة مكائد الموت المجاني في ظلام الشمس أو في وهج الليل ،وبالضربات الإشعاعية المُضيئة التي يقول قائلٌ : هي مُحرمة الاستخدام !!.
فما السلاح المشروع للموت إذن ؟. أهو السيف الذي ينحر الرؤوس بضربٍ خاطف ، تتطاير فيه ينابيع الدم والشهود العدول ينظرون !؟
(2)
الوطن:
هذا العالم مملوء بالخطايا العظام . مواجعٌ وموجوعون. للحقِ صورٌ ملتبسة .وللكذابين مظهر الطهارة والنُبل .و في موطننا من القصّ ما هو أعظم ، وعلى النفس أشقّ . فالعدالة لا تتجزأ ، والبشر هم البشر. والمَدنيون ودماؤهم هي ثمن الصفقات السياسية الرابحة في دنيا الجلادين. ورصيد دولتنا : قتلة يلبسون عمائم رحمةٍ لها ذؤابات راقصة بالفرح والدِّعة . ينزلون عليك الأحاديث المقدسة عن الفداء والتضحية والعروة الوثقى ، حتى يذرف لهم البريء دمعاً ينسيه هوانه . فالموت عند الأطراف البعيدة عندنا في ظل مكائدهم ، تندسَّ في زوايا الصُحف وتجلس مع الإعلانات المُبوبة : كمطلوبين لنفقة زواج ، أو مُنْذَرين بالتطليق ، أو أمر بإخلاء ...
قصتنا أكبر من الكتابة عنها ، فليس بالقلم وحده تتضح الصورة . فبين حوليات المقابر، كنتَ تجد الشهداء يرقصون في حفل زفافهم ، وأمهاتهم يُزغرِدنَّ قبل معرفة الحقيقة المُحزنة . ليس لدينا هناك من أثرٍ حُفِرَتْ تماثيله في معابد التاريخ إلا القليل . لا يزورهم سائحو الآثار . فالسائحين عندنا كانوا يزورون الشمال لكنوزه التي يسميها أهل السلطان أصنام التاريخ ، ينعمون بالأمكنة العذراء ،ويزورون كذلك قبائل الأطراف البعيدة في الجنوب الجديد ،ليتعرفوا على الإنسان البدائي النبيل ، الذي يريدونه أن يكون مكنوزاً في عُلب الغرابة ، لا أن يكون له الحق في الصعود إلى دولة المواطنة . يصورون العُراة المدهونين بالرماد الملون، كي يصدِّقوا أنه كشفٌ عن بشر قبل كتابة التاريخ .
(3)
الوطن مرة أخرى:
اليوم صار الدمُ المشروب اليومي على التلفاز ، و تُخفيه مهرجانات الخطب الرنانة ،والرسائل المدججة للآخرين الذين يبعدون عنا آلاف الكيلومترات ، ولكنهم حاضرون في خُطب الساسة الذين نسوا أنفسهم وقد شغلتهم عبادة جديدة صنعوها لأنفسهم ،وبحديثها يطربون ، وبخمر السلطان وَمَالِنَا يسكرون . يقولون بلا استحياء " أننا مع الحرية و الديمقراطية وضد الظلم ، ونتضامن باليد الطولى لنُصرة الحق " . وتقصرُ ذات اليد عن نُصرة إخوّة المواطنة ، وسرطان الفقر المُدقِع يضرب أشباه المدائن والأرياف ! .
تجتمع الذئاب على جيفة وطنٍ منهزمة مشاريعه في كل الآفاق ، و الجالسون يسترِقّون السمع لصوت أنفسهم في مرآة الآخر .صورة عبثية لمسرحية تجريب خالٍ من الإبداع ، نشاهدها حية تسعى في التلفاز .
حقاً منْ يَحْكُمنا ليسَ مِنا .
هؤلاء الأجانب هم الذين صنعوا قصة غزوة السودان بليل الكذبة الأولى . يحجب وجوههم الظلام من السادسة مساء وإلى السادسة صباحاً ،أيام قوانين الطوارئ. ذات البدايات التي تحول فيها الوطن إلى ضَيعة للذين استهوتهم السلطة جائزة ، وهدفاً يُبرِر أية وسيلة مُمكنة لصناعة مُستعمرة جديدة للمنظمة العالمية . مكر الأقلية المُنظمة والمدججة بالغلظة . اتخذت من "نار القرآن " وقراءته الرحمانية اسماً حركياً للأيديولوجية ، توقدُ نيران الفتنة ، لا يهمها نسيج الشعوب السودانية ولا تنوع الثقافات . هذه الملاءة السوداء من حزن التاريخ تلتف رداءً لنا و أحزاننا المقيمة ، تشرب " شاي الصباح " مع الذين لهم القُدرة على دفع كُلفته .
المراجع :
|1| إنجيل مرقس ، الإصحاح السابع
|2| مُظفر النواب ، إنها دمشق يا أولاد ..
|3| إنجيل مرقس ، الإصحاح الثاني .
عبد الله الشقليني
21/11/2012