تأملات واعترافات في مسيرة العمل الاسلامي المعاصر (1-5)

 


 

 




تأملات واعترافات في مسيرة العمل الاسلامي المعاصر ١من ٥

الحركة الإسلامية: هل حان أوان الاستغفار

بقلم: عثمان البشير الكباشي

تعقد  الحركة الاسلامية السودانية  الحاكمة مؤتمرها العام الثامن في منتصف نوفمبر الحالي بين يدي حراك وتفاعل هيأ المناخ لطرح الأسئلة  المصيرية ليس حول مستقبلها وحسب ولكن الأسئلة تمتد لتشمل جميع مكونات العمل الاسلامي في البلاد ، ذلك ان العمل الاسلامي كل ٌ مهما تعددت جزيئياته ومكوناته  ، ولعلها سانحة لإجراء تقييم صادق وأمين وشامل  تحتاجه الحركة الاسلامية وجملة العاملين في الساحة الاسلامية  في بلادنا .  ،
ان مصطلح الحركة الاسلامية يشمل في سعته كل من تحرك متفاعلاً مع مجتمعه ليقدم دعوة الاسلام للناس أياً كانت خياراته   الفقهية والمنهجية ووسائله  في الدعوة ، وبهذا فان الحركة الاسلامية عندي تشمل أهل التصوف ، كما تشمل الحركات السلفية و الأنصارية ، كما تشمل بالطبع الحركات ( الإخوانية) واهمهما المؤتمرين الوطني والشعبي ، وربما جمعيات وجماعات اخري ناشطة اقل شهرة وتأثيراً ، ولكن لها وجودها علي كل حال
(١) الاستغفار هو الورد الناقص .
هذه محاولة للمساهمة في تأمل واقع وتحديات العمل الاسلامي أهديها الي أبناء وبنات  الحركة الاسلامية بطيفها الواسع ،   والتأمل واجب شرعي علي  الجميع من باب المسئولية الفردية  لكل من يري نفسه بعض هذه الامة ،  منطلق هذه الوقفة  رجاء صادق ان يصلح الله الأحوال وان يتجرد الجميع لنصح غال لأئمة المسلمين وجماعاتهم وعامتهم  لان النصيحة هي الدين نفسه كما أخبر صاحب الرسالة عليه من ربه افضل الصلوات وأتم التسليم ، كما إنني لأدعو اصحاب الشأن أجمعين ان يصدعوا بشهادتهم في هذا الأمر خشية :  ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ولا خير في أمة لا تنصح نفسها ولا امل في تغيير تصنعه الصدف ، ولم يلعن بنو اسرائيل في القران الكريم الا لأنهم كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه ( لعن الذين كفروا من بني اسرائيل علي لسان داوؤد وعيسي ابن مريم  ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه ، لبئس ما كانوا يصنعون )  وخيرية أمة المسلمين في قدرتها المستمرة علي الامر  بالمعروف والنهي عن المنكر ليس للعامة من الناس فقط ولكن الاولي بذلك القادة والدعاة قبل غيرهم ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله)
المؤتمر العام لكل جماعة جادة فرصة للمراجعات ومحطة لتأمل المسيرة ونقدها وإصلاحها ،والمؤتمر العام للحركة إن لم يحدث تحولاً جذرياً وأجاب بشجاعة عن أسئلة وتحديات المرحلة   تحول الي حشد ومهرجان تعبئة لايصنع سياسة ولا يستشرف مستقبلاً  ولايضيف جديداً ، فيكون تكريساً لما يعرف (بالشوري الصورية ) او ( الشوري الإجرائية ) التي تنشغل بالأشكال دون الجوهر وبالصورة دون المضمون ، وأشد ما أخشاه ان تتحول مثل هذه المؤتمرات الي ما يشبه مؤتمرات القذافي التي أخذنا منها إسم المؤتمر الوطني والمصيبة أن نكون قد أخذنا منها  مع الأسم الفلسفة والروح والمنهاج ، تجمعات وخطب وهتافات وتوصيات جاهزة أوشبه جاهزة ، وتكرار ممل لاجديد فيه الا رقم المؤتمر
.  نستهل  وقفتنا مع الحركة الاسلامية علي أمل  ان نواصل التأمل مع باقي الطيف الاسلامي في وقفات أخري إن أذن ربنا وشاء
إن أكثر ما تحتاجه الحركة الإسلامية من بنيها وأصدقائها هو النصح والمراجعة والإصلاح ، لقد سال مداد كثيف وقيل حديث طويل في المدح والثناء علي الذات ، فإن كانت تستحق ذلك فقد أو فيت حقها طوال ربع قرن من الزمان ،  وعلي كل حال هي الآن أحوج ما تكون لمن يهدي اليها عيوبها ويذكرها بالاستغفار والتوبة عن خطاياها وهي عند أبنائها والناس ليست بقليلة ، وهذا شرط لازم لها ان أرادت استئناف دور لها في الدعوة والسياسة والا فان سنن الله في رفض التوبة والإصرار علي الخطايا لا تحابي أحداً ،ونحن من شعب تقول حكمته ( إن الحقيقة لاتقتل ولكنها تخلع ) فهل نملك ضميراً صادقاً يجعلنا من أهل النصيحة المنصفة المتجردة الموزونة ، دعونا نأمل .
(٢)  التجرد لإنجاز الجرد .
الإنصاف والنزاهة تقتضي ان يؤسس اي جرد للحساب او تأمل في المسير ، او مراجعة للنفس ، علي ميزان القسط والموضوعية والصدق دون تطفيف للمكيال او بخس للناس او تحامل علي النفس او الاخرين بالهوي ، وهي مهمة تتطلب كثيراً من التجرد والشجاعة ، علي منهج ابو الانبياء ابراهيم الأواه المنيب ، وبهدف التوبة والرجعي الي الله بشروطها المعروفة شرعاً ، فلا توبة لمصر علي الذنب ، او مخادع لنفسه ، أو مصر علي مقارفة الظلمات وتضييع الحقوق . ولقد أتيحت لي فرصة للتأمل ابتعدت فيها عن مواقع الفعل المباشر  حاولت فيها ان أتعرف فيها علي موطن العلة في هذه الحركة التي وهبتها عمري وكل عقلي وقلبي ، ولكن قدرتي الان علي الدفاع عنها جد محدودة ، ليس هذا حالي وحدي ولكنه حال معظم بنيها . فماذا ياتري  أصابنا وماذا أصابها؟؟؟!!!!
نشأت الحركة الاسلامية الحديثة ( الإخوانية )  علي يد مؤسسها الامام الشهيد حسن البنا رحمه الله في عشرينيات القرن الماضي علي اثر تداعيات  انهيار الخلافة الاسلامية العثمانية ، وفي ظل الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين ، وتمكنت من التمدد من مصر الي معظم أنحاء العالم الاسلامي ، وكان للسودان نصيبه من ذلك ، إذ نهضت حركة الاخوان فيه أثراً من تلك النفحة الاسلامية العالمية وتمازجاً  وتفاعلاً  مع الواقع الاسلامي المحلي ببيئته الصوفية وحركته الوطنية المناضله من اجل الاستقلال الوطني  في مواجهة  الاستعمار الثنائي الانجليزي المصري ، ونخبه المتعلمة المنقسمة  الي استقلاليين واتحاديين ، مع بروز حركة يسارية فاعلة نشطة ، يغذيها مد شيوعي عالمي صاعد وجاذب للشباب المتطلع للتحرر من القيود الطائفية بحثاً عن الحداثة وان كان ذلك علي حساب هويته والتزامه الديني ، بل علي نقيضها تماماً .
(٣) هل تملك الحركة جاذبية ، وهل أوفت لأهل الأشواق
يحسب لصالح الحركة الاسلامية الإخوانية انها استطاعت ان تكون حضناً دافئاً يأوي اليه الشباب المسلم الملتزم في معاهد العلم ، ومثلت طريقاً ثالثاً للمتعلمين بين غربة  واستلاب   الشيوعية والليبرالية المتحررة من ناحية  والطائفية السياسية التقليدية  من ناحية اخري  ، لقد كانت الحركة الاسلامية طوق نجاة لطيف واسع من هؤلاء الشباب الباحث عن الأصالة والحداثة  ، وجدوا فيها ضالتهم في تدين عميق آمن  أصيل أروي ظمأهم و استوعب أشواقهم وأمانيهم العريضة  في اقامة مجتمع ودولة مسلمة بل وخلافة راشدة علي منهاج مجتمع النبوة ودولة الاسلام الراشدة ، وليس بعيد عنهم ذكريات دولة المهدية والخلافة الاسلامية العثمانية  الموؤدتان حديثاً .
لقد وفقت الحركة الاسلامية الإخوانية في استيعاب طاقات وأشواق الشبيبة السودانية العطشي الي ظلال الدين وأعانتهم ببرامجها الخاصة علي الالتزام الشخصي  وحفظتهم من الانحراف الفكري والسلوكي ،وأسهمت في تكوينهم الفكري قريباً من مصادر الفكر الاسلامي ، فاقبل بعضهم علي  للقران الكريم حفظاً وتجويداً  و علي كتب الأصول والثقافة الاسلامية المعاصرة ، ونتج عن هذا  الفكر الاسلامي الحركي جيل من المتعلمين معتز بثقافته وانتمائه المسلم ، ملتزماً بقضايا امته ، حاملاً لواء الدعوة والإصلاح علي هدي الدين ، يفيض بمشاعر اسلامية جياشة ، مع قدرات حركية علي طريق الحداثة والتطور ، مكنهم من منافسة الحركة الشيوعية الفتية وسط المتعلمين والطلاب ، بل ان الحركة الاسلامية الإخوانية تمكنت من انتزاع قيادة الطلاب من الحركة اليسارية المنافسة في معظم دورات اتحادات الطلاب ، واقتحمت عليهم النقابات العمالية والاتحادات المهنية ، وكادت ان تحتكر دوائر الخريجين في البرلمان الاخير قبل الإنقاذ .  وفي ذات الانتخابات الديمقراطية الاخيرة اقتحمت الحركة  حصون الطائفية السياسية المتينة وسجلت فيها اختراقات مهمة وكبيرة.

كما يحسب للحركة انتصارها للمرأة السودانية وسبقها للحركات الاسلامية في العالم الاسلامي بإبراز خطاب إسلامي أصيل ووثاب بادر به زعيمها الدكتور حسن الترابي تأصيلاً لدور المرأة المسلمة في مجتمع المسلمين بعيداً عن التقاليد الجاهلية التي تحرم المرأة حقها في التميز والمشاركة ، فانجذبت المرأة للحركة وخرجت بها للحياة العامة مع محافظة علي دينها وزيها الشرعي الذي انتشر بفضل دعوة الحركة خاصة وسط الطلاب والمتعلمات وبنات المدن ، لقد أسهمت الحركة في حفظ المرأة من غربة حركات التحرر الليبرالية واليسارية ومن حياة التقاليد المحافظة ولكن دون دين وفقه .
قلت : كانت الحركة خياراً مقنعاً ، بل جاذباً للشباب والنساء و قطاعات متزايدة من المجتمع ، فهل هي اليوم كذلك ؟؟؟ هل مازالت تمثل قدوة حسنة  ومثالاً تهوي اليه الأفئدة ، وتجد فيه الظل والسكينة ؟؟؟ هل لم تزل تلهم العلماء وتنصب منابر الدعوة الي الله  فكراً وتربية ًوسلوكاًً ، هل لم تزل منارةً وسبباً في هداية الطالبين للنجاة علي طريق الرجعي الي الله ؟؟؟؟ هل وهل وهل ؟؟؟؟ ام انها مجرد مشروع سلطة تجذب طلابها ، وتغري الطامعين في ذهبها وبريقها ،،؟! وتحشد الهتيفة من  المناصرين الدهماء دون بصر أو بصيرة ؟؟ فما عادت مأوي لأهل الأشواق ولامنتجة لأفكار ، ولا مثالاً لمشروع ؟؟!!. ذلك محل توقف واعتراف في هذه التأملات  .  
خاضت الحركة تجارب موفقة في مجالات اخري من العمل الاسلامي خاصة ( محاولات) تأسيس نماذج عملية لاقتصاد إسلامي معاصر ، فشجعت ودعمت تجربة البنوك اللاربوية وشركات التأمين الاسلامية  وان تجمد فكرها عن تطوير النظرية و التجربة الاسلامية في الاقتصاد ، ولم يتجاوز كثيراً البدايات الاولي، بل عجز عن حماية التجربة من عسرات التطبيق ، واخطائه المعيبة والمسيئة احياناً ، فمضي النموذج الاسلامي في الاقتصاد اقرب ما يكون الي الاقتصاد الغربي الرأسمالي ، خاصة فيما يلي غياب  العدالة الاجتماعية التي تمثل جوهر مقصود  الدين في الاقتصاد، ولنا في ذلك وقفة  حينما نستعرض عيوب وأخطاء التجربة .
وفقت الحركة الاسلامية الإخوانية في  تقديم نماذج مشرقة وسابقة في مجال العمل الاسلامي الخيري ، وشمخت بنجاح تجربتها في تأسيس منظمة الدعوة الاسلامية والوكالة الاسلاميةالافريقية  للإغاثة ، وغيرها من وكالات ومنظمات العمل الطوعي التي اصبحت نموذجاً للحركات الاسلامية والعمل الاسلامي عموماً في هذا المجال ، لئن عاب البعض علي تجربة العمل الخيري ارتباطها وخدمتها للسياسة والعمل الحزبي الضيق ، فان نجاحاتها في الدعوة الاسلامية في افريقيا ومناطق الضعف الدعوي والأقليات الاسلامية داخل وخارج السودان يحسب لها بالتأكيد ، ولا يمنع هذا من مراجعة أخطاء قد تكون صاحبت التجربة ، او ملاحظات عليها ، وعلي منهاجها ، فذلك ما تحتاجه فعلاً دون التقليل من إنجازاتها في هذا المجال.
(٤) السياسة هل تابت ام أفسدت
لعل من اكبر ما تعتز به الحركة الاسلامية الإخوانية انها سعت للمصالحة مابين الدين والسياسة ، بعد ان كانت السياسة نجاسة ورجزاً من عمل الشيطان  لايقربه متدين ، الا علي حساب خلقه وصدقه وذمته وسمعته الدينية !!! فهل نجحت الحركة في تديين السياسة كما تدعي ؟ ام ان السياسة ( خاصة بعد استلام السلطة )  قد أفسدت عليها دينها ودين أبنائها ؟؟؟؟؟؟ !!!!!!! وهل آبت الحركة بالسياسة الي القيم الدينية من   حرية وشوري وعدل طهر وصدق  ووفاء ..... الخ ام ان السياسة قد فعلت فعلها في الحركة وجردتها من كثير من الفضائل واوقعتها في وحل الردة الي جاهلية الظلم والقهر والاستبداد والاحتكار والفساد بل والتشظي والانفصال للوطن والحركة نفسها  كما يقول خصومها ؟؟؟؟ تلك إذن الأسئلة الصعبة موضوع الامتحان الإلزامي ، الجماعي والفردي لكل أبناء الحركة وأصدقائها وعامة المسلمين ، والإجابة عنها فرض لامهرب منه في الدنيا والآخرة .
الحركة الاسلامية الإخوانية بارعة في التدابير التنظيمية ، واسعة  الحيل القدرات والخبرات التنظيمية  ، عظيمة  الإمكانيات البشرية والمادية في هذا المجال ، استفادت من تجارب العمل التنظيمي العالمية لغريمها الحزب الشيوعي السوداني ، الذي كان يعتبر اهم حزب شيوعي في المنطقة علي الاطلاق ، وأضافت لذلك التجربة التنظيمية الإخوانية العالمية ، واجتهادات الحركة الخاصة بها مع فعالية ونشاط ودأب عرف به منتسبوها ، مكنهم من تسجيل حضور في كل الساحات مع بذل وإخلاص وتفاني واجتهاد ومثابرة صعدوا بها سلالم المجد واستحقوا بها النجاح والتفوق حيناً من الدهر  . ولكن أين  حالها الان وقد دالت لها الدولة ، وآل اليها السلطان  وتمكنت من الحكم وتضاعفت مواردها   المادية ،و لكن رغماً عن كل ذلك فإن فعاليتها موضع شكٍ لدي الجميع ، الجمع كبير والحشود عامرة ، ولكن الفعالية غائبة !!! ياتري ما السبب؟؟؟؟؟
عبرة التجربة الانسانية تقول ان نقاط القوة والتميز قد تتحول الي مواقع ضعف وفقر ؟! والنعمة إن لم تشكر تحولت إلي نغمة  ، فهل هذا هو واقع الحال ، ام إن تأملاتنا واعترافاتنا في قادم الحلقات تقول بغير ذلك .

osman kabashi [osmankabashi@hotmail.com]

 

آراء