ماذا يقولون عن المَلِك ؟

 


 

 




كتب الشاعر محمود درويش في قصيدته " خُطب الديكتاتور الموزونة " ، على لسان المَلِك :

سأختاركم وفق دستور قلبي
فمَن كان منكم بلا علةٍ .. فهو حارس كلبى
ومَن كان منكم طبيباً .. أُعيِّنه سائساً لحصانى الجديد
ومَن كان منكم حكيماً .. أُعيِّنه مستشاراً لصك النقود
ومَن كان منكم وسيماً .. أُعيِّنه حاجباً للفضائح
ومَن كان منكم قوياً .. أُعيِّنه نائباً للمدائح
(1)
لن نُشير إليه ، فصورته تملأ الأمكنة . يقولون تُنفُر الملائكة من النزول إلى حيث يُصلي . فهل يا تُرى ستغسله الملائكة حين تكتمل الآجال مثل الصحابي "حنظلة بن عامر "، أم أنها تستحي من أصحاب الكبائر ؟ . عينُ الملكِ على النساء مخلوطة ببريق الشهوة المُستترة عن عيون الناس . يتفحص منْ يراها بلمحةِ أشعةٍ سينية. وتلك ميِّزة حباه المولى بها ليوجهها للخير حسب علمي ولا أظنه قد فَعَل. لكنهم يقولون عنه أنه يُفكر عندما تعصُف به الرغبة التي تنزّ من عينيه " ليتها تستتِر عن الملأ فلا يرون إلا الوجه والكفين وأراها عارية في الحلال الصامِت ، الذي لا يعرف سره أحد". يقولون " لن يرتفع الدُعاء صوب السماء قدماً واحداً من فوق يديه ، من ثِقل الذنوب". عند مشاهدته على التلفاز ، يقولون في وجهه حين يُطلّ " دعوة المظلومين ليس من دونها حِجاب،فمسبحة اللآلئ  التي تحملها في يدكَ  لن تجلُب المرحمة "
(2)
وأنا جالس قربه و مغروزً في الصف ، مددتُ رأسي و نظرتُ من طرف عينيَّ   إليه . آه .. نسيت أن أقول لكم كيف دخلتُ المسجد ،الذي تحيط به حديقة فسيحة  مُترفة ودرج رخامي نصعد به إلى الصحن يفاخر مباني العصر. كأن مردة سليمان النبي قد جلبوه من دُنيا غير دُنيا الشقاوة التي نعيش. سجاده الأحمر والقرآن المحفور على حواف الحوائط الملونة .والرخام المُزجج الذي يلتفُ من حول الأعمدة والقوائم والجسور ويصعد أيضاً إلى الحوائط والكرانيش،كلها تجعلَكَ كأنك في عالمٍ مسحور.  أما الثريات "فسُبحانك اللهُم ". روائح أبخرة المسجد من النفائس التي لم أشتمّ مثلها في حياتي  .
(3)
فَتَّشُوا  ملابسي فربما أُخفي مِديةً أو آلة ذبح . تحسّسوا اللحم الرقيق المُلتصق بالعظام ، وهو حيلتي في دُنياي ، فالفقر كالماء والهواء ، موجودٌ في كل مكان ، ولكن نفسي أكبر من ذُل الفقر ،لا تلين بالخضوع  . تحاملتُ على نفسي من قبل  واستلفت جُلباباً وعُمامة بيضاء وخفاً يُليق بالهَيْبة . لا أعرف ماذا سيفعل دائني إن سرق سارق ذلك الخُف ، فالحيِطة والحِرص أقوَّم . عند  بوابة المساجد  التي أعرفها ، يَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ خير بِالَّذِي هُوَ أدنى . وقد تخرج أنتَ حافٍ ولا تعرف لكَ موطئ قدم في لظى الظهيرة ، فتبحث أين الظل؟ ، وأين البقالة الأقرب التي تبيعك أي شيء يحمي قدميكَ من جمر الأرض من تحتِكَ؟ .
(4)
حملتُ الخُف عند دخولي وطويته ولَفَفتُه بالبلاستيك . ترددت بُرهة : أأدخل الخف في جيبي ؟ ولكني تراجعت ، لأنني سوف أصبح في نظر المصلين مُهرجاً . ذُهِلتُ من الحضور الكثيف ، يبدو أن الكثيرين مثلي جاءوا ليستمتعوا بالصلاة في المكان : طلباً للأجر والسياحة الدينية ونِعمة البرودة التي تُريح النفس من الحرّ الملتهب خارج المسجد .
كنتُ أعتقد أنني قد تفوقت على نفسي، وأخذت زينتي كما تطلُبها المساجد والسُنن. لكنني وجدت نفسي وسط النعيم الذي رأيت الناس بجواري عليه ، رجلاً مثل عامة الناس ! .
(5)
أثناء الخطبة نظرت مرة أخرى إلى الملك من طرفِ عينيَّ ، ولكن كوعٌ  يابِسة هبطت تدوس على موضع الكُلْيّة اليُمنى ، تُنبهني أنني تجاوزت النظرة الأولى الحلال !، فارتد بصري واعتدلت . نظرت وجه الإمام وهو يتحدث عن الصدق وعن اللسان الذي يتحدث بما في القلب ،وكيف يكون مطابقاً للحقيقة عند الصادق الأمين ، أما الكذاب الأشرّ  فقد ذكر الإمام  أنه لا يزال يتحرى الكذب حتى يُكتبُ عند الله كذاباً .." واستطرد الإمام في حديثه مُستدلاً بالأحاديث النبوية الشريفة وآي الذكر الحكيم  ، والمَلِكُ يستمع مثلنا و يتأمل !.
وسيمٌ هو الإمام . خداه يلمعان ونور التقوى صَنَعَتها يدٌ مُدربة ، خَتَمَتْ على الجبهة بخاتمِ السّعادة أجمعين. تلك اليد  تعرف كيف تُجمِّل الزُعماء الذين يلبسون لباس الإمامة ، ليهدوننا سواء السبيل . ليت لي مثل جُلبابه أو شال الغرام الذي يتوشّح ، فإن خلع عليَّ لَبَاسه مِنحةً ،فسوف أتخلص من ضيق ذات اليد لشهرين أو ثلاثة .
(6)
أعلم  دون دليل استحضره أن الأفضل هو الصلاة داخل أقرب المساجد . كنتُ مُتيقناً من حِفظي الحديث الشريف عن الرجل الذي قلبه مُعلق بالمساجد ، وأن رب العزة يظله حيث لا ظل إلا ظله . فأخذتني " الهاشمية " وقطعت الفيافي بالمواصلات العامة  منذ التاسعة من صباح الجُمعة لأقتدي بالذي نفسه معلقة بالمساجد .وَقَف لنقلي بسيارته آخر الرحلة الطويلة المُضنية شيخٌ لطيف وقور. فضلَ ظهرٍ إلى الهدف مُباشرة وكان يريد المسجد الذي أُريد . التقينا على ذات الهوى . تعددت الأسباب والصلاة هي المُبتغى معها مآرب أخرى. طافت بنا السيارة كأنها البُراق، تطوي الأمكنة في دقائق  . لم يُحادثني مُضيفي أثناء  الطريق ، فهو مشغول الفكر بقضية ليست على بالي أو حتى ترد في أحلامي . عرفتها من صوته الدافئ حين تحدث في الهاتف النقال .
أعلم أنني كنتُ في نعيم بارد .نعمة يسرها المولى ، ولكني خِفتُ أن يأخذني النعاس فيبطُل وضوئي ، فمقصدي الصلاة مباشرة ،حتى لا أتوه بحثاً عن المغاسِل .أما "الترطيب" فهدية لم تكُن في الحُسبان ،لعلي أنال الأجر مُيسراً حسب ما انتويت ، و لا أخلطه بقيمة مُضافة .تراودني أمنية قديمة أن أصلي الجمعة في جامع الملِك  وبوجوده . ففي نفسي سؤال :هل يُصلي  الملك مثلنا مُطمئناً ؟ . أهو راضٍ عما يفعل بخلق الله ؟ .ربما أُسْعِد منْ سأحكي لهم في مُقبل الأيام عن هذه المغامرة الدينية المحفوفة بالمخاطر،فرجال الأمن مُدربون على اشتمام النوايا . عند وصولنا قرب المكان ،خرجتُ من السيارة ، بعد جهدٍ جهيد ،إذ لمْ أتعرف على الأزرار أو المقابض المناسبة للخروج من "الفارهة ".
(7)
كنتُ في كل أيامي أقرأ من الذكر الحكيم ما يتيسر ، ولكني أتوقف دائماً وأتفكر في بعض الكلمات وأسرار معانيها ، رغم أني أعلم قلة حيلتي من العلم والفقه والتجويد . ولكني بقدر ما عرفت ،أجد نفسي مأخوذاً بما سيفعله الذين يملكون أمور الناس في دنياهم ، أيظنون  أنهم في المُلكِ خالدون ؟ ، أم أنهم لا يعرفون أن لصاحب الوديعة  جلّت قدرته  ميعاده الذي لا يتأخر  :
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران 26
أتفكر في كلمة " تُؤْتِي "، رخاوتها وحلاوتها والخير المكنوز فيها والنعيم الذي يتنزّل بالمُلك . فلنُقنِع أنفسنا على مضض وبكل صراح، بأن المُلْك قد جاء على ظهر  دبابة .فاليد الالهية التي تبسط الخير ، يمكنها أن تهبك المُلكَ ولا يساوى ذلك  قطرة من بحر عظمة مولانا وعزّته ،مالك المُلك ذو الجلال والإكرام .
وأتفكر تارة أخرى في كلمة " تَنزِعُ "، وأتأمل قوتها وما تحتبس من معانٍ دفينة، منها أن المنزوع عنه المُلك قد صار لا يستحقه وأنه ربما في رقبته أوزارٌ وخطوب . يقولون " سيكون الحساب اللاحق أجلّ وأعظم".يقول مُحبوه وآكلو الدسم معه ،إنهم يتمنون له طول العُمر وأن يرفع المولى من شأنه ويمتعه بالمُلك إلى الميعاد الذي يسترد فيها وديعته ، جالساً على كرسيه مثل النبي سليمان . ولا يدلهم  عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ التي كان بها " يَعْرِض ".
لا أعتقد أن أمانيهم وفق القرائن التي بين يديَّ ستتحقق ، فقد سمعت منْ يقول "شتان ما بين أنبياء الله وبين الأنبياء الكذبة " . ولسنا نعلم  من قبل ومن بعد ، كيف ستنهض أشجار الزقّوم من مزرعتها الإلهية لتُطفئ جوع فئة من الذين سيُبعثون يوم الحشر .وكيف سيكون طعم  الثمر الجهنمي الدامي وَمَنْ هُم آكلوه  
9/12/2012


abdalla shiglini [abdallashiglini@hotmail.com]

 

آراء