خديعة الإستقلال.. والشمس زرقاء على مئذنة العمر تموت
fataharman@yahoo.com
ما زالت ذكريات أيام طفولتي الباكرة عالقة بذهني حيث كنت أستمع مع بعض أفراد أسرتي عبر الأثير إلي مارشالات الجيش وغناء الراحل المقيم حسن خليفة العطبراوي (يا غريب يله لبلدك) وصوت الراحل الكبير وردي قوي وصامد كصمود جبل البركل صادحاً بـ(اليوم نرفع راية إستقلالنا)، وغيرهم كثر أجادوا دغدغة مشاعرنا الوطنية. وسار الحال علي ذات المنوال عند دخولنا المدرسة الإبتدائية أو مرحلة الأساس- بحسب عُملة جماعة (الإنقاذ) الحالية.
وعندما شببت علي الطوق أيقنت أن إستقلالنا لم يكن سوي خديعة كبرى، إذ تم "نشلنا" من قبل المستعمر "الوطني" الذي إعتمرالعمامة، وفي أحايين أخرى لبس "الكاب" بعد ذهاب المستعمر "الأجنبى". إذ أن المستعمر الأجنبي خرج من بلادنا طواعية بعد أن قتله السآم في بلاد السودان.. فلا معارك أو صهيل جياد "أباء" الإستقلال هي التي أخرجته، بل فاق في صبيحة 1955 بعد أن ذهبت "السكرة" وأتت الفكرة وطلب من "الأباء" المؤسسين رفع علم السودان في سارية قصر غردون، لأنه إنتوي العودة إلي ديار الملكة إليزابيث حامداً شاكراً، ويا دار ما دخلك شر!.
تكالب العسكر وقادة الحزبين الكبيرين مستخدمين بعض أفندية كلية غرودن علي السلطة دون التوافق علي برنامج وطني لبناء أمة ألوان الطيف السودانية، بل حتي دستور السودان لم يجهدوا أنفسهم فيه بل أدخلوا بعض الإضافات علي دستور المستمر للتفرغ للجلوس علي مقاعد السلطة الوثيرة دون بصر أو بصيرة والإجابة علي سؤال كيفية حكم السودان من قصر غردون وتمثيل كافة شعوب وأقاليم السودان. وفي تلك القسمة الضيزى حصل جنوب السودان وقتئذ علي ست وظائف من ثماني مائة وظيفة، بعد سودنة الوظائف.
وسادت لعبة تبادل الكراسي بين المدنيين والعسكريين منذ ذاك الحين إلي أن شخصت فيه الأبصارعند إنفصال الجنوب العام قبل الماضي. فقد السودان فاكهة البلاد وملح الأرض- شعب الجنوب- حينما حاولت "الجماعة" المتأسلمة الإنتقاص من تاريخ بلادنا الذي تشكل عبر آلاف السنين، وسهر علي حمايته رماة الحدق وشاده ملوك وسلاطين وكنداكات كانت تهابهم جيوشاً تفوقهم عدةً وعتاداً. من منا لم يسمع ببطولات بعانخى، تهراقا، مهيرة بت عبود، السلطان تاج الدين، السلطان علي دينار، كون أنوك، عمارة دنقس، عبد اللة جماع و الإمام محمد أحمد المهدي وغيرهم كثر.
بيد أن إنفصال الجنوب لم يعره جهابزة المؤتمر الوطني أدني إهتمام لمحاسبة النفس والوقوف علي أسباب الفشل، بل ساروا علي ذات الشاكلة وأشعلوا الحروب في جبال النوبة والنيل الأزرق واستمروا في حرب الإبادة الجماعية في دارفور. وعلي الرغم من أن "الجماعة" قادت قطار البلاد والعباد في نفس الوجهة القديمة وبنفس الوجوه الكالحة، لكنها توقعت الحصول علي نتائج مختلفة! ولكن من يجرب نفس الوسائل الفاسدة التي أدت إلي إنفصال الجنوب وتوشك علي فصل دارفور، النيل الأزرق وجبال النوبة عليه أن لا يتوقع الحصول علي نتائج أفضل إلا بتغيير مسار القطار.
سبعة وخمسون عاماً من الإستقلال تم فيها إهدار مقدرات البلاد والعباد وتفتيت الوطن علي أيدي المستمعر الوطني بصورة لم يسبقه إليها المستمعر الأجنبي.
الإستقلال الحقيقي هو تغيير هذا النظام عبر كافة الوسائل الممكنة ثم الإتفاق علي برنامج وطني لمعالجة آثار الحرب في جبال النوبة، دارفور والنيل الأزرق، وبناء أمة ألوان الطيف السودانية علي الحقائق لا علي الأوهام التي قضت علي الأخضر واليابس وطوت ماضي البلاد وكادت أن تقضي علي مستقبلها.
إستقلال البلاد الرسمي سوف يصبح حقيقة حينما يصل كل السودانيين إلي حقيقة أن سودانيتهم هي التي سوف تنقذ بلادنا من المحن والإحن المحيطة بها وليس شىء سواها.
إستقلالنا الحقيقي حينما نؤمن بأن لكل سوداني وسودانية الحق في إختيار طريقة عيشهم، دياناتهم وتبوأ المناصب العليا في الدولة نظراً لأنهم مواطنون سودانيون، دون الحاجة إلي القبيلة، العشيرة أو إعتماد صناديق الذخيرة عوضاً عن صناديق الإنتخابات لدخول قصر غردون والحصول علي الحقوق المستلبة.
إستقلالنا الرسمي حينما تكلف الدولة عن "دس" أنفها في شؤوننا الخاصة.. وتحديد طريقة لباس الفتيات والنساء في الطرقات العامة والأسواق.
إستقلالنا الحقيقي لا يتأتي إلا حينما نسمح بسفر نساءنا إلي الخارج دون "مُحرم"، فلا فضل لرجل علي إمراءة حتي يصبح وصياً عليها كما القُصّر.
إستقلالنا الرسمي لا يتم إلا بوقف العداء للثقافة والمثقفين، و إغلاق مراكز الفكر والثقافة وترك "عصافير" الفكر تغرد في بساتيننا لنقطف من كل وردة زهرة.
يقول أمل دنقل:
قُلت لكم مرارا
قُلت لكُم مرارا
إن الطوابير التي تمُر في عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ إنبهارا)
لا تصنع إنتصارا
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران إلا حين تستدير للوراء
إن الرُصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء
لاتقتل الأعداء
لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا وتقتل الصغارا
*العنوان مقتبس من قصيدة (موت العصافير) للشاعر الفذ مظفر النواب.