إعادة صياغة الإنسان السوداني

 


 

 

Babiker Elamin [babiker200@yahoo.ca]
إنسان كان مشهود له في العالم قاطبة بالتوازن وانسجام الدواخل بالخارج، أثني عليه وأشاد بذكره الأعداء من غزاة ومستعمرين، قبل الأصدقاء، منهم البريطاني ونستون تشرشل في "حرب النهر." طُبع علي الكرم وجُبل علي الأريحية ونُحت علي المروءة، وطُوي علي الكبرياء، جميل المناقب، حلو الشمائل، لم يكد يعرف الجريمة. تم إنجاز رسالة "إعادة صياغته" فدُرست معالمه ومُثله، فغدا قلق الخاطر مشغول القلب مضطرب البال مكروب النفس محزون الصدر، يلجأ للمخدرات والاحتيال وكل صنوف الموبقات. كان الذي يرتدي العمامة والجلباب في خارج السودان يسير كما الأسد، رافعاً رأسه تنزاح الناس له في الطرقات هيبة وجلالا؛ وكانت التي ترتدي الثوب في الخارج يهابها الجميع فأضحي الصحيح هو العكس. ذهبوا بطريقتنا المثلي، بإعادة صياغتنا، وفتتوا قيمنا وأخلاقنا باسم النظام الإسلامي، تماماً كالثورة الثقافية في الصين (1966-1971)، التي كانت حرباً علي الثقافة والمثقفين.

ولعل الجريمة والإنحلال في مسألة "إعادة الصياغة" هُما طفح لأخريان تحتيتان، هما الإنصرافية والخوف. أجل الخوف، إذ يجب ألا ندفن الرؤوس في الرمال ونتذرع بمعاذير واهية حالت دون قيام الثورة. صحيح أن المفردة "خوف" كلمة يستعسر هضمها، إذ لم يكن لها وجود في مُعجم سلالة رُماة الحدق، وحارقي إسماعيل باشا، كرري واللواء الأبيض، ثوار أكتوبر 1964، وأبريل 1985. بيد أن هذا أمر طبيعي ومتوقع في دولة قامت فيها عصابة بتحويل معظم مواردها لجهاز أمن يسومنا سوء العذاب يقتل أبناءنا ويستحي نساءنا. عجز الأحزاب السياسية عن القيام بالثورة ليس بمبرّر كاف، لأن مبادرة ثورة أبريل 1985 بدأت من جماهير غير منتمية أعقبتها النقابات ثم الأحزاب؛ أو في مثال ثان، أن شعوب الربيع العربي التي أطاحت بجلاديها لم تكد تنتمي لتنظيمات سياسية. استشهاد طالب واحد في أكتوبر 1964 أدي لتكثيف الزخم الثوري وأحاله ناراً تلظّي عصفت بنظام إبراهيم عبود، أما حالياً فإن اغتيال أربعة طلاب وإلقاء جثامينهم في غيابة الترعة، كاد أن يمر بلا أثر. أزمة النقل، التي حدثت في ولاية الخرطوم في أكتوبر من العام الفائت، حيت تكدس الآلاف لساعات طِوال، كانت كفيلة وكافية لإثارة تظاهرات تزلزل النظام، ولا تتطلب من المواطن إنتماءً حزبياً.

بخصوص الإنصرافية، حسبنا أن نشير لمثال واحد يؤكدها هو مسألة انتقال اللاعبين هيثم مصطفي وعلاء الدين يوسف من الهلال للمريخ؛ والتي كان لها صدي أعظم أثرا من تظاهرات يونيو/يوليو من العام المنصرم. ساعات من الترقب والانتظار عاشها مشجعو كرة القدم يُقدرون بالآلاف، ومنهم من أصابته هستيريا فأجهش باكياً، ومنهم من هدّد بالإنتحار إن تم تسجليهما للمريخ. أيضاً صحب الأمر تغطية إعلامية ضخمة متعمدة للهو المواطن عن قضاياه الأساسية، ثم تواصلت تداعيات هذا الأمر لعدة أيام بعد التسجيل في المنتديات والمجتمعات. يخال المرء أنه يراقب حدثاً في دولة رفاه، وأن المحتشدين من المترفين المصابين بالتخمة المنعمين بحرية يحسدهم عليها الأوروبيين. بعد "إعادة صياغتنا" أضحي اهتمامنا بانتقال لاعبين من فريق لآخر أكثر من همومنا الأساسية، وعلي رأس قائمتها الخبز والحرية، بما يذّكر المرء قول أبا العتاهية "عجبت لخوض الناس في الهزل بينهم صراحاً كأن الهزل بينهم جد."
أيضاً كجزء من "إعادة الصياغة" حدث تفسخ اللُحمة الوطنية والقومية بترسيخ القبلية والإقليمية، أي العودة بالسودان لمرحلة ما قبل الثورة المهدية، إذ بات مفروضاً عليك أن تذكر اسم قبيلتك في طلبات الوظائف. إضافة إلي العنصرية والبغضاء التي يُذكي نارها الخال صاحب 'الإنتباهة' وليت العرب يحسبونهم عربا. يقول مظفر النواب:
مازال كتاب الله يُعلق بالرمح العربية
مازال أبو سفيان بلحيته الصفراء
يؤلب باسم اللات العصبيات القبيلة
(وأبوسفيان السودان هو الخال)
ولنعد لرسول المشروع الحضاري الذي أوحي له شيطانه "إعادة صياغة" الإنسان السوداني. تأمل هذا القول الذي لا يعني شيئا: "انقلاب لا أحد كان يعلم ما هو وكان مجهول المآلات" يا له من عذرٍ واهٍ وقول سفيه.
و"إن سفاه الشيخ لا حلم بعده ولكن الفتي بعد السفاهة يحلمُ" قام بالتخطيط له مذ سنين عددا، ولم يألُ جهداً أو يدخر حيلة في تعطيل مسيرة الديمقراطية، وتأليب الشارع والجيش عليها، بما يكون معه من المقبول والمتوقع والمعقول حدوث انقلاب. ثم تسكره وتنشيه خمر السلطان عشر سنين بأكملها، وبعد أن أقصوه وأصبح من الخاسرين، بات لا يعلم حاله ومآله. عُوملوا بكل أريحية وقبول من الأنظمة السياسية والمجتمع فردوا الجميل حقداً دفيناً أسودا، ظهر في حملة التدمير الممنهجة علي الدولة والمجتمع. حقد المرُشد المُضل، خبيث العنصر، علي المجتمع معروفة بواعثه، كمنحدر مؤتفكة، ثم أرضع دفين حقده لحُسافة قومه وتلامذته فصاروا قوماً طاغين، و"من شابه أباه فما ظلم." يقول ابن العاص، رأس الفتنة، عن تجربة النظام الذي شيده ورعاه، يقول وهو يجر أذيال خيبته: "تجربة حسنة من حيث أنها وفرت سابقة تجنب الحركات الإسلامية الوقوع في أخطاء." كلام ممجوج لا يستر عورته لأن ما أحدثه نظامه بالسودان من مآسٍ، وعلي رأسها "إعادة الصياغة" ليست أخطاء، بل جرائم ضد الإنسانية.
ومازالت عورة عمرو بن العاص معاصرةً
وتقبــِّـح وجه التاريخ (مُظفر)
وطن تم تقسيمه، ومجتمع تم تفتيته، وإنسان تم مسخه، أضحي مختبر وحقل تجارب للحركات الفاشية، وليت الفرعون ذو اللحية في شمال الوادي قد وعي سطراً من الدرس.

من جرّاء "إعادة الصياغة"، علينا أن نقر ونعترف بأنا أمة تمر بعصر انحطاط، في كل منحي من مناح حياتها، الأخلاق، الدين، التعليم، السياسة، الاقتصاد، الصحة، الأدب و"قلة الأدب." بيد أن ذلك لا يعني إعلان هزيمة. علي النقيض، لهو إعلان هزيمة الفئة الباغية التي استكبرت وعتت عتواً كبيرا؛ لأن الذي يفعل هذا بشعبه ابتغاء مرضاة السلطان، وجعل السلطة غاية بدلاً وسيلة، وإحالة خيرات البلاد إلي جهاز أمن وقصور في مقاطعتي كافوري والمنشية، ويذيق شعبه عذاب الويل، وينشر ثقافة الخوف في شعب لم يعرفه، لهو المهزوم المذموم المدحور. لا يوجد شعب ودولة في هذا الكوكب تم تدميرهما بتلك السادية المفرطة، بما فيها تلك التي حكمتها أنظمة ملحدة. جوزيف ستالين قهر شعبه ولكنه جعل من بلاده القوة المناوئة والموازنة للولايات المتحدة، أحدث نهضة علمية فأرسل مركبة للقمر قبل أمريكا وفجر الذرة عقبها بقليل. إضافة للنهضة التعليمية، كان أول ما أنجزته الثورة الكوبية هو القضاء علي الدعارة، بينما صار البغاء وسيلة كسب عيش في جمهورية السودان الإسلامية، كوريا الشمالية أطلقت الشهر الماضي قمراً صناعياً يدور حول الأرض.

تبلغ المأساة ذروتها في أنه حتي لو سقط نظام العصابة يوم غدا، فإن إعادة صياغة "إعادة الصياغة"، أو إزالة  آثار العدوان بمحاولة إعادة الإنسان السوداني لسيرته الأولي، التي ألف عليها آباءه، سيكون من الصعوبة بمكان إنجازها أو تحقيقها. معروف ومعلوم أنه من اليسير جداً إعادة الإعمار المادي للبني الاقتصادية والتعليمية، التي نسفتها العصابة؛ كما فعلت الدول التي خاضت الحروب، وبينها الحربين الكونيتين الأولي والثانية. بيد أن الدمار المعنوي الذي أصاب الإنسان وطفح كأمراض مجتمعية، كالدعارة والاحتيال، سيصبح من العسير إستئصالها، حتي لو تلاشت مسبباتها، وهي اقتصادية في جوهرها، لأنها ترسّبت وتترسب في العقل الجمعي لتصبح جزءاً من الثقافة السائدة، وأسلوب حياة لمجتمعنا يتناقلها جيل عن جيل.
أختم بأبيات لأحمد مطر في أسلوبه الخاص (بتصرف)
أمس اتصلت بالأمل قلت له: هل ممكن
أن يخرج العطر لنا من الفسيخ والبصل؟
قال: أجل
قلت: وهل ممكن أن تشعل النار بالبلل؟
قال: أجل
قلت: وهل من الحنظل يمكن تقطير العسل؟
قال: أجل
قلت: وهل يمكن وضع الأرض في جيب زُحل؟
قال: نعم...بلي...أجل فكل شيء محتمل
قلت: إذن حكام "السودان" سيشعرون يوماً بالخجل؟
قال: ابصق علي وجهي إن هذا حصل

 

آراء