كتاب جعفر نميري لوحة لرئيس سوداني 6-7
محمد الشيخ حسين
29 January, 2013
29 January, 2013
الأعمال الشاقة
كانت هناك عدة أسباب وراء اختيار نميري للكلية الحربية، لعل من أهمها على الإطلاق حب نميري للأعمال الشاقة والحيوية والرجولة. وكان يرى في الحياة العسكرية هذه الأمور كلها، وأن العسكريين هم قمة الرجولة وهم الذين يخدمون وطنهم بشرف وبكل التفاني.
ومن ذكريات الكلية الحربية الراسخة في ذهن نميري حسب روايته لفؤاد مطر أنه (ارتدى البنطلون للمرة الأولى يوم التحق بالكلية وكان في التاسعة عشرة من عمره)، وقبل ذلك كان يرتدي الرداء.
التحق نميري بعد تخرجه من الكلية الحربية عام 1952 برتبة ملازم ثان، بالقيادة الغربية في مدينة الفاشر. وهناك شعر بشيء من الهيبة، بسبب أن العسكريين الذين يعملون في هذه المنطقة هم الأشد بأسا في السودان. وكان معروفا عن ضباط القيادة الغربية أنهم يعاملون الضباط الصغار بكثير من القسوة ويجبرونهم على العمل الشاق.
بعد أسبوع من وصول نميري للفاشر وصلته رسالة تطلب منه الجلوس لامتحان. وجلس مع ثلاثة ضباط آخرين، بإشراف رئيس لجنة الامتحان البريجادير باول وهو بريطاني وكان قائد المنطقة الغربية. وبعد أداء الامتحان، أعلن القائد (هنالك اثنان مرا واثنان رسبا، ويهمني أن أقول إن نميري هذا سيكون جنرال الجيش السوداني).
قصة مشاجرة
الجوانب المخلتفة في شخصية نميري متعددة ومثيرة للاهتمام. وهذه قصة مشاجرة وقعت بعد منتصف ليل 31 ديسمبر 1963 بين نميري وأحد المواطنين في طلمبة الوقود في شارع الدومة في ودنوباوي، نلم بتفاصيلها من مذكرة دونها نميري إلى سعادة قائد الأورطة الأولى بحامية الشجرة الخرطوم. وبرر نميري رفع المذكرة حتى لا تصل الحقائق مشوهة. وجاء في نص المذكرة التي ننقلها بنصها.
أود أن أحيط سعادتكم بحادث طارئ حصل لي في منتصف ليل 31 ديسمبر 1963 حتى لا تصلكم الحقائق مشوهة وعارية. كنت في طريقي إلى منزلي بودنوباوي في حوالي الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم 31/12/1963 وشعرت بأن عربتي الخصوصية تحتاج إلى وقود عرجت على طلمبة اجب للبنزين التي تقع في على تقاطع شارع الدومة وشارع الخليفة، وطلبت من العامل الذي كان نائما أن يملأ التنك بخمسة جالونات، ولكنه فشل في أن بفتح التنك فما كان مني إلا أن تحركت خارجا من منطقة الطلمبة وفي أثناء خروجي وقع نظري على جملة مفاتيح في حلقة أوقفت العربة ورفعت المفاتيح ووضعتهم في جيبي وتحركت صوب طلمبة شل التي تبعد عن الأخرى حوالي 300 ياردة في تقاطع شارع ود البصير وشارع الخليفة بأمدر مان أخذت كفايتي من البنزين وعند تحركي من الطلمبة صوب القسم الشمالي لمسافة خمسة ياردة سمعت أحد الأشخاص ينادي علي بالوقوف فما كان مني إلا أن أوقفت العربة ونزلت منها مستفهما عن الحاصل فبادرني الشخص الذي كان ينادي بسؤال عن الشيء الذي أخذته من منطقة طلمبته وهل هي مفاتيح؟ فأجبته بإخراجي المفاتيح من جيبي وعرضتها عليه. فقال هذه المفاتيح تخصني وهي مفاتيح الطلمبة. فقلت له جميل جدا سوف أحملها للبوليس فما عليك إلا التبليغ هناك واستلامها منه.
وبدأت السير راجلا إلى المركز الذي يبعد عن محلنا حوالي مائة ياردة وما سرت خطوات قليلة إلا واعترضني مانعا أياي الذهاب للبوليس، ولكن حولته عن طريقي بيدي اليمنى ماسكا المفاتيح بيدي اليسرى واستمريت في السير فما كان منه إلا أتى مسرعا في وجهي وهجم علي محاولا أخذ المفاتيح وكانت الهجمة قوية وغير متوقعة ما جعلني أقع على ظهري وهو ممسك بيدي التي بها المفاتيح لأخذها بالقوة. واستطعت أن أقذفه بعيدا عني قذفة قوية لخفة وزن جسمه واسترديت قيامي بسرعة. وهجم علي مرة أخرى فكان نصيبه صفعتين قويتين على خده، ما جعله يجري بحثا عن حجارة وطوب ليقذفني به. جمع جملة طوب وصار يقذفني به، ولكن عامل طلمبة شل استطاع أن يغير مجرى القذائف بمسكه من أياديه. وقد تمكن المهاجم من الافلات منه والهجوم علي مرة أخرى، ولكني رددت عليه بصفعتين أخريتين قويتين جعلته يحاول مرة أخرى قذفي بالطوب إلى أن حضر ديدبان النقطة من البوليس وأخذه معي إلى المركز الشمالي.
وددت بذلك أن أضعك في الموقف وقد حاول رجال البوليس أن ينهوا هذا الاشكال بالتي هي أحسن، ولكني أصررت على فتح بلاغ ضده بالتهجم. وبلغت ضابط نوبتجي رئاسة القوات بالحادث، ولم أبلغ ضابط نوبتجي الشجرة، لأنه كان برتبة صول.
يؤيدني في هذه الأقوال عامل طلمبة شل ورجل البوليس الذي حضر أخيرا. وقد أوريته حوادث ظرفية تؤكد نية ذهابي لمركز البوليس لإعطائه المفاتيح وحادث هجومه علي. هذا ولسعادتكم فائق شكري واحترامي.
وذيل الخطاب بتوقيع بكباشي جعفر محمد نميري رئاسة الأورطة الأولى ـــ حامية الخرطوم ـ الشجرة. بتاريخ 31/12/1963.
كان تعليق (كاتم أسرار) وهو لقب يطلق على الضابط المسؤول آنذاك (يحفظ هذا التقرير في ملف الضابط إلى أن نسمع من البوليس عن سير القضية وتطلب يومية التحري وحكم القاضي بعد انتهاء التصفية). وكتب هذا التعليق بتاريخ 12/1/1964.
تلك كانت فصول قصة مشاجرة من طلمبة شارع الدومة إلى حامية الشجرة. وقد يبدو أمرا غريبا جدا هذا الحرص الشديد من جانب نميري على تدوين وقائع هذه المشاجرة بدقة شديدة ورفعها إلى أعلى المستويات. وغالب ظني أن نميري الذي كان في الاستيداع حتى ذلك التاريخ، كان له هدفا آخر يتخطى مجرد إثبات وقائع مشاجرة عادية جدا يمكن أن تحدث في اليوم أكثر من مرة. وهنا يمكن الاستنتاج، وهذا تحليل شخصي، أن نميري في تلك الليلة كان منهمكا في اجتماع لتنظيم الضباط الأحرار، ومن المؤكد أن هناك رقابة ما حول تحركاته. إضافة إلى تقارير متعددة تحمل شكوكا في تصرفات بعض الضباط الذين كان من بينهم نميري.
ويؤكد هذا الاستنتاج قرار الفريق إبراهيم عبود بنقل نميري خارج الخرطوم بدأ بمقدمة (بما أن هناك شكوكا حامت حول تصرفات مجموعة الضباط الآتية أسماؤهم). وحذفت أسماء الضباط من ملف خدمة نميري.
وجاء في نص القرار (إن هذه التصرفات في الخدمة العسكرية كادت أن تخل بالضبط والربط وحسن الانتظام العسكري. ويخشى منها على تصدع في وحدة صفوف القوات المسلحة، فإن لما لدي من سلطات حسب القوانين وبالتشاور مع السيد وزير الدفاع ورئيس مجلس الوزراء قررت إبقاء البكباشي جعفر محمد نميري في الخدمة ونقله فورا). وحمل القرار توقيع الفريق إبراهيم عبود بتاريخ 12 نوفمبر 1964.
ويدعم الاستنتاج ما جاء في مذكرات الرائد معاش زين العابدين محمد أحمد عبد القادر من أن نميري كان أعلى الضباط رتبة في تنظيم الضباط الأحرار. ومن المعلوم أن تنظيم الضباط الأحرار، يتسم بضوابط صارمة وسرية مطلقة، فضلا عن أن التنظيم في تلك المرحلة تمحورت مهمته في حماية الدستور والحفاظ على أمن البلاد، ولم تكن مسألة الاستيلاء على السلطة مطروحة في ذلك الوقت.
وعودة للمشاجرة في طلمبة شارع الدومة، فقد كان السؤال عن بلاغ نميري في قسم شرطة أمدرمان شمال حاليا، مثل من يبحث عن إبرة في وسط جبال من الرمال. المهم أن نميري دون هذا البلاغ بكل تفاصيله اللاحقة لكي يوفر قرينة ظرفية قد تنفعه في أي استجواب أو تحقيق عن تلك الليلة، مع ملاحظة أن الأحزاب الوطنية بعد عام واحد من ثورة أكتوبر قد أدخلت البلاد في دوامة من الخلافات والانشقاقات دفعت تنظيم الضباط الأحرار إلى إعادة التفكير في الاستيلاء على السلطة، خاصة بعد توطد علاقات الصداقة بين: اليوزباشي زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، اليوزباشي أبو القاسم محمد إبراهيم، اليوزباشي مامون عوض أبو زيد، والقائمام جعفر محمد نميري. وأدعم هذا الاستنتاج بإفادة ثانية من مذكرات زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، الذي أكد أن لقاءات الأربعة، خرجت بتصور متكامل للاستيلاء على السلطة، بهدف إخراج البلاد من النفق الذي زجتها فيه الأحزاب.
على أن المهم هنا أن نذكر أن كافة الملابسات والظروف التي سبقت عملية استيلاء تنظيم الضباط الأحرار على السلطة في السودان فيما عرف بثورة 25 مايو 1969 قد سجل تفاصيلها الرائد مأمون عوض أبوزيد في مذكرة ضافية من 40 صفحة طبعت على ورق الرونيو بعد منتصف السبعينيات. وهناك إفادات أن المرحوم مأمون حفظ هذه المذكرات في لندن. وكان ضنينا بنشرها، بقناعة أن زمن نشرها لم يأت بعد.
وأهمية هذه المذكرات أن الرائد مأمون لعب الدور المحوري في كافة عمليات التمويه التي أدت إلى أن تكون ثورة 25 مايو كما قال منصور خالد (انقضاضة سريعة ما شابها دم ولا اكتنفها عنف).
جامعة الجزيرة
في اليوم التاسع عشر من فبراير 1979، توجه البروفيسور أحمد محمد علي إسماعيل، إلى مدينة ود مدني لافتتاح جامعة الجزيرة بدعوة كريمة من مديرها وقتئذ البروفيسور محمد العبيد المبارك، عليه رحمة الله. وجاء في مقال كتبه البروفسيور أحمد: تحركنا أنا وصديقاي الدكتور أمين مكي مدني والأستاذ الكبير التجاني الكارب بعربة الأخير. وصلنا الى ود مدني وحضرنا جميع المراسم والبروتوكولات التي أقيمت.
وفي حفل تدشين الجامعة سجل البروفسيور أحمد حقيقة سمعها من نميري في حق البروفيسور محمد عبيد المبارك حين قال نميري (منذ أن عينته مديرا لجامعة الجزيرة، حيث لم يكن بموقعها الحالي، والذي نحن نفتتحه اليوم لا طوبة حمراء واحدة ولا كرسي، لم يحدث أن جاءني ود العبيد طالبا مني أي تدخل من وزارة المالية لمنحه المال اللازم، أو أي طلب آخر لإنجاز الجامعة. ولم أره لمدة ثلاث سنوات حتى فوجئت بهذا الصرح العظيم).
نكتة أبو داؤود
بعد انتهاء حفل افتتاح جامعة الجزيرة، توجه البروفيسور أحمد محمد علي إسماعيل ومرافقوه إلى منزل آل مكي مدني العامر دائما بالخير والكرم، وكان معهم الفنان الكبير أحمد المصطفى الذي جاء إلى مدني لحضور الافتتاح والغناء بمسرح الجزيرة. وصل بعد ذلك السيد عبدالرحيم محمود حاكم الإقليم الأوسط في ذلك الوقت. وبعد أن حيا ضيوفه أراد الفنان أحمد المصطفى أن يبدأ الغناء، لكن السيد عبد الرحيم محمود أوقفه قائلا (الليلة دي يا أحمد ما تغني لينا ولا أغنية من أغانيك، على الرغم من اشتياقنا وحبنا لها. ولكن أرجو منك، وهذه فرصة لن تتكرر أن تحكي لنا وبإسهاب وتفصيل عن تاريخ كل أغانيك كيف تمت ومن هم الشعراء وما هي المناسبات).
أبدى الفنان أحمد المصطفى ارتياحه وحكى جل قصص أغانيه. وبعدها انتقل الى جانب آخر وقال: سوف أحكي لكم قصة ولكنها ليست قصة أغنية ولكنه موضوع حقيقي حصل لنا في جنوب السودان في مدينة جوبا سنة 1972، عندما ذهبنا مرافقين أنا وزميليّ حسن عطية وعبد العزيز محمد داؤد بمناسبة الذكرى الأولى لاتفاقية أديس أبابا.
وحكى أحمد المصطفى: وصلنا إلى مكان الحفل وكان قاصرا على الرئيس نميري وحرسه الخاص. واستدرك أحمد لكن يا جماعة أقول ليكم بصراحة كان كل ما يشغلنا في تلك الليلة أنا وحسن وأبو داؤد هو موضوع إطلاق سراح أخينا وصديقنا الفنان محمد وردي الذي كان معتقلا سياسيا منذ انقلاب الرائد هاشم العطا في يوليو 1971م.
وتابع أحمد المصطفى: كنا نغني أمام الرئيس، ولكن المزاج ما كان تمام لأن همنا الأكبر هو كيف ننقل للسيد الرئيس رغبتنا السريعة والأكيدة لإطلاق سراح الفنان وردي. والطريف في الموضوع أن الرئيس نميري كان مبسوط جدا وخصوصا عندما يغني أبو داود وبعد كل أغنية كان الرئيس ينادي على أبو داؤد (تعال أقعد بالقرب مني وأحكي لي نكتة نكتتين). ويذهب أبو داؤد ويجلس بالقرب من الرئيس ونحن ننصت للضحك والقهقهة والمرح بين الرئيس وأبو داؤد ونحن برضو همنا كلو إطلاق سراح وردي.
ويستطرد أحمد المصطفى: في لحظة من اللحظات جاءني أبو داود وقال لي يا رئيسنا ويا عميدنا ما تكلم الرئيس بخصوص الفنان وردي، فرديت عليه أنت يا أبو داؤد قاعد طوالي جنب الرئيس وبالقرب منه ما تكلمو أنت بطريقتك وأنا وحسن عطية سوف نتولى الموضوع ونتابع معك.
وأكمل أحمد المصطفى القصة بعد لحظات صمت: ذهب أبو داود وجلس بالقرب من الرئيس، وقال بصوت خافض: يا رئيس موضوع وردي؟. وهنا دوت القاعة بصوت عال من الرئيس نميري: أيوه وردي مالو؟ فرد عليه أبو داؤد بكل ذكاء واقتدار قائلا: حتعدموه متين يا رئيس؟
وفجأة تغير الحال وضحك الرئيس نميري بصوت عالٍ وضحك جميع الحضور حتى حسن عطية كاد يقع من الكرسي من كثرة الضحك. وفعلا وبعد الرجوع إلى الخرطوم تم الإفراج عن صديقنا وزميلنا وردي بواسطة الرئيس نفسه، والسبب كلو ذكاء وخفة دم عبد العزيز محمد داؤد.
mohed hussein [abusamira85@gmail.com]