السفر بين مصر وامريكا وكندا (3)
هلال زاهر الساداتي
30 January, 2013
30 January, 2013
وتلقيت دعوة من شقيقتى وشقيقي لزيارتهم فى كندا ، واغتبطت ورحبت بالدعوة ، فقد تفرقنا ولم نشاهد بعضنا بعضا" لمدة اثنى عشر عاما" ، فهم كانوا من ضحايا الانقاذ الأوائل ، فشقيقتى فصلت للصالح العام وقد كانت ضابط حكومة محلية متميزة ببلدية مدينة امدرمان ، وكان أحد شقيقى من كبار المحامين وقد تعرض للتعذيب فى بيوت الأشباح والتسفير الى سجن شالا بدارفور ، والشقيق الآخر فصل من كلية الهندسة بجامعة الخرطوم وادخل السجن فى كوبر وسجن دبك ، واضافة الى ذلك كان هناك زوج شقيقتى الضابط السابق بالحرس الجمهورى والذى قضى سبع سنوات فى سجون نميرى وعمر البشير ونجا من مجزرة الضباط بالشجرة لأنه قبض عليه فى وقت متأخر بعد ان هدأ سعار نميرى للانتقام من ضباط 19يوليو ، وبخاصة ان صهرى كان أحد ضابطين القيا القبض عليه من داره وكان معه قادة انقلاب مايو الرواد ابوالقاسم محمد ابراهيم وابوالقاسم هاشم ومامون عوض ابوزيد وزين العابدين محمد احمد عبد القادر ، وكان نميرى مرتديا" عراقى وسروال وحافيا" ، وكان الضابط زميل صهرى فظا" معهم وعاملهم معاملة العساكر آمرا" لهم : ( صفا انتباه ) حتى نال منهم التعب ، ولا استرسل فى وصف ما حدث لأن صهرى اصدر كتابا"مفصلا"عن انقلاب 19يوليو والكتاب الان تحت الطبع . واستبدل حكم الاعدام الصادر على صهرى بالسجن المؤبد وافرج عنه فى الديمقراطية الثانية ، واعيد اعتقاله فى بداية انقلاب عمر البشير .
وذهبت الى كندا وتحديدا" الى مدينة تورنتو حيث اقامة بقية اسرتى ، ومدينة تورنتو تقع على مسافة ساعتين ونصف بالسيارة من حدود الولايات المتحدة ، وعلى تخوم ولاية الاسكا والمحيط المتجمد الشمالى ولذلك يتميز الطقس بالبرودة الشديدة فى الشتآء وقد تصل درجة الحرارة الى عشرين وثلاثين درجة تحت الصفر ،وكانت زيارتى عند بداية فصل الشتآء ونزول الجليد ، ومثل ما ينزل المطر عندنا فى السودان رذاذا" وسرعان ما يشتد وينهمر ، فقد شهدت نزول الثلج هنا وهو منظر ياخذ بالالباب ،فترى الأفق والسمآء قد أمتلأت بنقط صغيرة بيضاء مثل جوز الهند المبشور أو كالعهن المنفوش يسقط فى تتابع سريع على الارض ، ويتراكم طبقة فوق طبقة حتى يصير جليدا" صلدا" .واما الاشجار هنا قبل الشتآء تراها مخضرة خضرة زاهية وتلمع اوراقها وكأنها غسلت بالمآء والصابون ، ولأول مرة اشاهد اشجارا" اوراقها حمرآء حمرة مذهلة واخرى اوراقها صفرآء ، وياتى الناس من انحآء كندا للفرجة على هذه المعجزة الربانية ، ورأيت لأول مرة ايضا" اشجار التفاح وهى اشجار الواحدة منها طويلة الارتفاع ممتلئة محيط الساق ويتدلى من فروعها الثمار ، وعندما تنضج تقع على الارض المعشوشبة ، ويأتى عامل من البلدية يركب عربة خاصة تجمع هذه الثمار مع اوراق الشجر الجافة من فوق الأرض ، و يذكرنى هذا المنظر بمشهد اخر عندما كنت اعمل بمدينة المناقل فى بداية الستينات من القرن الماضى ، وكنت عائدا"من مينة مدنى راكبا" البص وهو لورى ثبتوا فيه صفوفا"من المقاعد وكان يركب بجوارى رجل قروى ، واخرجت من كيس التفاح الذى كنت احمله تفاحتين واعطيت الرجل واحدة ، وسألنى باستغراب عن هذا الشئ ، فأخبرته وقضمت قضمة من تفاحتى وقلت له ان ياكل منها ،فامتنع وقال لى انه سيحتفظ بها الى ان يصل الى قريته ويريها لاولاده ! ومدينة تورنتو تقع على هضبة وتحيط بها مرتفعات ، واينما اتجهت تشاهد خضرة واحراش خضرآء ،وهنآك اشجار لا تسقط اوراقها عند الشتآء وتظل خضرآء طيلة العام وهذه يطلق عليها أشجار دآئمة الخضرة وهنا المنازل واسعة وعلى طراز واحد تقريبا" مثل المنازل فى امريكا ، وكل منزل له حديقة خلفية ويزين مدخل البيوت أصص فيها زهور وورود ،وتتميز الشوارع بالنظافة الفائقة ،وتجئ عربات نقل القمامة فى كل يوم الى كل منزل لنقل القمامة التى يضعها اصحاب المنزل فى اكياس بلاستيكية و الطريق العام له مساران بينهما جزيرة من النجيل الاخضر, و حركة السيارات منضبطة و لم اسمع صوت آلة تنبيه ( بورى ) هنا أو فى اميركا ،وحركة البصات منضبطة وبكفآءة عالية فتجد بعد كل عشر دقائق بصا" ، وهناك استراحات للركاب بها كنبتان وسقف وجوانب من الزجاج للوقاية من الشمس والمطر ، واما البصات فانها كبيرة وواسعة ومكيفة ولا يوجد بها محصل للأجرة ( كمسارى ) بل سائق فقط ، ويبرز الراكب للسائق ( ابونيه ) ويسمونه هنا ( بآس ) ،اويضع الأجرة فى فتحة صندوق امام السائق وتخرج التذكرة ( اوتوماتيكيا" ) والبصات مقاعدها مريحة وهناك مشاجب معدودة فى السقف للواقفين من الركاب ، وتذكرة البص زهيدة الثمن ، واما مايثير الاعجاب حقا" فهو النظام فى الركوب والنزول من البص فالركاب يقفون فى صف واحد ولاأحد يتخطى الآخر ، وتعلو مقدمة البص من الداخل فى مواجهة الركاب لآفتة مضيئة تعرف بالمحطة القادمة وبالصوت ايضا" من المكرفون ، ولا يتحرك البص حتى يركب المعوقون من الراكبين وكبار السن وهؤلآء لهم مقاعد مخصصة فى مقدمة البص . ومما أثار دهشتى انه كان يجلس فى مواجهتى على الجانب الآخر رجل ضرير وتحت قدميه كلب ضخم يمسك الرجل بسلسلته ، وكان الكلب يقعد فى هدوء وعندما وصل البص الى عند المحطة التى ينزل فيها الرجل عادة نهض الكلب فى هدوء ويتبعه صاحبه الى باب النزول ولايوجد مدافعة ولامزاحمة ولا مناكفة كالتى خبرت فى ميدان الشهدآء بامدرمان عند موقف الحافلات والدفارات ، وكذلك فى موقف ميدان التحرير بالقاهرة ،حيث يتمكن من الركوب الأقوى ولا مراعآة للنسآء وكبار السن من الرجال والنسآء وحيث أقل ضرر يصيبك هو كرمشة قميصك واتساخه ان لم يتمزق الى جانب رزالة السائقين أو الصبية ( الكمسارية ) فى الدفارات والحافلات ، ولقد كتبت قصة قصيرة عنوانها ( الدفار ) نشرت قبل عدة سنوات .
ولن أنسى أن نسيت منظرا" رأيته فى تورنتو وانا فى البص ، فقد توقف البص فجأة وتوقفت حركة السيارات فى الاتجاهين ، وتوقعت ان يكون هناك حادث ، ونظرت من نافذة البص فشاهدت بطة ومعها صغارها يعبرون الشارع ، واستأنفت الحركة سيرها بعد أن عبرت البطة الطريق براحة وبطء ، والأغرب اننى لم اسمع من الركاب اعتراض او احتجاج ، وعرفت من صهرى وكان فى المقعد بجوارى ان هذا النوع من البط اسمه البط الكندى ولونه بنى أو رمادى ولا يوجد الا فى كندا , وهذا هو موسم توالده. ويوجد فى كندا على مسافات محددة هاتف مرقم يمكن ان يتصل به أى فرد بادارة المرور عند حدوث حادث أو مخالفة ، فتجد سيارة النجدة تلبى الندآء فى دقائق قليلة .
والناس هنا مهذبون ومستعدون دآئما" لمد يد المساعدة من تلقآء انفسهم ، ومع ان سكان كندا من اعراق وجنسيات مختلفة ومتعددة فان الغالب على سكانها الصينيون فقد رأيت ان معظم الركاب فى البص من الصينيين وكذلك الهنود والأسبان .
ومن يزور كندا ولم يزور شلالات نياجرا فقد فاته متعة كبيرة ومعرفة ثرة ، وقد حظيت بزيارتها وامضينا يوما" كاملا" هناك وهى تبعد مسافة ساعتين بالسيارة من تورنتو ، والشلالات التى يتدفق مآؤها من كبرى البحيرات الخمس هى الحد الفاصل بين اميركا وكندا ، ولقد زودت الحكومة الكندية الموقع بشتى وسآئل الترفيه والرآحة من فنادق فخمة ومطاعم وسينمات ومسارح وكازينو ضخم للقمار وكذلك دراجات هوائية لركوب الصغار والكبار وبلاج للاطفال ومدينة ملاهى وهناك باخرة صغيرة تنقل الركاب الى مقربة من ميآه الشلال لمن يريد ذلك نظير أجرة ، وضفة شاطئ الشلال مرتفعة ويمتد بعدها ارض منبسطة تكسوها النجيلة الخضرآء وتتخللها الأشجار الباسقة ، وقد زودت بالكنبات والشوآيات فالبعض ممن يحضرون للنزهة وقضآء اليوم يحضرون معهم طعامهم وشرابهم من المآء الصحى والمشروبات من العصير والاشربة الخفيفة الأخرى ، فالخمور هنا محظورة، وكذلك يحملون معهم لحوما" طازجة للشوآء .
والمعلم الآخر البارز فى كندا والموجود فى تورنتو هو برج تورنتو والذى يبلغ ارتفاعه 553مترا" (قدما1815) وهومفخرة لكندا والكنديين وبه طابق مصنوع من الزجاج الابيض الشفاف الغير قابل للكسر وترى منه الجهات الأربع ، ولقد شاهدت الكثيرين منبطحين فوق ارضية الطابق ليلتقط اصدقاؤهم او من فى رفقتهم الصور الفوتغرافية فى هذا الوضع ، وهناك فى جوانب البرج مناظير مقربة تضع فى فتحة احدها دولارين وتنظر من خلالها المطار والشلالات وعمارات تورنتو العالية مكبرة وهناك عرض شيق لسرب من الطائرات الصغيرة على علو منخفض . وقد رأيت طيور النورس البيضآء فى جماعات تمشى فى اطمئنان بين الزائرين ، وهى طيور كبيرة الحجم جميلة الشكل وتوجد عادة فى البحار متتبعة السفن العابرة لتلتقط بقايا الطعام التى يلقون بها الى المآء ، ويبدو ان هذه الطيور استسهلت الرزق الهين الموجود عل اليابسة لأن الزآئرين يلقون اليها بقايا الأطعمة ، ولا يخلو يوم واحد من مئات أو آلاف الزوار ، وقد قدر عدد الزوار بمليون زائر فى العام ويبدو ان هذه الطيور لديها قائد ، فعند حلول المسآء تزداد شقشقة اصواتها وكأنها تنادى بعضها وتتجمع ورآء قائدها وتطير محلقة فى الفضآء آيبة الى أعشاشها . واميركا وكندا متشابهان كتوائم فكلاهما بلد سكان أتوا من قارات أخرى ومن أعراق وجنسيات مختلفة ، وهذا التنوع الاثنى والثقافى كان له مردود ايجابى فى تشكيل حياتهم ، وقد توافقوا على دستور يدينون له ويلتزمون بنصوصه الى حد التقديس .
ومن اللافت للنظر رجال البوليس فهم يشبهون نظراءهم فى امريكا فمعظمهم ان لم يكن كلهم ضخام الأجسام ، وكل واحد منهم مدجج بالسلاح وتجد اشيآء ومعدات متدلية من وسطه وصدره ما تعرفه منها هو مسدس كبير وحافظة رصاص اضافية وعصا وكلبشات ، واعتقد ان ذلك ضرورى للتعامل مع المجرمين المسلحين ، فالأسلحة هنا متاحة للجميع ، واظن ان أقتنآء السلاح النارى شئ عادى للفرد تماما" مثل أقتنآء العكاز او سكين الضراع فى السودان .ونتيجة لانتشار الأسلحة حدثت مجازر ومآسى عديدة ، ولقد حضرت مجزرة هنا هزت امريكا فقد فتح شاب النار من بندقية آلية على اطفال فى مدرسة ابتدائية مختلطة وهم داخل الفصل فقتل منهم اثنين وعشرين طفلا" وطفلة تتراوح اعمارهم بين الثامنة والعاشرة ، وقتل معهم مدير المدرسة واثنين من المدرسين ، وظهر الرئيس اوباما فى التلفزيون ناعيا" الاطفال وهو يبكى ، وقال انه سيتقدم بمشروع قانون للكونقرس لحظر الأسلحة النارية والتشديد فى التصريح بها وتكررت هذه الحوادث الفاجعة فى امريكا وكندا فى المدارس والكليات قبل ذلك . وقبل ان أنهى هذه الأنطباعات كنت أود ان اجيب على القارئ الكريم الذى طلب منى أن أكتب عن انطباعى الأول عند وصولى الى مطار جون كندى فى امريكا ووقوفى امام موظفى الجوازات والهجرة ، وقد فعلت ، وارسلت الرد ولكن لخطأ فنى لم يصل الرد الى الصحيفة . واما الانطباع الكبير الذى خرجت به وهو ذاتى ، اننا فى السودان واقطار العالم الثالث نرزح فى التخلف الشديد الذى لا فكاك منه لنلحق بدول العالم الأول ، ونحن فى السودان قد ابتلينا بحكومات لاهية مستبدة جاهلة ولا سيما حكومة الأنقاذ الحالية ـ حكومة الأخوان المسلمين ـ . واما مقارناتى عن مصر فى حركة المرور والنظام والسلوك ، فاننا لا ننكر ولا نتنكر لجارتنا انها فتحت ارضها لاستضافة اللاجئين السودانيين الفارين من حكم الفساد والاستبداد فى السودان ، ولكن تشوهت هذه الضيافة بالمن والاذى مع ان هيئة الأمم المتحدة تدفع مالا" عن كل لاجئ ولاجئة نظير رعايتها المفترضة لهم ، وما زالت فى الحلق غصة وفى القلب حسرة وألم مما أقدمت عليه قوات أمن الحكومة المصرية من مجزرة تقتيل اللاجئين السودانيين المعتصمين بميدان مسجد مصطفى محمود فى القاهرة بمن فيهم من اطفال ونسآء فى فجر يوم الجمعة اول يناير و2006 , و لذلك ما زلنا نطالب بالقصاص من القتلة المجرمين المسؤلين عن تللك المجزرة و تقديمهم للمحاكمة فان الجرائم ضد الانسانية لا تسقط بالتقادم .
هلال زاهر الساداتى
البريد الالكترونى
helalzaher@hotmail.com
////////////////