تواريخ- سنة أُم لحّم

 


 

 



أثناء دراسة احصائية كنت اقوم بها في كتاب "الطبقات" لود ضيف الله، بغية إعداد بحث لغوي، لفت انتباهي تكرار عبارة "سنة أم لحم" تستعمل للتأريخ لبعض الوقائع والأحداث. فاستهوتني العبارة وطفقت ابحث عن هذه السنة وماذا حدث فيها ولماذا سميت بأم لحم؟!
ومعلوم أن الناس كانوا في بلادنا ولا يزالون يؤرخون لأيامهم بالحوادث الكبرى كالحروب والمجاعات والفيضانات والأوبئة ووفيات الأعيان، فيقولون مثلا: سنة الحرقة، وسنة ميتة فلان، وسنة قتلة (مقتلة) القبيلة الفلانية مع القبيلة العلانية، وسنة الجدري وسنة أب فرار (السحائي) وسنة الجفاف، وسنة النميري مسك الحكم الخ..
وهذا التقليد قديم في تاريخ الأمم. فكان عرب الجزيرة العربية مثلا، قبل الاسلام وبعده يفعلون الشيء نفسه، فيقولون عام الفيل وهو العام الذي غزا فيه أبرهة الحبشي مكة طالبا الكعبة وذلك باستخدام الفيلة وهو عام ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويقابل بالتقويم الميلادي سنة 570م. واستمر هذا التقليد في الإسلام، فهنالك عام الرمادة وهو العام الذي حدثت فيه المجاعة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الامر الذي اضطر معه الخليفة العادل الى تعطيل حد السرقة.
وللمزيد من المعلومات عن "سنة أم لحم" إضافة إلى ما ذكره ود ضيف الله، شرعت في البحث عن مصادر تاريخية أخرى فلجات أولا  لكاتب الشونة: "في تاريخ المملكة السنارية"، فلم يزد شيئا كثيرا عما ذكره صحاب كتاب "الطبقات". فبحثت في كتب التاريخ: تاريخ السودان، لنعوم شقير، والسودان عبر القرون، لمكي شبيكة، فلم يغادرا شيئا مما تفضل به ود ضيف الله وكاتب الشونة.
خلاصة ما خرجت به من تلك المصادر أنه قبل نحو أكثر من ثلاثمائة سنة من الآن وتحديدا في سنة 1684م أصابت الناس مجاعة وانعدم العيش (الحبوب والغلال) وعم الغلاء الفاحش حتى أضطر الناس إلى أكل لحوم الكلاب. وتفشى وباء الجدري، فهلكت أعداد غفيرة من الناس. والظاهر أن هذه المجاعة قد ضربت مراكز مملكة سنار ومملكة العبدلاب وسلمت منها الأطراف حيث نجع (نزح) الناس إلى كردفان وجبال النوبة و(الصعيد) جنوب النيل الأزرق.
حدث ذلك في عهد حكم الملك أونسه ود ناصر سلطان مملكة الفونج (سنار). وكان أونسه قد خلف بادي أبو دقن وحكم 12 سنة. واذا علمنا أن السلطنة الزرقاء تاسست سنة 1505 ميلادية، فهذا يعني أن سنة أم لحم حلت بعد حوالي 180 سنة من حكم الفونج الذي امتد إلى فتح محمد علي للسودان في 1821م. وكان ود ضيف الله قد فرغ من وضع كتابه سنة 1753 ميلادية، وهذا يعني أن سنة أم لحم حدثت قبل نحو 70 سنة من اكتمال مخطوطة كتاب "الطبقات".
يقول كاتب الشونة - أحمد بن الحاج، ثم مَلَك بعد بادي أبو دقن:" ابن أخيه أونسا ولد ناصر وهو الذي في ملكه ظهرت سنة أم لحم وهي سنة مغلية ومعها داء الجدري وقيل من شدة الغلاء أكل الناس الكلاب". وكان كاتب الشونة قد ولد في اواخر مملكة سنار وعمل كاتبا بمخازن الغلال، في الحكومة التركية، وخط كتابه سنة 1838م أي بعد نحو 17 سنة من سقوط سنار.  والشونة هي مخزن الغلة، ويقول عون الشريف، إنها كلمة قبطية.
أما نعوم شقير فقد كتب عنها :"الملك أونسه الثاني 1678- 1689 م وفي أيامه.. حصل غلاء شديد واشتد الجوع حتى أكلت الناس الكلاب فسميت هذه السنة سنة أم لحم. وفيها تفشى مرض الجدري ومات منه ومن الجوع خلق كثير" وكان شقير قد نشر كتابه سنة 1902م.
وذات الشيء ذكره مكي شبيكة بقوله :"بعد حكم دام نحو 35 سنة توفى بادي أبو دقن وخلفه ابن أخيه أونسه ولد ناصر وفي عهده دونَتْ لنا الروايات غلاءً أجبرَ الناسَ على أكل الكلاب، ولذلك كانوا يؤرخون لها بسنة أم لحم، ومات خلق كثير من تأثير المجاعة ووباء الجدري".
وأسباب هذه المجاعة غير واضحة بالمصادر التاريخية، ولكن أغلب الظن ان السبب قلة الأمطار وانحسار النيل. هذا ما يستشف من إشارة وردت في خبر بكتاب الطبقات، حيث جاء في سياق ترجمته للشيخ الزين صغيرون قوله: "توفى سنة تسعة وتسعين بعد الألف، سنة النيل اللّمَ الناس من سنة أم لحم". نفهم من ذلك ان الناس استمروا في النجيع والنزوح اربع سنوات من سنة خمس وتسعين إلى سنة تسع وتسعين بعد الألف (هجرية)، حيث فاض النيل مرة أخرى ولمَّ الناس من النجيع وعادوا إلى ديارهم.
ومن الأعلام الذين نجعوا في سنة أم لحم والذين ورد ذكرهم في كتاب الطبقات، الشيخ القدال بن الشيخ ابراهيم الفرضي والذي قال عنه ود ضيف الله: "ورُوي انه نجع في أم لحم إلى كردفال عند تلميذه الفقيه جودة الله، والد، مختار شارح الأخضري". وكردفال أي كردفان هكذا كانت تنطق ولا يزال عامة الناس يلفظونها كقولهم فنجال في فنجان وعلوان في عنوان. وإبدال النون لاما، ظاهرة لغوية معروفة منذ القدم في العربية وتحدثت عنها كتب فقه اللغة. وقد ترجم ود ضيف لكل من الفقيه جودة الله وابنه مختار، على انفراد.
ومن الأعلام الذين ماتوا في تلك السنة أثناء النجوع أو النجيع (كلها صحيحة) ممن ترجم لهم كتاب طبقات، والد المؤلف، الشيخ ضيف الله بن على الفضلي، والذي قال عنه: "وتوفى رحمة الله عليه في نجعة أم لحم وهي سنة خمسة وتسعين طالبين الحسيب، مَرِضَ فوق الطريق، بلا زوجته وبناته ما معاه أحد". ويبدو أنهم كانوا في طريق نجيعهم من حلفاية الملوك إلى الصعيد. ويقول د. يوسف فضل محقق الطبقات، إن "حسيب واد شرق، ود راوه"، بالضفة الشرقية للنيل الأزرق مقابل للكاملين تقريبا. قوله سنة خمس وتسعين، أي بعد الالف،  1095 هجرية الموافق 1684 ميلادية وهي سنة أم لحم.
ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ دفع الله. فقد جاء في ترجمة الشيخ أبو القاسم الجنيد بن الشيخ علي النّيّل بكتاب الطبقات:" واخبرني دفع الله بن الشيخ علي زين العابدين إن جده الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ دفع الله لما دنع الوفاة في بيله في نجيع أم لحم أوصى ولده زين العابدين قال له الزم الشيخ ابو القاسم الجنيد اخوي فلما رجع ابوه من النجيع طلع إلى الشيخ الجنيد فتلقاه وسلم عليه".
قوله "لما دنع الوفاة" أي لما قارب الوفاة. يقولون ما تِدّنَع فلان أو ما تدنعني: أي لا تقربني. والدناعة الالحاح في طلب الشيء والتقرب منه في رخصة نفس. وبيله، جبل معروف، يقول يوسف فضل، "يقع جنوب شرق رفاعة وبالقرب منه قرية تحمل نفس الاسم".
أما "النجيع" فكلمة عربية فصيحة لا زالت مستخدمة عندنا في لغة الكلام. يقول دكتور يوسف فضل محقق كتاب الطبقات: "النجيع هو الرحول من الأوطان تحت وطأة الجوع والمرض أو الخوف من الاعداء". هذا هو المعنى الذي ورد في خبر ود ضيف الله عن سنة أم لحم، ولكن معان النجيع في كلامنا أوسع من الذي تفضل به يوسف فضل. فالنجيع، إضافة إلى النزوح بسبب ما ذكره، يعني السفر إلى البعيد لجهة غير معلومة وبلا نية في العودة. ولا يزال أهلنا في كردفان يستعملون هذا المعنى. يقولون: فلان نجع وهو ناجع، إذا خرج مغاضبا أو غير مغاضب من دياره إلى مكان غير معلوم ولم يرجع. ويقولون البهيمة الفلانية نجعت: إذا خرجت إلى المرعي ولم تعد ولا يُعرف لها مكان.
ومصداقا لهذا المعنى يورد عون الشريف، قول الحردلو:" أحسن لي النجيع وأصبح بعيد مكتول". ويشرحه بقوله:" أفضل لي أن أهيم على وجهي حتى أصبح بعيدا ثم أُقتل. ويورد قول آخر: " هَمَّلْ دار أبوي وبقيت نجاعي".
والنجيع أو النجعة بمعنى النزوح طلبا للقوت وخوفا من المحل، ورد ت في معجم لسان العرب. يقول: "النُّجْعةُ عند العرب: المَذْهَبُ في طلَبِ الكلإِ في موضعه. والبادِيةُ تُحْضَرُ مَحاضِرُها عند هَيْجِ العُشْبِ ونَقْصِ الخُرَفِ وفَناءِ ماء السماء في الغُدْرانِ، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العِدَّ حتى يقع ربِيعٌ بالأَرض، خَرَفِيّاً كان أَو شَتِيّاً، فإِذا وقع الربيع تَوَزَّعَتْهُمُ النُّجَعُ وتتبعوا مَساقِطَ الغيث يَرْعَوْنَ الكَلأَ والعُشْبَ، إِذا أَعْشَبَتِ البِلادُ، ويشربون الكَرَعَ، وهو ماءُ السماءِ، فلا يزالون في النُّجَعِ إِلى أَن يَهيجَ العُشْبُ من عام قابل وتَنِشَّ الغُدْرانُ، فَيَرْجِعون إِلى مَحاضِرهم. وفي حديث علي، كرم الله وجهه: ليْسَتْ بدارِ نُجْعةٍ. والمُنْتَجَعُ المَنْزِلُ في طَلب الكلإِ، والمَحْضَرُ: المَرْجِعُ إِلى المياه. وهؤلاء قوم ناجِعةٌ ومُنْتَجِعُون، ونَجَعُوا الأَرض يَنْجَعُونها وانْتَجَعُوها. وفي المثل: مَن أَجدَبَ انْتَجَعَ. ويقال: انْتَجَعْنا أَرضاً نَطْلُبُ الرِّيف. وكذلك نجعتْ الإبلُ والغنمُ المرتعَ وانتجعته".- انتهى.
أما السابقة prefix أُم في عبارة "أم لحم" فتعني "ذات" أي ذات اللحم. فهي كغيرها من التعابير الأخرى في كلامنا، مثل أم سنط، وأم دم ، وأم الطيور، وأم دوم، وأم سيالة. أي ذات السنط، وذات الطيور، وذات الدوم، وذات الدم، إلخ... ومثال ذلك أيضا عبارة" الطاقية أم قرينات" أي الطاقية ذات القرون أو القرينات. وقياسا عليه فان لقب "ذات النطاقين" مثلا، ينطق في لهجة السودانية العربية، أم النطاقين. 
ولذلك ليس صحيحا ما يذهب إليه البعض، من أن "أم" في كلامنا تقوم مقام "أل" التعريفية التي في لغة حِمَّير اليمنية القديمة. والتي يروى بها الحديث:" ليس من أمبر أمصيام في أمسفر". 
هذا، وقد تكررت مجاعة سنة أم لحم في عهد حكم الخليفة عبد الله التعايشي وذلك بسبب شح الأمطار وتهجير الناس إلى أم درمان واهمال الزراعة. وكان ذلك سنة ستة هجرية بعد ثلاثمائة وألف أي سنة 1306 هـ، فسميت مجاعة سنة ستة. ويقابل هذا التاريخ بالتقويم الميلادي سنة 1894م. ثم تكررت الكارثة سنة 1984 أبان حكم نميري أو ما عُرف بسنة الجفاف والذي ضرب، بخاصة، أقاليم كردفان ودارفور وأدى إلى نزوح (نجيع) هائل من الريف إلى المدن.
حاشية:
لا زالت تتحكم في كتابة التاريخ عندنا المدرسة التقليدية التي تتهم بتدوين أخبار الحكام والملوك والسلاطين وأخبار الحروب والغزوات بين الممالك والدول، وتهمل التاريخ الاجتماعي أو المجتمعي لسائر الناس وما يصاحبه من ظواهر سيسيلوجية ودمغرافية. ونحن أشد حاجة لإجراء تعديل على هذا النهج التقليدي وربط التاريخ بدراسة واقع الناس وأحوالهم عبر العصور. وكان قد ظهرت بفرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين مدرسة في التاريخ تنحو هذا النهج  تسمى مدرسة "الحوليات".

المصادر: 
1-    محمد النور ود ضيف الله، كتاب الطبقات، تحقيق وتعليق د. يوسف فضل حسن، دار التأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم، الطبعة الرابعة 1992
2-    كاتب الشونة: أحمد بن الحاج أبوعلي، تاريخ السلطنة السنارية، تحقيق الشاطر بصيلي، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، طبعة 2009.
3-    نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الاولى 1902.
4-    مكي شبيكة، السودان عبر القرون، دار الجيل، بيروت، طبعة 1991. 
5-    عون الشرق قاسم، قاموس اللهجة السودانية، المكتب المصري الحديث، طبعة 1985.

abdou alfaya [abdfaya@yahoo.com]
/////////////

 

آراء