حكايآت الحلة: جبريل
هلال زاهر الساداتي
21 February, 2013
21 February, 2013
تتفاوت حظوظ الناس فى الدنيا كتفاوت اشكالهم وألوانهم وقدراتهم ،فالبشر يولدون متساوون فى الخلقة ،ولكن مستقبل ايامهم فى هذه الدنيا رهين بما تفرضه عليهم البيئة السائدة فى محيطهم صن تحضر أو بدآوة أو تعليم وتربية ومعتقدات واحسب أن التعليم هو العامل الأهم فى تشكيل الفرد ، وفى ازدياد فرص العمل فى المهن والأعمال ذات العائد المادى الأعلى ، ويسبق ذلك كله محو أمية الفرد ، فماذا نبتغى من شخص لا يفرق بين العكاز والألف ؟ ويقودنا هذا الحديث الى حكاية جبريل ، فهو قد نشأ منذ مولده فى أحد أقاليم السودان التى لا تختلف عن بقية اجزآئه من حيث التخلف المعيشى والفكرى ، ففى القرن العشرين الماضى فى السودان كان الناس يعيشون كالسآئمة التى يربونها للانتفاع من البانها ولحومها وجلودها ، وكان العمل يعتمد على الجهد اليدوى والعضلى ، وكان العمل المتيسر بسهولة هو الخدمة فى المنازل من غسيل وكى ملابس الأسرة وتنظيف الحجرات والمشاوير الى السوق لشرآء مستلزمات البيت اليومية ، وينجز الخادم اى عمل يكلف به ، ولا توجد ساعات محددة للعمل بل يمتد العمل من الصباح الباكر الى أول المسآء ، فهو عمل مستمر بلا هوآد، وكل ذلك نظير أجر زهيد أو زيآدة فى الأجر ولا توجد عطلات او فترة للراحة ولا ينجو الواحد منهم من الزجر أو التأنيب والأهانة فى بعض الأحيان ، وفى كل الأحوال لا ينظر اليه كأنسان لديه شعور واحساس وحقوق كبقية الناس ، واظن ان ذلك يرجع الى رواسب باقية من ممارسات الرق القديمة فى معاملة الرقيق . وكان القليل من سكان امدرمان هم الذين يستخدمون خدم المنازل فى منازلهم ، وهؤلآء كانوا من ضباط الجيش أو كبار الموظفين .
كان جبريل ينتمى الى أحد اقاليم السودان الغربية التى يعتمد اهلها على الزراعة المطرية ، ويزرع الواحد منهم مساحة صغيرة يكفى حصادها من الذرة حتى الموسم القادم ، وحتى ذلك الحين فانه يقصد المدينة للعمل فى المنازل ، وكان يطلق على الواحد منهم لقب ( خدام ) . وكان جبريل يعمل لدى احد كبار الضباط فى منزل كبير يضم عددا" كبيرا" من البنين والبنات وكان جبريل ربعة الجسم مفتول العضلات قوى البنية واشبه بالمصارعين ، ولكنه كان مسالما" طيب القلب يحمل وجهه بسمة فى جميع الأحيان ، ويسرع فى تلبية من يناديه من صاحب أو صاحبة المنزل ، ويبدأ عمل جبريل اليومى فى الصباح الباكر قبل ذهاب الضابط الى عمله والأولآد الى مدارسهم ، فيوقد النار فى الفحم فى المنقد الكبير لتعمل ربة المنزل الشاى لزوجها وابنآئها ،ولا يفتر صوت الضابط من المنآدآة عليه بنبرته العسكرية العالية الآمرة : ( جبريل ) فيرد جاريا" : ( نعم جنابك ) ويأمره ( لمع الجزمة ) ويلمعها بسرعة البرق ، ويعود لحمل وادخال الفراش والعناقريب من الحوش الى داخل الحجرات ، وهو لم يفرغ من هذا العمل يأتيه صوت الضابط الخشن الآمر ( جبريل تعال لمع زراير البدلة ) ، ( حاضر جنابك ) وهو منهمك فى هذا العمل يسمع صوت ربة المنزل قآئلا" فى غضب ( جبريل انت لسه ما دخلت الفرش وغسلت عدة الشاى ) ويجيب بسرعة ( جآيى حالا" قربت اخلس زراير جنابه ) ويهرع جبريل الى الحوش والى غسيل عدة الشاى ، وهو غارق فى هذا العمل يترامى الى السمع عند الباب صوت (بورى ) عربة الجيش التى تقل الضابط ، ويرتفع صوت الضابط ( جبريل ) ، ( ويستجيب الرجل بصوت اعلا فيه خشية ، أيوة جنابك ) ويقول الضابط بغضب شديد واستنكار ( قول للعسكرى السواق البليد ده انا قلت ليك الف مرة ما تضرب البورى ) ، ويجرى جبريل ليبلغ الأمر للسواق وهو يشعر هذه المرة بشئ من الاهمية وهو يقول للسائق مضيفا" ( جنابه بقول ليك انت بليد ولا شنو ) ، وبعد ان يغادر (جنابه ) للعمل يواصل جبريل بقية اعماله مع ( الست ) ربة المنزل التى أخذت تعدد له الأشيآء التى سيشتريها من السوق من لحم وخضروات محذرة له ان لا يغشونه ويتأكد من أن اللحم والخضار طازج وان لا يتأخر فانه بلا شك سيلاقى زملآءه الخدامين ، ولكن جبريل لم يحمل هما" لكلامها مثلما يحمل هما"لعودته بعد السوق وحساب الست له حتى على التعريفة والمليم ( وهما الأقل فى العملة ) ، كما انها تبحث منقبة عن أى عيب ومثل ما يقول المثل العامى ( لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب ) ، وبعد اجتياز محاسبة السوق بسلام يبدا جبريل فى نظافة البيت بحدجراته العديدة ومسح البلاط بالمآء علاوة الى كنس الحوش ، ولا يكاد جبريل يلتقط انفاسه حتى يجد اكدآسا" من الملابس المتسخة ليغسلها فى ( الطشت ) فلم تكن توجد غسالآت كهربائية حينذاك ، ويعود جنابه من العمل والأولاد من المدارس ، وتبدأ جولة جديدة فى عمل جبريل ولكنها أخف وطأة ويتنفس جبريل الصعدآء ، ولا يتعدى عمله حمل صينية الطعام الى السفرة للضابط وأولاده ، ولكن يقطع عليه راحته الشحيحة الصوت الآمر المعهود ( جبريل ) والأستجابة الفورية ( جنابك ) ، ويقول الضابط ( جيب ملاح وتبيخ زيادة ) ، ثم يصيح الضابط بعددقيقتين ( جبريل جيب كسرة ) ، ثم ( جبريل ) ـ ( جنابك ) ـ ( ليه فوط السفرة ما نضيفة ) ، ويقوم جنابه والاولاد من السفرة ، ويخيل للواحد ان جنابه والست لا يطيقان رؤية جبريل بدون عمل ، وكما يقول المصريون اذا لم يكن هناك عمل فانه عندما يستجيب جبريل بجنابك، يقول له الضابط ( دق الموية فى الهون ) . وبعد الغدا يحمد جبريل الله لانه ستتاح له ربع ساعة يتناول فيها غدآءه قبل ان يشرع فى غسيل اطباق وصوانى الغدآء المتسخة بعد غدآء كل الأسرة . وقبيل المغرب يسمع جبريل ندآء " ملهوفا" ( جبريل ) ـ ( جنابك ) ـ ( جيب القهوة ولازم تكون حارة جدا" )
وعند المغرب يستأذن جبريل من جنابه للذهاب الى النهر القريب من المنزل ليستحم ويعود .وفى أول المسآء وبعد صلاة العشآءيأوى جبريل الى حجرته الصغيرة بجانب باب المنزل لينام ، وعندما يشاغله صبيان البيت بانه كالدجاج ينوم ينوم مبكرا" ، يرد عليهم بيقين كامل : ( النبى قال ، تنوم بدرى تقوم بدرى ) ، وما ان يسلم بدنه المهدود الحيل مستلقيا"على العنقريب حتى يستغرق فى نوم عميق كالمغشى عليه . ويدور العام وتمر ابام جبريل فى هذا العمل المضنى الى ان تهل تباشير الخريف ، ويستأذن للذهاب الى بلده للزراعة ، ويودع مخدمه والأسرة قائلا": ( مع السلامة وان شآء الله نعود ليكم فى السنة الجأية وانتو طيبين .
هلال زاهر الساداتى
helalzaher@hot mail.com
///////////