الملك فاروق الباز ومسارات كمال عبد اللطيف

 


 

 



abusamira85@gmail.com
كان هاتف الأستاذ معتصم فضل مدير الإذاعة السودانية حين هاتفته في ذاك الصباح الربيعي في خرطوم أواخر العام 2012 مغلقا.
ولأسباب متعلقة بالربط الأثيري المتاح في شبكة هاتفي الجوال، زينت لي النفس الإمارة تكرار محاولات الاتصال. بعد الاتصال الخامس تملكني اليأس، وقبل أن استسلم ليأسي علمت أن الأستاذ معتصم فضل يشارك في مؤتمر علمي في بلاد بعيدة، إذا أراد أهلها أن يكرموك ذبحوا لك كلبا سمينا (دعولا).
ولم يعد أمامي سوى الاتصال بالصديق القديم الأستاذ عبد العظيم عوض مدير الإذاعة بالإنابة، لكن الحديث معه يعود بي إلى حين كنا أطفالا وكان كل شيء حولنا يصيبنا بالدهشة.
ورغم أن الأستاذ عبد العظيم على مشارف الستين عاما، إلا أن عذوبة الحديث معه تكسر حاجز المسلّمات وتعيدك إلى دهشة الطفولة وأسئلتها البريئة. وبمناسبة ستينية عبد العظيم تمنيت لو أن الصديقين القديمين الحميمين الأمير أحمد سعد عمر والدكتور محمد مختار وزير ووزير دولة وزارة مجلس الوزراء يبذلان جهدا لإعفاء الإعلاميين من شرط التقاعد الإجباري في سن الستين، ولا يحتاج الأمر لمبررات كثيرة وسيكون عملا نافعا بإذن الله.
ـــــ المهم سألت عبد العظيم مباشرة، هل ترغب الإذاعة السودانية في إجراء حوار مع البروفيسر فاروق الباز؟
ــــ كانت الدهشة تغلف كلمات عبد العظيم (فاروق الباز عالم الفضاء بتاع ناسا). و(ناسا) هي الاسم المختصر لوكالة الفضاء الأمريكية باللغة الإنجليزية. 
ــــ أجبت بحسم نعم
ـــــ ولأن دهشة عبد العظيم لا تنقطع رد بكلمات سريعة (محمد الشيخ ما تقول حوار عبر الواقع الافتراضي في الزمن الهلامي).
ـــ قلت له بجملة مباشرة البروفسير فاروق الباز بلحمه وشحمه.
عند هذه الإجابة استعاد عبد العظيم وقار شيخوخته، وقال بضحكة قوية هذا شرف عظيم للإذاعة السودانية وفخر لنا وإسهام ممتاز تقدمه أنت لنا، نسأل الله أن يكون في ميزان حسناتك).
لحظة الوصول إلى مدخل رهات الإذاعة كانت الإدارة العليا للإذاعة في حالة استعداد قصوى لاستقبال البروفسير فاروق الباز. كان الأستاذ عبد العظيم بصلعته وطلعته البهية في المقدمة، ثم الأستاذ صلاح الدين التوم بقامته الفارهة، وفي الخلف تلمح الأستاذ طارق البحر بابتسامته الوضئة مثل من يحمل على ظهره كل إبداعات إذاعة البيت السوداني، وبجانبه الأستاذ الطيب قسم السيد الذي أدار الحوار مع الباز يحمل كمية من الأوراق الحاوية لتفاصيل الحوار ولحياة البروفيسر الباز القصة البسيطة في تفاصيلها، والعميقة في مدلولاتها حين تحكي إرادة الإنسان في تحقيق ما يصبو إليه حتى الصعود إلى القمر.  
يخلق البروفسير الباز جوا من ذلك الشعور بالدفء الذي يشعر به الإنسان في أيام الطفولة لدى سماع القصص التي تخلق في النفس ذلك الخدر اللذيذ. ولعل دفء القرية المصرية المغروس في دواخله كان ملهمه الأول حين نجح في تحديد مواقع هبوط للمركبات الفضائية على سطح القمر.
وعندما التقيت البروفيسور الباز في ردهات جامعة المستقبل في الخرطوم، كان هو نفس الشاب الأسمر الذي يحمل على وجهه كل الملامح المصرية الأصيلة، بعد أكثر من أربعين عاما قضاها مهاجرا في أمريكا، تسمع بوضوح اللهجة المصرية الصميمة بين حروف كلماته.
واعترافا بتفوقه وعبقريته أطلقوا عليه في أمريكا لقب (الملك)، لكن مع هذا الاعتراف الأمريكي الكبير، تشعر أن الباز، مازال هو الفلاح البسيط الذي بنى مصر.
ورغم ما تشعر به في روحه من البساطة، إلا أن البروفيسور فاروق الباز مدير مركز أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأمريكية، لا يمل البتة من تذكيرنا بجماليات الانتماء إلى هذه الأمة، ولعل أبلغ ما قيل عن هذا النوع من الانتماء، كان على لسان رائد الفضاء ألفريد وردن في رحلة أبولّلو حينما وصل إلى القمر، (بعد تدريبات الملك، أشعر أنني جئت هنا من قبل).
وحين وقفت مع الملك الباز في حديقة جامعة المستقبل المصممة على شكل جهاز كمبيوتر كان الدجي يحاول أن يخفي ضوء النجيمات البعيدة، كان الباز مثل فلاح مصري جالس على الدكة ويحكي قصة الحياة.
يقول الباز: علاقتي بالسودان قديمة بعضها من الأبحاث والدراسات وبعضها مع طلاب وباحثين وبعضها مع أصدقاء وزملاء عمل، إلا أن علاقتي المباشرة بهذه المدينة الجميلة وهذا الشعب العظيم بدأت مع مطلع العقد الأخير من القرن الماضي حين زارني بمكتبي في جامعة بوسطن فتى أسمر الملامح غض الإهاب وكان يحمل مشروع كلية لدراسات الحاسبات الآلية (كمبيوتر مان).
ويستطرد الباز: عندما أعود بذاكرتي إلى ذلك اللقاء، يبدو واضحا كيف كان زائري الدكتور أبو بكر مصطفى محمد خير صاحب الفكرة ومؤسس كلية كمبيوترمان متأكدا من فكرته وواثقا من نجاح مشروعه، خاصة رغبته في تأسيس كلية رائدة في بلورة وتطبيق الرؤى الحديثة في مجال التعليم العالي عبر الإسهام الفاعل في نشر المعرفة بإدخال العلوم المعاصرة والتقانة المتطورة في مناهجها الدراسية. وهكذا استمرت علاقتي مع الرجل المتميز د. أبو بكر مصطفى وصرت عضوا في مجلس أمناء كلية كمبيوتر مان، ثم عضوا في مجلس أمناء جامعة المستقبل بعد ترفيع الكلية إلى جامعة. أما مساهمتي فهي نشاط علمي زاخر بالمحاضرات والزيارات العلمية والأساتذة الزائرين من زملائي وتلاميذي للجامعة.
أما الأمر الذي أسعد الملك الباز حقا في زيارته الأخيرة للسودانيين، فقد كان لقائه بالأستاذ كمال عبد اللطيف وزير المعادن، فقد تبين له والحديث للباز(أن عبد اللطيف يدرك جيدا مهام وزارته من جهة أنها سلطة ناظمة أو منظمة لقطاع المعادن وفق أحدث المتطلبات والمواصفات العالمية في مجال التعدين في أربعة مسارات).
ويبرر الملك الباز سعادته، بأن وزارة المعادن شرعت فعلا في المسار الأول، في إنشاء مركز لقاعدة بيانات بشأن الثروة المعدنية بالسودان لتحديد كمياتها وأماكن تواجدها.
وزاد سعادة الملك الباز حديث عبد اللطيف عن أن المسار الثاني  كشف عن خطة لتنويع المعادن للخروج من الاعتماد على معدن واحد (الذهب)، خاصة إن هناك معادن ذات قيمة أكبر من الذهب.
وعندما وصلنا للمسار الثالث كان الملك الباز منتشيا بخطة تطوير المعامل الخاصة بتحليل العينات الجلوجية لتوفير تكلفة فحص التحاليل بالخارج.
أما المسار  الرابع فقد كان دافعا للملك الباز لكي يقول إن الأستاذ كمال عبد اللطيف يدرك جيدا مهام وزارته، ذلك أن المسار الرابع يتركز حول التفكير في الحديث عن اقتصاديات المعادن، من جهة إعداد دراسات إنشاء صناعات معدنية تعطي قيمة مضافة للمعادن.
هل سيكتفي البروفيسور الباز بالفرح وحده، أجابني ضاحكا: فرحي هذا يحفزني للسعي لتوفير فرص تدريبية للكوادر الجيولوجية السودانية في المؤسسات البحثية الأمريكية التي أعمل فيها والسعي إلى توقيع اتفاقيات تجعل هذه المسارات الأربعة تمضي وفق أحدث الاكتشافات العلمية.

 

آراء