abdallashiglini@hotmail.com
أنا أمري سلّمتُه للإرادة
حِن يا قَمر وأوفي لَي ميعادا
مَنامي خَاصمني وليَّ عادا
*
الشاعر أبو صلاح
(1)
كثيرون يتعجبون إلى اليوم كيف استطاعت تلك الروح العبقرية لشعراء الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي أن تُظلل تلك الأغنيات وهي تدلك القلوب، وتُغسل الأملاح عن العيون لتصفو ، وتتعرف على الوجه الآخر ،غير اللهث وراء العيش تحت حرارة شمسٍ لم تنزل حِمم غضبها على كل عواصم الدنيا بالقدر الذي تصبه على عاصمة البلاد : تكوي الجراثيم التي لم تعُد تشفينا منها البطاقات ولا المستشفيات ولا الطب .
(2)
قرأت ما صرّح به مساعد رأس الدولة بمقامه الكريم" عبد الرحمن الصادق المهدي " لصحيفة الشرق الأوسط - العدد 12540 – الجمعة 29 مارس 2013 م .ولست بصدد ملاحقة الأخبار التي تأتي من التصريحات المختلفة وربما المتناقضة لكثير من أركان النظام ، ومساعدو الأركان والقيادات الأولى والثانية والوافدة حديثاً . فلستُ صحافياً يتتبع أخبار الذين وضعهم التاريخ في سدة الحكم ، ضد قانون " البقاء للأصلح " وهو من التراث غريب الأطوار الذي نشهد حراكه اليوم . لكننا نرجو أن ننظر من علٍ لقصة بدائل الهرم السلطوي الذي تسلق السلطة وجلس مقعدها الفعلي منذ العام الذي يسمونه " عام المفاصلة " بين اللاعبين الحقيقيين وبين حجارة الشطرنج . حيث قرر العسكريون ومن تبعهم أن تدوم لهم الدولة بذات الأوجه والأبدان والأرواح الشريرة التي أدارتها لأكثر من عقدين من الزمان ، و في الخفاء قصة صراع النفوذ بين الأركان ، وصراعات الداخل والخارج ، والماكينة الأمنية التي تُدير مؤسستها وسط هذا التعقيد ،و فيها العيون الناظرة والأيادي الباطشة ، فلُحمة القابضين على إدارتها العليا لما تزل متماسكة .
(3)
دار صراع حول قصة العلاقة بين حزب الأمة ورئيسه وبين السلطة الحاكمة وتشكلت اللجان منذ العام 2000 م . وكذلك العلاقة بين الحزب الاتحادي الديمقراطي ، وهو الاسم الحركي لطائفة الختمية وعلاقته بالنظام ، لأنه من المعروف أن ليست هنالك رؤية اتحاد مع مصر في برنامج الحزب ولا ديمقراطية داخل مؤسساته .
(4)
لقد انتزعت السلطة الحاكمة نجل "إمام الأنصار" ونجل "راعي الختمية "، ليصبحا مساعدين لرأس الدولة . وفي ظل استنكار وشجب وقبول البعض ، الأمر الذي يفسر المشاركة الغريبة في السلطة . هناك ( عينٌ على القصر، وعين مع الاسم الحركي " المعارضة ") . أهو سلام جديد من الداخل ، أم هو شراكة بين الحلفاء التقليديين ؟ و نعجب أشد العجب من عدم ذوبانهم جميعاً في حزب حربائي كبير واحد يضم كافة الأحزاب الإسلامية التي ترغب السلطة والحكم وهدم الدولة واستبدالها بالخلافة ، وتقسيم الكعكة التي أصبحت من بعد انفصال الجنوب حجراً من الجير لا يغني من جوع ! .
(5)
يبدو أن التيارات التي اصطُلِح على تسميتها صاحبة الإسلام السياسي والساعية للسلطة وحكم الشرع ، تراجعت عن صورتها الغائمة بأنها تُعارِض نظام الحُكم وهي التي تتفق جميعاً بأن ليست هنالك معارضة ضد "ثوابت الشريعة " ولا في تطبيقها القسري ساري المفعول في السودان !. وأصدق تجربة عملية هي إبقاء حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي خلال الديمقراطية السودانية الثالثة على "شريعة سبتمبر " التي وصفها الإمام الصادق حينذاك بأنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به! .
والملخص الكامل للقضية ، هي أن جميع الأحزاب التي ترى الدين برنامجاً سياسياً للوصول إلى السلطة ، تسهم مُجتمعة أو متفرقة في تضليل أصحاب النوايا الوطنية الصادقة ، وتضليل العامّة للحفاظ على مصالح أشخاص في قمم الأهرام الطائفية. والمال السياسي هو القاسم المشترك للعبث بحياة الفقراء بكاريزما حضور أبناء مؤسسي الطوائف ، بدون برامج سياسية من أجل الوطن أو أهله ، بهدف الوصول لسُدة الحكم.
(6)
إذن الصراع الحقيقي هو بين الذين يلبسون العقيدة جُبة ، ليصلوا عبرها إلى السلطة وبين الوطنيين الديمقراطيين الذين يؤمنون بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي والعدالة ، ويريدون ديمقراطية عصرية حقيقية ،تكون القوانين فيها قاسماً مشتركاً يدير الوطن بسلاسة بين الشركاء المختلفين ، و أن يسع الوطن الجميع .
فليس هنالك في رؤى الطائفية معارضة للنظام القائم وفق المصطلح ، فهنالك صراع المصالح ، وليست هنالك قضية فكرية اختلفوا أو سيختلفون حولها ، فالذين يشاركون الإنقاذ لم يكونوا قتلة في يوم من الأيام ، ولكن بقاءهم مشاركة لنظام الحكم لن يعفيهم من المحاسبة .
(7)
من الخير للجميع التمييز بين أصحاب الدِّين الذي يُتَخَذ وسيلة إلى السلطة بكل أشكالهم ، وبين غيرهم من الوطنيين الديمقراطيين ، فليذهب جميع الذين بقوا إلى أرذل العمر ليحققوا أشواقهم للانتماء للحظيرة التي استبقت الجميع إلى أمرٍ واقع اسمه " قوانين الشريعة " والقطع والصلب والقطع من خلاف والجلد والتضييق على الحريات ،من أجل بقاء سلطة أُولي الأمر ، وكم هائل من خديعة العامّة وإغراءهم بأشجان أحلام الخلافة الراشدة ، مغموسة في طعم طائفي و وفق الفهم السلفي للتراث دون إعمال للفكر .و نشهد تحالف سلسلة من البرامج التي تحمل في كَبِدها جرثومة "القاعدة" القاتلة للطبيعة الإنسانية ، عصية على الذوبان ، من " تورا بورا" إلى " الصومال" و " مالي " و " سوريا " و " مصر " و "تونس " و " ليبيا " و " إيران " وهنالك دول في الطريق الشائك في " المغرب " و " الكويت " و" الأردن " و " غزة " !!. ليس الجميع بمبرئين من الإخاء بل التضامُن مع التطرف والإرهاب العالمي ، وقد تذوق الجميع في بلادنا الطعم المُرّ ولم يزل .
(8)
نعيد النظر من جديد إلى عودة " عبد الرحمن الصادق المهدي " إلى القوات المسلحة من بعد زمان من التقاعد ، واستقالته من حزب الأمة " الإسلامي " ، مع بقاء انتمائه العقدي الذي يسميه هو " العقيدة الأنصارية " . ثم تقلده وظيفة مساعد رأس الدولة وهو يتحدث عن ثلاثة من نواب رأس السلطة ويصفهم بأنهم متناغمين في الصهيل ،متحابين منسجمين ، وليس بينهم صراع سلطة أو حكم !. وفق ما ورد بصحيفة " الشرق الأوسط " المذكورة أعلاه ، ونقطف النص :
( قال مساعد الرئيس السوداني عبد الرحمن المهدي، إنه لا توجد صراعات داخل النظام حول من يخلف الرئيس عمر البشير الذي أعلن عدم ترشحه لولاية ثالثة في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولم ينف المهدي، وهو نجل زعيم المعارضة الصادق المهدي، أو يؤكد، أحاديث عن ترشيحه بديلا للرئيس البشير بعد تنحيه، وقال إن للرئيس ثلاثة نواب يعملون بانسجام ولا توجد بينهم صراعات في الدولة وكراسي الحكم، وإن ما يثار من مخاوف حول انهيار الدولة في حال إصرار الرئيس البشير على عدم الترشّح مجرد هواجس لا يسندها منطق أو وقائع.)
يبدو أن هنالك الكثير الذي تُخفيه علاقة الرأس مع المساعد ، بعيداً عن الأضواء .
(9)
نترك التصريح ، ونذهب لآلية اختيار المساعدين من أساسها وكيف تمت ، وكيف يُدير الوافدون الجُدد وظائفهم السيادية في التشريف : مكتب ومنزل وحرس وحضور مع " الجماعة " وافتعال كلمة هنا أو هناك ، ولكن في الخفاء رؤساء مكتب ومعاونون لا يُعْرف عنهم كثير شيء . ومن طرف آخر يدير القابضون على السلطة قضاياهم برفق وسلاسة ونار هادئة ، غائبة خصوماتهم عن قاعات التشريف والإعلام ، ولكنها لا تُخفى عن العامّة الذين تجدهم في الأسواق تستطعم عيونهم ما لا يقدرون على ثمنه ، يقضون وقتهم مُثقلي الهموم .
(10)
صار لتنظيم الجماعة " فرع السودان " الآن جهاز عصبي لا مركزي كالنمل ، تُفصِل إناثه رءوس ذكوره في حين يمارس الجهاز العصبي الآخر طقس الجنس !.من السهل تسريب قصة البديل لرأس الدولة من خارج " الجماعة " ، وقد تدربت هيَّ من قبل على الاختيار من بينها ، ولم تتمكن الرقابة اللصيقة ، من الإبقاء على القادة البُدلاء ، إلا حين عرفنا مآل الصبر الطويل .
لقد عَرِفت الجماعة كيف تستقطب ثم تُروض عضويتها بالضبط الأمني وبالمال ، وصنعت لهم البدائل المناسبة وتمّ إخراجهم من دفء الأسرة والعشيرة إلى حوزة الجماعة ومِنعتها ، ولم تستعص عليهم إلا القبيلة التي أورثتهم أزمة دارفور وتداعياتها الإنسانية .فقد جرّب " ابن عبد الله الفاضل المهدي " من قبل العيش في عُش الدبابير وخرج منه أذلَّ مما دخله . فهل يمكن للجماعة تحمُّل تجربة جديدة أو الصّبر على نزواتها غير المضمونة ؟، حتى لو حاك الأمن حبائله من الشِبَاك الناعمة لصناعة مفاجأة دون التوقعات ،للخروج من أزمات بقاء القادة الطاعنين في السن و الذين تنتظرهم المنيّة وقد صبرت عليهم ، وهم يرغبون وفق أحلامهم أن يُدفَنُوا أبطالاً قبل حلول المحاسبة التاريخية . فهم موقنون أن السودانيين على جانب من الخلق ،و لن يفعلوا فيهم فِعلتهم المُنكرة في أهل السودان خلال فترة حكمهم أو فِعلة السردار "كتشنر "، حين نبش قبر " المهدي"وأحرق رفاته من بعد موقعة كرري واستباح أم درمان ثلاثة ليالٍ. لكننا لا نعلم السقوف التي يمكن أن يتسلقها الحقد الذي تربى مع السنين ، فقد يكسر كل التوقعات .
عبد الله الشقليني
1/4/2013