ما بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية الديمقراطية .. بقلم بروفيسور/ محمد زين العابدين عثمان
بقلم بروفيسور/ محمد زين العابدين عثمان – جامعة الزعيم الأزهرى
أريد لهذا المقال أن يكون مقارنة بين ما يسمى بالدولة الأسلامية وشعار الأسلام هو الحل لأدارة الحكم والدولة ولذلك لم نقل الدولة الدينية فى العموم حتى نحصر المقارنة بينها وبين الدولة المدنية الديمقراطية التى وصلت لها الأنسانية بعد تجارب كثيرة فى الحكم. ونبدأ بالتساؤل هل للأسلام دولة من أصله؟ أم أننا نتحدث عن دولة المسلمين؟ وهل جاء الأسلام ليقيم دولة ونظام حكم؟ وهنالك فرق شاسع وكبيربين دولة الأسلام ودولة المسلمين، أذ فى الأولى هو أدارة شئون المجتمعات بأوامر ألهية أو فورمونات بأسم الله أو أسلامية لا مجال فيها لخيار الأنسان ويقوم عليها أناس يدعون أنهم ظل الله فى أرضه وهم الموكلين من قبله بتطبيق تلك الأوامر والفورمونات لا لشئ الا لأنهم يرفعون شعلر الأسلام هو الحل لقضية الحكم وأدارة شئون العباد الذين خلقهم الله ليعبدوه " وما خلقت الأنس والجن الا ليعبدون " لا أكثر ولا أقل. أما الدولة الثانية، دولة المسلمين، فهى أن تدير مجتمعات المسلمين شئونها بأرادتها الحرة الكاملة بما يتوافق ومثلهم وتقاليدهم سواءاً كانت دينية أو غيرها. وينفذ ويرعى تنفيذ ما أتفقوا عليه من يختارونه هم بكامل أرادتهم كما جاء فى دينهم الأسلام " وأمرهم شورى بينهم" وليس فى هذا الأمر أهل حل وعقد وغيره وأنما أبتدع أهل الحل والعقد لتستحوذ فئة قليلة على أرادة المجموع وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً الذى أعطى الحرية حتى فى الأيمان به " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".
يمكننا أن نقول بحسب التعريف السابق أنه لم تكن للأسلام دولة على الأطلاق حتى فى عهد الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وخلفائه الراشدين من بعده، بل كانت هنالك دولة للمسلمين على رأسها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفائه الراشدين ولم تدار بأوامر ربانية فى كيفية أدارة الحكم أو تصريف شئون الخلق ، بل كانت بالرأى البحت وبالتشاور ولم يكن هنالك معصومية لأحد فى رأيه على أن رأيه هو رأى الله أو من الله ولا يمكن التحاور حوله. بل كل أنبياء الله الذين بعثهم لهداية البشر لم تكن لهم دولة دينية غير سيدنا داؤو وسليمان اللذان أتاهما الله الملك وارشدهم لتصريفه. فكل الأنبياء قد كانوا دعاة ولم يكونوا حكاماً بما فيه رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وهذا يتبدى لنا فى أن الرسول سيدنا محمد قد حدد الغرض من بعثته ورسالته الأسلامية فى قوله " أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وهى بعثة تكميل لأخلاق حميدة كانت عند العرب فى الجاهلية وسعياً لأزالة الأخلاق القبيحة ومن ضمنها عدم الشراك بالله وعبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد كما قال فى محكم تنزيله " وما خلقت الأنس والجن ألا ليعبدون" . وبذلك تم توضيح رسالة الأسلام من رب العباد ورسوله الكريم فى شئين هما عبادة الله ومكارم الأخلاق لا أكثر ولا أقل. ومن هذا المنطوق يتضح ويفهم أن أدارة شئون المجتمعات فى الحكم بما يتوافق ومكارم الأخلاق أجتهاداً واستنباطاً من المسيرة البشرية فيما هو مكروه وما هو محبوب. وعندما قال الله سبحانه وتعالى " وما خلقت الأنس والجن ألا ليعبدون " وليس ألا ليحكموا أو يديروا شئون الناس بأسمه أذ كل أنسان آتى يوم القيامة للرحمن فرداً فالحساب فردى وليس جماعى ليسأل التنظيم أو الحزب وقال "أما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً واما من أوتى كتابه بشماله فسوف يحاسب حساباً عسيراً" . وليس هنالك حساب جماعات أو حكومات بصفاتهم الأعتبارية ولكن بما أدوه من عمل سواءاً أكان خاصاً أو عاماً فأن احسنوا احسنوا لأنفسهم وأن اساءوا فعليها ولا تذر واذرة وذر أخرى.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدير شئون المسلمين بصفته البشرية مسترشداً بمبادئ ما بعث به ومن أجله وليس بصفته نبياً معصوماً ولذلك خضع كل قراراته فى أدارة شئون المسلمين من حوله الى التشاور وأعمال الرأى وفى هذا عندما حاول أن يأمر بما يراه صحيحاً سأله أصحابه من الصحابة أن كان هذا الرأى وحياً من الله أم هو أعمال رأيه هو ، وعندما قال أن هذا رأيه هو اشاروا عليه بخطأ رأيه وقالوا له الرأى الصواب وكان ذلك فى موقعة بدر لتحديد منزلة جيش المسلمين. أراد الرسول محمد أن ينزل الجيش خلف مياه بدر واشار عليه الصحابة اصحاب المعرفة بفنون الحرب أن ينزل بعد مياه بدر حتى يحرم الكفار من ماء الشرب وكان هذا الرأى هو مفتاح النصر. وكذلك لأنه بدوى لا يعرف فنون الحرب ألا ما كان معروفاً فى بيئته أشار عليه الصحابى الجليل سلمان الفارسى أن يحفر الخندق لحماية المدينة من غزو الكفار وكان هذا فناً معروفاً للفرس ولم يكن معروفاً للعرب البدو فى الصحراء وقد كان الفرس أهل حضارة فنزل الرسول عند رأى سلمان وكان رأى الرسول من قبل غير ذلك. وأيضاً عندما طلب من أهل المدينة ألا يؤبروا النخيل ( أى ألا يلقحونه) وهو الذى عاش فى مكة التى كانت واد غير ذى زرع وظن أهل المدينة أن هذا راياً ربانياً أوحى به للرسول فتركوا تلقيح النخل ذلك العام وهم يمنون انفسهم بمحصول وفير لأن الرسول قد قال ذلك بأمر ربه. ولكن الذى حدث أن النخيل لم ينتج ذلك العام لعدم تلقيحه فجاءوا للرسول وقالوا له لقد منعتنا أن نؤبر نخلنا كما أعتدنا أن نفعل فلم ننتج شيئاً ونحن نعرف أن النخل أذا لم يؤبر لا ينتج ، فقال لهم الرحمة المسداة "هذه شئون دنياكم وأنتم أدرى بها ".
هذا هو الأسلام الذى لم يجعل أو يحدد سلطاناً بعينه ليكون مديراً أو رئيساً على شئون المسلمين دون خيارهم وأختيارهم ولم يجعل عليهم وصياً حتى الرسول المبعوث من عند ربه وترك الأمر لمجموع المسلمين الذين هم أدرى بشئون دنياهم ليحددوا تنظيم حياتهم بمحض ارادتهم ملتزمين بمكارم الأخلاق التى جاءت رسالة الأسلام متممة لها. وبهذا المفهوم فليس للأسلام دولة محددة المعالم ولو كانت الدولة بهذه الأهمية لما أهمل القرآن تفاصيلها ولكان ذكرها فى سورة من سوره المائة واربعة عشر سورة وايضاً لما تغاضى الرسول عليه السلام عن تفاصيلها ولحدد دستورها وابان هياكلها وتنظيمها وطريقة تكوينها وطريقة حكمها ولذلك تركها لرأى مجموع المسلمين لأن الحكم يكون متجدداً حسب العصور والأمكنة وتختلف فيه ظروف البلدان وهو متحرك مع تطور البشرية ولذلك تركها للأجتهاد ورأى الأمة تنظمه بالطريقة التى تراها وتحفظ لها تماسكها مربوطة بعقد مكارم الأخلاق. أما آيات الحدود فهى عقوبات أكثر منها محددات لطريقة الحكم وكيفيته ويمكن أن تكون هى أو أشد منها فى أى مجتمع غير مسلم لأنها معنى بها من شذ فى سلوكه عن قيم ومثل المجتمع وأثر على حرية الآخرين وتسبب بالأذى للآخرين لم يراع الاً ولا ذمة. وهى فى الأسلام صعبة الأثبات فى حالة الزنا ولها محددات فى حالة السرقة والقذف وهذا ما جعلها لم تطبق الا فى ستة حالات فى عهد الرسول وخلفائه الراشدين وكثير منها بأعتراف مرتكبيها والأصرار على أقامة الحد لتنقية أنفسهم من المعصية لمقابلة الجليل الرحيم وهم مطهرين وليلاقوا الله بقلب سليم.
يقول لنا التاريخ الأسلامى منذ بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصراع بين المسلمين قد كان صراعاً سلطوياً ليس له علاقة بالدين على الأطلاق أو بحكم الأسلام وأذا رفع شعار حكم الأسلام يكون الغرض منه التوارى ولكن الأصل فيه التمكن من السلطة لمصلحة قائد الصراع حولها الخاصة. وما أدل على ذلك الا مشهد الرسول قد مات وهو مسجى فى فراشه لم يصلى عليه ولم يدفن بعد وهنالك صراع من أجل السلطة يدور فى سقيفة بنى ساعدة من يحكم، المهاجرون أم الأنصار؟. وعندما تم الأمر لسيدنا أبى بكر الصديق لم يتم بالشورى الكاملة وأنما تم بمن كانوا فى السقيفة وهم لا يمثلون غالبية أهل المدينة كما أنهم لا يمثلون أهل الحل والعقد لأن صحابة الرسول كلهم فى ذلك الوقت أهل حل وعقد وحتى فى ذلك لم يبايع سعد بن عبادة وهو زعيم الخزرج والذى بايع فى بيعة العقبة ولم يبايع على بن أبى طالب أبن عم رسول الله. وسلم سيدنا أبوبكر الصديق الحكم من بعده لسيدنا عمر بن الخطاب تعييناً دونما أن يكون خيار المسلمين بالشورى مكافأة له على موقفه فى يوم السقيفة. وسيدنا عمر عند دنو أجله ايضاً حصر أمير المؤمنين الذى يأتى من بعده فى ستة من الصحابة ولم يتركها لخيار المسلمين وشورتهم وبعدها كانت الفتنة الكبرى وأغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان ليبدأ الصراع والقتال حول السلطة بين الصحابيين الجليلين على بن ابى طالب ومعاوية بن اب ىسفيان والذى سالت فيه دماء كثيرة وقتل فى هذا الصراع صحابة أجلاء من الطرفين. ومن بعدها لم يكن الحكم الا صراعاً دموياً حاداً ونهايته دائماً سلطان الشوكة والغلبة والحكم العضود والتوريث من بعد معاوية لأبنه يزيد. وحدث أيضاً كل ذلك لقيام الدولة العباسية فى الصراع من أجل السلطة والحكم بين الأمويين والعباسيين وبعده كل امارات وخلافات المسلمين كانت توريثاً أو حكم الغلبة والشوكة. أذا كان هذا هو حال الصحابة الذين عاشروا النبى وأتاهم الوحى من ربهم غضاً يفعلون كل ذلك من أجل الصراع الدنيوى بأسم الدين فكيف تريدوننا أن نركن الى مسلمى آخر الزمان المتدثرين بدثار الدين من أجل الوصول للسلطة والحكم أستغلالاً لمشاعر وعواطف المسلمين نحو دينهم.
وأذا أفترضنا أن كل الحكومات الى قامت فى التاريخ الأسلامى هى حكومات أسلامية فبأى حكومة يريدنا الأسلاميون أن نقتدى ونأخذها نبراساً نسير على هديها. أحكومات الخلفاء الراشدين التى كانت ولم تتعدى حكم شيخ القبيلة ناهيك عن الدولة الحديثة وتعقيداتها وهى فى أواخرها كانت حروباً كانت بين المسلمين بعضهم البعض صراعاً دموياً من أجل السلطة والحكم وبقيادة كبار الصحابة الذين عاصروا النبى ودعوته والوحى يتنزل عليهم وهم حاضرون وشهود وسالت الدماء بينهم فى موقعة الجمل وصفين. وما حاربت زوج الرسول عائشة مع معاوية بن أبى سفيان ضد على بن أبى طالب الا نكاية فيه ومرارة فى حلقها لأن سيدنا على أشار على الرسول بطلاق عائشة عند حادثة حديث الفك ولم يكن خروجها لمعيار دينى أو اسلامى ولكن أستجابة لطبيعة النفس البشرية فى حب الأنتقام. أم تريدوننا ان نقتدى بالدولة الأموية الديكتاتورية ذات حكم الغلبو والشوكة والملك العضود؟ أم نتقتدى بالدولة العباسية التى تشبه التى قبلها وما نكبة البرامكة ببعيدة عن الأذهان؟ أم تريدوننا أن نتقتدى بدولة الفاطميين أو السلاجقة أو المماليك أو الأندلسية أو العثمانية التركية؟ مالكم كيف تحكمون؟ وهى كلها تجارب أبعد ما تكون عن الأسلام وأخلاقه أو مكارم الأخلاق التى بعث النبى محمد من أجلها. وهى كلها أسوأ أمثلة لأى حكم مر على مدى التاريخ الأنسانى بل كانت أبشع من حكم حمورابى مضرب المثل. ألم يكن الحجاج بن يوسف بأسوأ من حمورابى؟ ألم يكن زياد بن أبيه بأسوأ من حمورابى؟ وهؤلاء كلهم وكثير من الحكام والقادة الذين حكموا باسم الأسلام كانوا أكثر صلفاً وأرهاباً من حمورابى وتم كل ذلك بتبرير أسلامى وحكم باسم الأسلام وظلال الله فى الأرض والأسلام برئ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
نسال القارئ أن يقارن بين كل الذى ذكرناه وبين الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى يتساوى فيها كل الناس فى الحقوق والواجبات وهذا ما بعث به الرسول (ص) رحمة للعالمين وليس للمسلمين فقط والعالمين ايضاً تعنى كل مخلوقات الله ولذلك مكارم الأخلاق التى جاء بها من عند رب العالمين هى الأسلم لتدير شئون العالم مسلمين وغيرهم. وأعلى تلك الأخلاق التى جاء بها الرسول ومكارمها هى الشورى وهى كلمة عامة تعنى فيما تعنى الديمقراطية التى توصلت لها الأنسانية بعد كثير من التجريب وهى الآلية المنظمة للشورى التى تحدث عنها نبى الأمة والتى دلت التجارب أنها انسب وسائل الحكم التى تتوافق وفطرة الخلق التى خلق الله عليها الأنسان. والدولة المدنية الديمقراطية لا تعنى العداء للأديان بل هى التى تعمل على تنميتها وتغلغلها فى وجدان الناس لأنها جزء من مكارم الأخلاق الأنسانية. والدولة المدنية الديمقراطية لا تسمح بأستغلال أى ديانة من الديانات فى شئون الحكم وفى السياسة بأسم أى دين من الأديان خاصة أن التجارب القبيحة التى حدثت فى العالم من محاكم التفتيش وتسلط الكنيسة لتصبح ظل الله فى الأرض بنفس المستوى الذى يحاول به الأسلاميون المتنطعين بالدين الأسلامى ليكونوا ظل الله فى أرضه بشعارات الحل الأسلامى والحاكمية لله وهم لا يريدون بذلك الا الوصول للحكم والجاه والمال والتسلط على رقاب الناس كما هو حادث الآن فى حكم الأنقاذ بأسم الأسلام وهى أقبح تجربة حكم تمر على السودان فيها أهينت كرامة كل سودانى وكل مسلم وانتفت فيها العدالة وضرب الفساد فيها أطنابه وتغلغل فى الوجدان حنى افسد الأنسان السوانى المشهود له بالأيثار ليصبح أنانياً ويريد الثراء حتى على أرواح الشهداء والأطفال والنساء الأبرياء.
ليس هنالك تناقض بأى حال من الأحوال بين الدولة المدنية الديمقراطية والأسلام أو أى ديانة أخرى. فهى سبيل وخارطة طريق للحكم وتنظيم الناس لشئون أدارة حياتهم وهى بذلك لا تتعارض على الأطلاق مع ما جاء به الأسلام من مبادئ وقيم ومن مكارم الأخلاق وهى ليست فيها قدسية دينية لأى فرد من الأفراد ليتكلم أو يحتكر الكلام بأسم الأسلام أو بأسم الله أو باسم الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لأنه لم يعط هذا الحق لأى فرد من أفراد الأمة. ويبقى التوافق على شكل هذه الدولة المدنية الديمقراطية هو الحل وهو شأن دنيوى بحت تكون فيه كل الأديان على مسافة متساوية من الدولة. والدين الذى تكمن فيه قوة الأقناع ومكونات البقاء ويستجيب لفطرة الأنسان هو الذى سيسود بالقوة الكامنة فيه دونما تدخل أى سلطة بالقوة لسيادته. ونختم ونقول أن أهل الأنقاذ يستغلون العاطفة الدينية الأسلامية عند الشعب السودانى اضافة للجهل والجهل الدينى ويغيبون عقولهم بهذه العاطفة ويسوقونهم الى ما يزيدهم شقاءًا فى دنياهم بتمنيات أخروية غيبية هم لا يملكون وهبها لهم لأن هذه ما أختص بها الله لنفسه ويهبها لمن يشاء دون تحكم أو واسطة من أحد وقد قال الرسول عليه افضل الصلاة والسلام " والله لن تدخلوا الجنة بأعمالكم ولكن برحمة الله".
Mohamed Osman [z_osman@yahoo.com]