ديمقراطية الشارع وديمقراطية الصناديق
Sidgi Kaballo [skaballo@blueyonder.co.uk]
صدقي كبلو
ديمقراطية الشارع وديمقراطية الصناديق:
الفرق بين الهجمنة والهيمنة
و المشروعية والشرعية
تقديم
كثر الحديث حول ما حدث في مصر في الثلاثين من يونيو والأيام التي تلته حتى تدخل الجيش بعزل الدكتور محمد مرسي، وأنشغل بعض الكتاب بتصنيف ما حدث هل هو إنقلاب أم ثورة، معيدين للأذهان تلك المناقشات التي دارت عقب إنقلاب 25 مايو 1969 في السودان، وكثير من هذه المناقشات وتلك ركز على أداة التغيير ولم ينظر للتغيير كعملية متكاملة: هل هي عملية أتخذت التكتيك الإنقلابي بعيدا عن النشاط الجماهير والعمل وسطهم أو مبادرتهم، أم أنها عملية جماهيرية شكل اشتراك الجيش أحد قواتهاا كأداة لاسقاط سلطة ووضع سلطة بديلة (توافق رغبة العمل الجماهيري ) مكانها. الفرق بين العمل الانقلابي والعمل الثوري: أن الأول تآمري يتم بعيدا عن الجماهير ولا يعتمد المواجهة بل يعتمد المفاجأة والاستغفال للإستيلاء على مفاصل السلطة. بينما العمل الثوري هو عمل يعتمد على الجماهير وتنظيمها وحراكها. وما من ثورة نجحت في التاريخ بدون أداة لتغيير السلطة قادرة على مواجهة قدرة تلك السلطة على العنف، وقد تكون تلك الأداة مجموعة من الجماهير والمدنيين المسلحين من خارج معسكر السلطة أو من القوات النظامية من داخل السلطة التي تتمرد عليها وتنحاز للجماهير. وتعتمد على تركيب وقدرات القوى التي تزيح السلطة القائمة درجة نجاح الثورة مهما كان زخمها وشعاراتها والجماهير المشاركة, حركة الجماهير قد تستطيع كشف فقد السلطة القائمة لمشروعيتها، بما في ذلك مشروعية احتكارها لأدوات العنف، لكنها غير قادرة لوحدها ودون تسلحها أو إنحياز جهة مسلحة لها من كسر العنف وإنتزاعه من يد السلطة القائمة. وهناك المواضع التي لا تقوم فيها القوات النظامية بانتزاع السلطة ولكنها تتمرد في أن تصبح أداة عنف ضد الجماهير مما يمهد لمفاوضات ومساومات تنقل السلطة سلميا، إما لسلطة مشتركة أو سلطة جديدة تماما مع ضمانات لأفراد السلطة القديمة.
ولعل تجربتنا في السودان، دون الخوض في تجارب أخرى مثل تجربة الثورة البلشفية ودور الجنود البحريين والجنود والعمال المسلجين فيها لاسقاط الحكومة المؤقتة، توضح أنه في ثورة أكتوبر لم يكتما تمرد الضباط والجنود بحيث يستولون على السلطة، بل إكتفوا بالامتناع عن إطلاق الرصاص على المواطنين( الكل يذكر عندما تقدم القاضي عبدالمجيد إمام وأمر قوات الشرطة بعدم التعرض لتجمع وموكب القضائية، ودور الرائد فاروق، النقيب حينها، عندما تقدم وحيا قائده، معلنا أنه وضباطه يرفضون إطلاق الرصاص على المواطنين، وحصار الضباط للقصر حتى حل المجلس العسكري وبدأت المفاوضات بين الجيش والجبهة القومية التي ضمت جبهة الهيئات وجبهة الأحزاب). وكانت نتيجة المفاوضات أن بقي إبراهيم عبود رئيسا للدولة حتى تم إستبادله بمجلس سيادة وتكونت حكومة إنتقالية، سرعان ما سقط أزاء ضغط بعض القوى المشاركة في الثورة وتكوين حكومة أكثر محافظة، مهدت للإنتخابات.
أما التجربة الثانية فهي تجربة إنتفاضة مارسٍ إبريل التي نصح فيها الأمريكان القيادة العامة للإستيلاء على السلطة، خوفا من تجرك بدأ لضباط آخرين قد يجعل التغيير أكثر راديكالية، فتدخل القيادة العامة تحت شعار الإنحياز للجماهير، لم يكن تدخل فصيل إنحاز للثورة، بل فصيل أراد تحجيمها. ولكننا رغم ذلك ظللنا نتحدث ‘ن إنتفاضة مارس إبريل وغنحياز الجيش للشعب.
ولو أخذن تجارب الربيع العربي التي نجحت، خلافا لليبيا التي تحتاج تحليلا مختلفا لتدخل الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وحلف الأطلنطي فيها ولتحولها لعمل مسلح من أسبوعها الأول، فنجد أن الثورة في تونس قد حسمت بتخل القوات المسلحة دون أن تستولى القوات المسلحة على السلطة، وأن الثورة في مصر في 25 يناير قد حسمت بتدخل القوات المسلحة وقيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإجراءات الانتقال الديمقراطي وإجراء الإنتخابات، والثورة في اليمن قد أدت إلى إنشقاق الجيش وإنحياز جزء منه للشعب مما أفقد السلطة احتكارها للعنف المنظم وسمح بالمفاوضات التي أدت إلى الوضع الإنتقالي الحالي.
إن تجربة السودان وتجارب الدول الثلاثة الأخرى توضح أن تدخل القوات المسلحة لمصلحة الشعوب أو إنقسامها، هو سمة عامة ناتجة عن طبيعة تكوين الجيوش وتأثرها بالصراع الإجتماعي وهذا ما يدفعنا لنظر فيما حدث في 30 يونيو الأيام التي تلتها في مصر، و نرى أن مسألة ما حدث في مصر يجب أن ينظر لها بشكل أعمق وفي محتواها التاريخي الملموس، وليس بالتجريد، فالتجريد وحده لا يوصل معرفة أفضل للواقع.
لماذا فقد مرسي المشروعية؟
لم يفز محمد مرسي في الدورة الأولى للإنتخابات وأحتاج للفوز في الدورة الثانية للإتفاق مع الأحزاب المعارضة والمتخوفة من انتخاب أحمد شفيق فتعهد لهم بتشكيل حكومة قومية وبتعيين نواب للرئيس وبإعادة النظر في لجنة الدستور وتشكيلها بشكل قومي وبأن يحدث إتفاق قومي على الدستور قبل الإستفتاء، ورغم ذلك فإن محمد مرسي أحرز 51% من الأصوات بزيادة 7 مليون صوت عما أحرزه في الجولة الأولى، هي تقريبا أصوات من صوتوا لتعهداته مع المعارضة وليس من صوتوا له أو للإخوان أو حزب العدالة. وهكذا يبدو أن مرسي قد نال الشرعية وفقا للترتيبات الدستورية التي أنزلها المجلس العسكري لاستفتاء وقاطعتها المغارضة حينها، ولكن مشروعيته كانت مشروطة على تنفيذه لتعهداته، وهي مشروعية ناقصة نسبة لتدني عدد المشتركين في الانتخابات ففي الجولة الأولى كان عدد المشاركين في الانتخابات 46.4% وفي الجولة الثانية 51.8% ونال محمد مرسي في الجولة الثانية 51.7% أي حوالي 26.8% من عدد الناخبين وهو ما يزيد قليلا عن ربع الناخبين وما يزيد قليلا عن سدس سكان مصر.
إن نتائج انتخابات الرئاسة في جولتها الثانية وضعت على محمد مرسي واجبا كبيرا لبناء مشروعيته ومشروعية النظام الديمقراطي كله في مصر، فلا تكتفي شرعية انتخابه فقط لاتخاذ القرارات التي تريد، وكانت الخطوة الأولى نحو ذلك هو الحفاظ على قبول من انتخبوه بالإيفاء بما وعد به معارضيه وجماهير الشعب المصري لكسب أصواتهم في الجولة الثانية وذلك عبر تكوينه حكومة قومية وتكوين مجلس رئاسة مع نواب له يمثلون القوى الأخرى وإعادة تكوين لجنة الدستور والسعي لاتفاق قومي حول مشروع الدستور قبل تقديمه للإستفتاء، ولكنه لم يفعل وسعى لأخونة الدولة المصرية وبتجاهل القوى الأخرى التي صوتت له.
وكان عليه لتوسيع قاعدته الجماهيرية لتثبيت مشروعيته ومشروعية النظام الديمقراطي أن ينفذ ما سماه برنامج المائة يوم، وأن يحدث تغييرات في حياة الناس أو أن يشعر الناس بأنه بدأ فعل ذلك ولكنه لم يفعل وأهتم أكثر بمد غزة وسلطة حماس بالمواد التموينية والمنتجات النفطية، ولم يمارس أي سياسة ذات جدوى لاعادة أهم مصادر الاقتصاد المصري وهو السياحة التي كانت تساهم قبل ثورة يناير ب 12% من الناتج المحلي الاجمالي ويعمل بها بشكل مباشر أكثر من 2 مليون مصري وتؤثر على عمل 70 صناعة مصرية أهمها صناعة المشروبات من عصاير ومياه ومياه معدنية ومشروبات كحولية وعلى دخول منتجين صغار في مجال الأناتيك وعلى مقدمي خدمات مثل اصحاب المركبات وعربات الأجرة والبصات السياحية، ...الخ. بل ان طريقة تعامله مع المطالب الفئوية زادت من عزلته حتى كادت منطقة مثل المحلة الكبرى تكاد تكون محررة من الأخوان.
لم يكن مرسي ليستطيع الاعتماد على شرعيته فقط، دون أن يتحول إلى ديكتاتور مدني، وهذا ما كان يخطط لفعله منذ اصداره الأمر الدستوري سئ السمعة، ومحاولاته التدخل في القضاء والنيابة وتخطيطه لالجام الصحافة والاعلام بعد استيلائه الكامل على الاعلام والصحافة القومية. ولكن اعتماد مرسي على شرعيته كان يزيد تآكل مشروعيته. فماذا نقصد بالشرعية والمشروعية؟
بين الشرعية والمشروعية والهيمنة والهجمنة
والكلمة الإنجليزية للشرعية هي legality أم الكلمة الإنجليزية للمشروعية فهي legitimacy والفرق بين الكلمتين في اللغة العادية ليس كبيرا ولكنه فرق كبير في مقولات العلوم السياسية والقانون فمثلا لو أخذت قاموس الفكر السياسي لمؤلفه روجر سكرتون( Roger Scruton,(1982), A Dictionary of political Thought, Pan Books in association with the Macmillan Press, London) فهو يعرف الشرعية legality "الالتزام بالقانون، القاعدة الأساسية على أساسها التي يمكن للمواطن فيها الطعن في قرار هيئة سيادة (مثل قرار الدولة)" (المرجع المذكور ص 262) ويذهب فيشرح أن مثل ذلك الطعن يعني تذكير هيئة السيادة بضرورة أن تكون متناسقة في قراراتها مع القانون وأن أي نظام لا يسمح بمثل ذلك الطعن فهو نظام استبدادي (نفس الصفحة).
أما كلمة مشروعية legitimacy فهي متعلقة بمفاهيم الحق والسلطة والقبول فالسلطة يقال عنها مشروعة إذا استعملها من عنده حق استعمالها والسلطة هنا تشمل السلطات التي تستعملها الحكومة وهذه تثير أربعة قضايا الأولى خاصة بمجال الفلسفة السياسية وهي ما الذي يجعل أي ممارسة للسلطة مشروعة؟ والقضية الثانية برجماتية سياسية يلتفت لها كل سياسي: كيف يجعل ممارسة السلطة مقبولة كحق أي سلطة مشروعة؟ والقضية الثالثة قانونية وهي ما الذي يجعل السلطة المشروعة شرعية أو قانونية؟ أما القضية الأخيرة فتجمع الثلاث قضايا وهي حول نظام الحصول على السلطة وتبديلها وهي قضية قانونية تتعلق بالشرعية وبرجماتية تتعلق بالممارسة وفلسفية تتعلق بفلسفة الحكم.
القانون الذي هو تشريع ويدخل في باب الشرعية يصبج مشروعا إذا نال القانون أو من أصدره قبولا، فالبرلمان الذي يعترف به الناس كناتج عن إرادة الناخبين في نظام إنتخابي مقبول منهم، يصبح مشروعا، ولكن الناتج عن سلطة استبدادية أو برلمان مشكوك في مشروعيته (تزوير انتخابات أو قيود في الانتخابات مثلا) لا يصبح مشروعا.
والمشروعية عموما ترتبط بالهجمنة، (وهذه كلمة صغتها للتعبير عن مفهوم Hegemony) و هي مفهوم كلي يعبر عن العلاقة بين الهيمنة الاقتصادية والهيمنة الثقافية الكاملة القائمة على أسس إدخال بعض الحقوق الاقتصادية والمفاهيم والرؤى الثقافية للطبقات المهيمن عليها ضمن التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية التي تحرسها الطبقة المهيمنة وتعيد إنتاجها، وفي هذه الحالة تصبح أزمة الهجمنة هي تعبير عن أزمة التشكيلة كلهاـ تصبح أزمة عضوية رغم ظهورها كأزمة قيادة وأزمة مشروعية ولربما أزمة شرعية،
ليست عن تزييف الوعي بل عن إعادة بناء الوعي وفقا لمواد اغلبها يساعد في إعادة إنتاج أسلوب الإنتاج الرأسمالي بهذا الشكل أو ذاك وبعضها مستلف من الطبقات المقهورة لجعلها جزء فاعلا من التشكيلة الاقتصادية لا بمجرد قهرها ولكن بموافقتها، لذا الهجمنة هي قيادة والهيمنة هي سيطرة وقهر، والقيادة لمجتمع طبقي لا يمكن أن تكون فقط ثقافية ولا يمكن أن تكون فقط اقتصادية ولابد أن تكون قيادة كلية، ليست تجميعية أو انتقائية وإنما تعبر عن علاقة متشابكة ومترابطة بين الاقتصادي والثقافي، ويجب ألا ننخدع بتقسيم العمل هنا بين مختلف مؤسسات وجماعات القيادة الطبقية فكل يؤدي دورا يخدم الهجمنة بوعي أو بدون وعي.
عودة للنظام المصري
كان على مرسي إذا أراد أن يستمر في الحكم ألا يعتمد على شرعيته فقط بل يسعى بنشاط لبناء مشروعيته وهجمنته من خلال خطاب وقرارات تجلب له تأييد الأغلبية ليس له شخصيا بل لنظام الحكم المصري، ولكن مرسي بحكم تمثيله لجماعة كانت تريد الاسراع بالتمكين والاستيلاء على الدولة ولا تهتم بموقف الآخرين، معتمدين على مفهوم ضيق للشرعية، فشلوا في إدارة الصراع لمصلحتهم في المدى الطويل فخسروا المدى القصير والطويل معا. ولعلنا نلاحظ الفرق هنا بين سياسات أردوغان والأخوان أو الحركة الاسلامية في تركيا التي رضيت أن تتقيد بقواعد اللعبة.
إن سياسة مرسي قد أثارت عليه معظم فءات وطبقات الشعب بدءا من الرأسمالية المصرية الصناعية (ورأسمالية نظام حسني مبارك الطفيلية أيضا) والطبقة الوسطى و العمال، في الصناعة وفي السياحة، والمزارعين وفقراء المدن والريف الذين يبحثون عن رغيف العيش والبوتجاز والمواصلات والكهرباء والمياه النقية.
لقد فقد مرسي مشروعيته وأضر ضررا بالغا بمشروعية النظام عندما رفض إجراء إنتخابات مبكرة للرئاسة، التي كانت ستعني للشعب أن النظام صالح لتصحيح أخطاءه وأنه يمكن أن يلجأوا للصناديق الانتخابية لتصحيح الوضع بعد أن عبروا عبر حملة التوقيعات والمظاهرات الحاشدة عن رفضهم لقيادة مرسي ومطالبتهم بانتخابات مبكرة وأيدهم الجيش في ذلك المطلب ولكن رفض مرسي لم يترك أمام الجيش إلا عزله ليستجيب لمطالب الجماهير التي أرتفع سقفها.
إن الديمقراطية عملية متكاملة لا تنتهي بصندوق الانتخابات، بل تمتد للشارع واقناعه بأن الانتخابات أتت بمن يمثله ويرعى مصالحه.
إن النظر للمسألة من هذا المنظار، يرتفع بها من مناقشة إنقلاب أو لا إنقلاب، لمناقشة جديدة حول شروط نجاح انتفضة 30 يونيو المصرية لتحقيق برنامجها في تأسيس نظام ديمقراطي يتمتع بالمشروعية والشرعية معا.