للديمقراطية ثمن غالٍ ينبغي أن يدفع

 


 

 



1/ الاستقطاب السياسي الحاد الذي وصلت إليه مصر المحروسة بعد ثورة شبابية رائدة ومبدعة أمر يؤسف له لأنه يهدد أهم مكتسبات تلك الثورة، وهي حق الشعب الأصيل في إدارة شؤونه عن طريق الاختيار الحر لحكامه دون إملاء من أحد كائناً ما كان ودون ابتزاز أو خداع أو إغراء. والتجربة البشرية الطويلة تقول إن النظام الديمقراطي الذي يستند على دستور تتراضى عليه الأمة، وعلى قوانين تشرعها هيئة منتخبة من عامة المواطنين، وعلى حكومة رئاسية أو برلمانية مفوضة من قبل الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة يتم فيها تداول السلطة سلمياً بين القوى السياسية، وعلى كفالة حرية التعبير والتنظيم، وعلى استقلال القضاء والفصل بين الجهاز التشريعي والتنفيذي هي أفضل ما يمثل تجسيد حق الشعب في إدارة شؤونه. ولقد أثبتت التجربة الديمقراطية التي جاءت عبر ثورات وانتفاضات شعبية نجاحها في معظم الدول التي ترسخت فيها قيم السلوك الديمقراطي عبر مسيرة طويلة من الصعود والهبوط. وقد حقق الشعب المصري هذا المكتسب الكبير بعد معاناة طويلة تحت حكم القهر والاستبداد الذي لم ينجح في الذود عن حياض الوطن أو تأكيد سيادته واستقلاله أو العمل على نهضته وعمرانه بوصفه بلداً رائداً ذا حضارة ضاربة في عمق التاريخ، بل أصبح خامل الذكر بين الأمم.

2/ وقد تدخلت قيادة الجيش المصري، بغير حسن نية وبتفاهم مع قوى خارجية وتآمر مع قوى داخلية هشة هزمت في جولة الانتخابات الماضية، لحل ذلك الاستقطاب الخطير بالانقلاب على الرئاسة المنتخبة لأول مرة منذ عام 1952م، وعلى الدستور الذي أجازه الشعب بأغلبية الثلثين في استفتاءٍ حر ونزيه، وعلى مجلس الشورى المنتخب بواسطة الشعب، وتنصيب حكومة بيروقراطية لم ينتخبها أحد ومطعون في سندها الجماهيري والتي بحكم طبيعتها وتكوينها ستكون أداة لمن جاء بها يفعل بها ما يشاء ويملي عليها ما يريد، ولن تملك إلا السمع والطاعة. والحجة المصطنعة لهذا الانقلاب العسكري أن أعداداً ضخمة من الشعب قد خرجت في شوارع القطر المصري في الثلاثين من يونيو تحتج على هذه الحكومة «الأصولية» التي تريد أن تغير نمط حياة الشعب المصري و «أخونة» الدولة وفرض إرادة المرشد على أجهزة الحكم، وكأن جماعة الإخوان المسلمين التي فازت بمنصب رئاسة الجمهورية وبعدد كبير من أعضاء مجلسي النواب والشورى قد نزلت فجأة من كوكب آخر لا يعرفه المصريون ولا يعرفون أهله الذين نزلوا عليهم من حيث لا يحتسبون، وكأنما نمط حياة المصريين وتقاليدهم الراسخة وثقافتهم العريقة هي مجرد ثوب مستعار تستطيع أية حكومة عارضة أن تخلعه وتلبسهم ثوباً آخر على مقاسها ومزاجها. ما لكم كيف تحكمون!

3/ ولا شك أن هناك أعداداً كبيرة من أفراد الشعب المصري لا تحب جماعة الإخوان وتخشى كثيراً من وصولهم إلى كراسي الحكم كما اتضح من الفارق الضئيل بين الفائز والخاسر في نتائج انتخابات الرئاسة في جولتها الثانية. وكان ينبغي على الجماعة أن تتحسب نتائج ذلك الاستقطاب الحاد وتسعى بكل الوسائل لطمأنة هؤلاء الخائفين المتشككين وكسبهم إلى توافق وطني واسع يقف سنداً قوياً للتحول الديمقراطي بدلاً من حكم النخبة الفاسدة المستبدة. والمرحلة الحالية في مصر هي مرحلة بناء الديمقراطية الوليدة لا مرحلة تطبيق أحكام الإسلام الموجودة أصلاً في كثير من القوانين المصرية. وهذا لا ينفي أن المظاهرات التي خرجت في شوارع المدن المصرية في 30 يونيو كانت محبوكة ومخطط لها بواسطة جهات عديدة تمثل ركائز الدولة العميقة البائدة والتي لها مصلحة كبيرة في بقاء النظام القهري الاستبدادي القديم حتى تبقى مصر تابعة سياسياً وضعيفة اقتصادياً وعسكرياً ومرتعاً خصباً لثعالب النخبة الحاكمة التي يصدق عليها قول المتنبي «وقد بشمن وما تفنى العناقيد». وهناك الكثيرون من الذين سِيقوا إلى التظاهر في الشوارع ضد السلطة الشرعية، بواسطة إعلام خرب تعود على استرضاء السلطة القوية، يجهلون مآلات هذا التدخل العسكري الخشن في مستقبل البلاد السياسي وفي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أما النخب السياسية الهشة التي ركبت موجة العداء للإخوان والتهجم عليهم فلا تؤمن بالديمقراطية من حيث المبدأ ولا تملك سنداً جماهيرياً يجعلها حريصة على النظام الديمقراطي، وهي أقرب لأن تلعب دور المحلل للنظام القهري من وراء ستار لبعض الوقت قبل أن يكشف النظام القهري عن نفسه بشخوصه ولبوسه ووجهه القبيح.

4/ وإن المواجهة القائمة حالياً تنذر بشر مستطير بين قيادة الجيش، التي تريد من كل القوى السياسية أن تقبل بقراراتها الانقلابية على نتائج الانتخابات الديمقراطية طوعاً أو كرهاً، فسمعة الجيش المصري في تقديرهم لا تقبل التراجع عن قرارات أعلنتها قيادته على الملأ، وبين تحالف دعاة الشرعية الديمقراطية المتجمهرين في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة وغيرها من المدن والميادين. وليس هناك من شك في أن آليات الجيش الفتاكة وعناصر الشرطة والأمن الشرسة قادرة على تفريق المتجمهرين بالقوة وإسالة كثير من دمائهم على أرض الشوارع والميادين مثل ما حدث أمام مبنى الحرس الجمهوري وميدان النهضة ومدينة نصر وغيرها. ولكن ليست هذه هزيمة بحال من الأحوال لهؤلاء المتجمهرين الذين يدافعون عن مبدأ لا شك في صحته وهو وضع أساس للتحول الديمقراطي في أرض الكنانة الذي أجمعت عليه فئات الشعب المصري قاطبة في ثورة الخامس والعشرين من يناير، والذي سينتصر عاجلاً أو آجلاً لأنه يشكل مسار التاريخ الذي لحقت به كثير من المجتمعات الآسيوية والإفريقية في العقود القليلة الماضية وتخلفت عنه أكثر دول العالم العربي. وتاريخ الأحداث الجارية التي نعيشها لن يكتب اليوم في ظل الأوضاع المضطربة المائجة ولكن بعد حين، بعد أن تتكشف الأمور المخفية والبطولات الزائفة وتتضح الحقائق من الأكاذيب ويتبين الناس الخيط الأبيض من الأسود، عندها سينصف التاريخ أصحاب المبادئ الحقة الذين لم يضنوا عليها بأنفسهم وأموالهم. وهذا يعني أن تثبت جماعة الإخوان المسلمين على مبادئها في حماية الشرعية الدستورية والانتخابية مهما كلفها ذلك من تضحيات، ولا يعني ذلك رفض أية صفقة سياسية تلتزم بمواد الدستور المجاز حقناً لدماء الشعب وتفويتاً لمكائد المتآمرين الحاقدين. فقد رفض الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة إرضاءً لجمهرة من المتظاهرين المخدوعين من الأمصار ولكنه في ذات الوقت رفض الدفاع عن نفسه صيانة لدماء المسلمين أن تسيل أمام بابه. ولماذا يقدم الإخوان تلك التضحيات وقد غدرت بهم القوى السياسية المصرية وتكالبت عليهم كما تتكالب الأكلة على قصعتها؟

5/ إن مصر اليوم تقف على ثغرة كبيرة في العالم العربي والإسلامي الذي يعتبر أكثر مناطق العالم تخلفاً في ممارسة الديمقراطية وبسط الحريات وحماية حقوق الإنسان، وينبغي على مصر بصفتها دولة قائدة في العالم العربي والإسلامي أن تقدم أنموذجاً للدفاع عن حرية الشعوب يحتذيه الآخرون، وثورة الخامس والعشرين من يناير تمثل ذلك الأنموذج في بداياته. وينبغي على جماعة الإخوان تصدر قيادة المدافعين عن حرية الشعوب لأن الإسلام الذي يدينون به ويرفعونه مرجعية للدولة هو دين تحرير للإنسان في المقام الأول «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟»؛ ولأنهم الجماعة التي نالت ثقة الشعب المصري في أول انتخابات حرة نزيهة منذ عقود عديدة مما يوجب عليهم الدفاع عن تلك الثقة وشرعيتها الدستورية والانتخابية؛ ولأنهم التنظيم السياسي الأقوى في مصر بلا منازع، فكيف يتسنى لهم أن يتقاعسوا عن مسؤولية القيادة السياسية في هذا المعترك المضطرب الذي يهدد مصر بالرجوع عقوداً إلى الوراء بعد ثورتهم المباركة؛ ولأن الإسلاميين في كثير من البلاد متهمين بعدم الالتزام بقواعد الديمقراطية وهي تهمة لها ما يبررها من ممارسات البعض منهم في الحزب وفي الحكم. وهذه فرصة لإخوان مصر لضرب مثل أعلى في الدفاع والتضحية من أجل الديمقراطية وبسط الحريات وسيادة حكم القانون، وقد قتل وأصيب المئات من عضويتهم والمتعاطفين معهم على يد الأجهزة الأمنية المحصنة ضد التحقيق والتحري، فكيف تضيع تلك الدماء الزكية هدراً دون أن تحقق أهدافها في استعادة الشرعية؛ ولأنهم ذاقوا مرارة الاستبداد والطغيان لسنوات طويلة فلا ينبغي لهم أن يقبلوا بعودة تلك الحقبة السوداء من تاريخ مصر عليهم أو على غيرهم من المواطنين.

6/ وينبغي للجماعة وهي تخوض المواجهة المحتملة أن تتمسك بسلمية الاحتجاج والتظاهر مهما كلفها ذلك، لأن ذلك يمثل الرصيد الأخلاقي والمعنوي الذي تتفوق به على الطرف الآخر الذي لا يملك إلا أدوات البطش والقهر؛ وينبغي أن تأخذ حذرها من العنف المصطنع أو المدسوس الذي يقصد به الإساءة إليها وتشويه سمعتها أمام الناس أياً كان مصدره؛ وأن تلتزم بالحوار الصادق والجاد مع كل القوى السياسية والاجتماعية الأخرى حول مستقبل البلد وأوضاعها السياسية بصرف النظر عن موقفها في المواجهة الحالية، فالقضية التي تدافع عنها الجماعة واضحة لا غبش فيها ويسهل الدفاع عنها أمام العدو والصديق. وقد أمر الله سبحانه موسى وهارون عليهما السلام بالحوار اللين مع فرعون وهو أعتى نماذج الاستبداد السياسي في تاريخ البشرية «اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى». وينبغي للجماعة أن تضع ثقتها بعد الله سبحانه في هذا الشعب المصري الطيب الذي وثق فيها وأيدها عبر سنوات طويلة كانت تتعرض فيها لكثير من الكبت والسجن والملاحقة وحملات التشويه الكاذب. «كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». وعليها أن تطمئن إلى أن الحق سينتصر في نهاية المطاف مهما بلغ كيد الكائدين ومكر الماكرين، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

aalabdin1940@yahoo.com

 

آراء