بعيد يا سما … الما بِنْطَلِعْ .. لي زولْ .. (في تَذَكُّرِ الدكتور يحيى الملك)
الشكر لابنتنا الدكتورة سلمى يحيى محمد محمود التي دعتني لليلة التأبين التي تنظمها الهيئة الشعبية لتنمية دارفور مساء السبت 24/8/ 2013 بقاعة الصداقة في أربعينية والدها. وأشكر لها حقاًتقديرها العلاقة الوثيقة التي جمعتنا بوالدها العظيم، على الصعيد الشخصي والعائلي والخاص والعام، والتي استمرت بمحبة وعمق حتى انتقل هو إلى دار البقاء. مبادرتها تلك من ثمرات الغرس الطيب ومن البر الذي كان أبوها كثير العناية به، ولا غرو، فهي ثمرة غرس طيبٍ، اصلها ثابت وفرعها في السماء.
أول ما أتذكره، حين كنت يافعاً في المدرسة الأولية، أتذكره وهو في زي الكشافة، بردائه المميز الأنيق، والمنديل الأخضر المتدلي كربطة العنق والصفارة ذات الخيط الموضوعة في الجيب، والعصا ذات الخمسة أقدام طولاً، و[ التندر فوت]، علامة الكشافة المشهورة، تستريح على الجيب الشمالي للقميص، في الصدر نحو القلب تماماً وعليها عبارة " كن مستعداً"
منذ تلك الفترة الباكرة، أواخر الخمسينات، كان دكتور يحيى المثل الأعلا. كان يمثل لنا الأناقة وقوة الشخصية المتشبعة بروح الكشافة التي طبّق شعارها ذلك، فكان مستعداً دائماً. في أناقته المتميزة وألفاظه المهذبة وهدوئه السمح، والاستمتاع بأن يخدم الناس، والغيرة والحدب والحنوِّ على أهله، وبالذات في الفاشر، وعلى أهل دارفور على النطاق القومي وعلى السودان إذا ضمته المحافل الدولية، وما أكثرها، وعلى الإنسان، والإنسانية حيث حلّ وأنّى أقام.ثمة مواقف كثيرة يشهد عليها كثيرون في أيٍّ من هذه المشاهد تؤكد غيرته وتفانيه ووضوح رؤيته وإسهامه بتواضع جم وبثقة وبلا ضجيج. ذلك دأبه منذ تخرجه في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، أوائل ستينات القرن الماضي، والتحاقه ببنك السودان، وابتعاثه إلى فرنسا لنيل الدكتوراه، وإلى عمله في تأسيس المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في افريقيا [باديا]، حيث تبوأ أرفع المناصب فيه وإلى تقاعده. اشتهر بالانضباط السلوكي الرفيع وباللقب الذي ورثه من والده واستحقه عن جدارة، يحيى الملك، فكان ملكاً بكل أبعاد هذا اللفظ. ورث عن والده الملك محمد محمود عاهل قبيلة الدادينقا العريقة في الفاشر، تفانيه في خدمة الناس، والرأي الراجح والحزم والتؤدة والأناة والشجاعة والكرام:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
عندما احتدمت الفتنة التي عمّت دارفور، كان من أوائل المنبّهين لها وقد حذّر منها، ولم يدّخر جهداً إلا بذله بقلمه وماله وعلاقاته ورأيه وعلمه. حذّر المسؤولين والساسة والزعماء، ولمكانته وقدراته، أسهم مع عمه الملك رحمة الله محمود، ذلك الهرم الراسخ في دارفور، ومستودع الحكمة والتجارب، والرأي والشجاعة، فطرقا كل باب يؤدي إلى حقن الدماء وإنصاف المظلوم، شعاره دائماً:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أولاً، وهي المحلُّ الثاني
تآمروا عليه، وأودعوه المعتقل، أيام الهوجة الأولى لحكم الإنقاذ، إذ اتهموه أنه يعقد الاجتماعات في بيته للإطاحة بانقلابهم في تواريخ حددوها، وأنه اجتمع بفلان وعلان من أبناء الفاشر، ومر وقت طويل في المعتقل حتى أثبت لهم بالبينات أنه في تلك الفترات التي حددوها كان خارج البلاد في مهمة تتعلق بعمله في المصرف العربي، وجواز سفره يشهد على ذلك. لم تثنه الاعتقالات ولا المؤامرات ولا المضايقات ولا المكائد المستمرة، لم تثنه كل ذلك عن قضايا أهله، ولم يحقد على احد في شخصه. كان لا يتهيب مخاطبة أيٍ كان مهما ارتفع شأنه أو علت وظيفته، فخاطب رئيس الجمهورية ونوابه ومستشاريه، ولمّا امنتنع بعض المسئولين استلام بعض رسائله إليهم في الشأن العام كان يلجأ إلى الصحف، والتي كانت تتخوف من نشر خطاباته تلك [ شأن صحفنا الداجنة التي نعلم]،فكان يستنسخها ويرسلها إلى من يهمهم الأمر بنفسه وبكل وسيلة متاحة وبشجاعة نادرة وبوضوح رِؤية.
بحكم تخصصه في الاقتصاد كان يعرف أسَّ المشكلة، والتي حذر منها، وقد أنشأ مع نفر كريم من أبناء دارفور الهيئة الشعبية لتنمية دارفور ضمت العديد من المبادرين والمختصين من أبناء دارفور بقبائلهم وجهاتهم وتوجهاتهم المختلفة، فلم يعقد مؤتمر إلا وكان لهم فيها مشاركة أو مبادرة واضحة، وكان هو بشخصه ومزاياه العديدة محل احترام زعماء الحركات المسلحة، ومستشارهم، ومعينهم على التفاوض والناصح الأمين لهم, وكم تكبد مشاق السفر والسهر والاجتماعات الطويلة، على اعتلال صحته في سنواته الأخيرة، باذلاً خبرته وعلمه ومعرفته بالناس للبحث عن خلاص وبؤرة ضوء، وأملٍ لأهل دارفور يخلصهم من جحيم الاقتتال وإيقاف نزيف الدماء المستمر إلى يومنا هذا.
كتبفي يوليو عام 2009، وبنفس العنوان الذي استعرته منه لهذه المقالة، ينتقد بياناً صدر موجها إلى أهل الفاشر، وكان غفلاً عن التوقيع[ ... يدعي كاتبوه أنهم بعض أبناء الفاشر، وملخص البيان أن كاتبيه من منطلق الوازع الديني والأخلاقي يتوجهون بالدعوة إلى مواطني الفاشر بالإنخراط قي الموتمر الوطني الذي زعموا أنه يمثل أكثر المجموعات السياسية والأحزاب تماسكاً ووضوحاُ في الرؤيا ومشاركة في الحكم ويعيبون على أهل الفاشر وعلى سلبيتهم في مشاركة الإنقاذ الحكم، واصفين الأحزاب السياسية التاريخية الأخرى بالعجز عن تحقيق التنمية وبلورة برامج فعلية في فترات حكمها ومعارضتها متفرغة للتناحر والانشقاقات والشللية والابتعاد عن المسؤولية، والمساهمة في إيقاف ما يجري في دارفور وما تعانيه قواعدها السابقة].
انبرى دكتور يحيى لهؤلاء، معرّفاً بنفسه، باعتباره أحد أبناء الفاشر [ الأصلاء]، هكذا بذات اللفظ وبين الفوسين، وأبان اعتزازه بالمدينة واهلها والذين هم [ .. أهلي، وتشربت بأخلاق أهلها الطيبين وتطبعت بعاداتهم وتقاليدهم السمحة، ناهيك عن السودان، أهل الفاشر الذين اعرفهم جيداً، أصحاب تاريخ وحضارة ضاربة في القدم. لا يفهمها أو يفهمهم إلا من يخالطهم ويعايشهم فهم سلاطين وملوك في طباعهم، يعتزون بأنفسهم أيما اعتزاز، يتصفون بالرزانة والأدب، ويخالطون الجميع بالخلق الحسن، فكم وافدٍ أتاهم من بعيد إلا وطاب له المقام عندهم وصار منهم.
درج أهل الفاشرعلى مناصحة السلطان فإن وجدوا منه آذاناً صاغية ناصروه وساعدوه وإن استبد عليهم أو استفزهم سكتوا عنه والتزموا ديارهم، وهذا بالضبط ما يجري في هذا الزمان، فالعيب ليس فيهم. لا يتوددون أبداً للسلطان ويصيرون ويصابرون، ولكن غضبتهم عارمة، والتاريخ يشهد لهم في مواقع كقيرة، منها حرق العلم البريطاني، وليتهم أحرقوا معه العلم المصري، فقد كان استعماراً ثنائياً، ونذكر هنا موقفهم من تكسير قرارات رئيس الجمهورية عندما أراد ضم دارفور إلى كردفان، وعندما أراد فرض حاكم عليهم من غير أبناء الإقليم، إحذروا غضب الحليم واحذروا الاستخفاف بعقول الناس، اتركوا أهل الفاشر وشانهم يختارون بحرية أين يجدون انفسهم، حتى ولو كان في المؤتمر الوطني.
ويمضي دكتور يحيى فيقول:[ انطباعي الأول عن هذا البيان أنه صادر من مجموعة نكرة، لها أجندة خاصة تريد تسويقها، وهي قطعاً لا تفوت على فطنة أهل الفاشر، وهي صادرة من مجموعة نكرة لأنه جاء غفلاً عن أي توقيع، أي بلا هوية، ويقيني أنه بيان مدفوع القيمة لأنه خرج في توقيت أو زمن يدور فيه لغط حول الانتخابات.
والانطباع الثاني، المغالطات التي وردت في البيان، فعلى سبيل المثال النقد الموجه للأحزاب، ودعوة مواطني الفاشر للانضمام إلى حزب الحكومة] ويتساءل الدكتور من هو الذي قام بتشتيت هذه الأحزاب ولمصلحة من؟] ويسترسلالدكتور: [ نسيالذينأعدواالبيانأنالأحزابالمفترىعليها، والتي هي أساس الحكم الديمقراطي لم تتح لها الفرصة لتحكم وتنفذ برامجها، فمنذ الاستقلال كانت اطول فترة حكم ديمقراطي ثلاث سنوات ونيف وكانت جملة الفترات الديمقراطية قصيرة على فترات متقطعة بينما استأثر الحكم الشمولي يثلاثة وأربعين عاماً ولفترات طويلة [ 6+16+1+20 سنة].
ويمضي دكتور يحيى في نقده البيان .. [ .. ما تعانيه ولايات دارفور من دمار وتخلف أسبابه متراكمة، و منذ فجر الاستقلال، فالتهميش والإقصاء وعدم العدالة في توزيع السلطة والثروة [ وكاتبو البيان يعلمون ذلك جيداً] هي الأسباب التي اوصلت دارفور والسودان إلى ما نحن فيه الآن، وقد كنت وما أزال أنادي وبالصوت العالي أن الاحتراب يزيد معاناة أهل الإقليم الذين لا حول لهم ولا قوة فقد وجدوا أنفسهم تحت أقدام الافيال المتصارعة، وأن ما صُرِفً على الحرب في دارفور كان أولى به خطط السودان التنموية المفترض فيها التوازن والعدالة]. يقول دكتور يحيى: [ .. لقد ناشدت وسأظل أناشد الأخوة حملة السلاح في دارفور بالتوحد والجلوس للتفاوض بأجندة واحدة ووصولاً للسلام فقد شبع اهلنا في دارفور حرباً وتشريداً ودماراً وهم يدخلون عامهم السابع فقد وجدوا أنفسهم في خضم حربٍ شردتهم نازحين ولا جئين ولا حول ولا قوة لهم فلهم الله وهو نعم الوكيل.[
ويصوب دكتور يحيى سهمه فيصيب البيان في مقتل، إذ يقول: [ تحدث البيان عن التنمية وانعدامها وكأنّ انضمام أهل الفاشر للحزب الحاكم سيفتح لهم أبواب التنمية على مصاريعها؟ أنتم واهمون يا هؤلاء فإقليم دارفور، وبسبب عقدة الأمير محمود ود أحمد، وبسبب عقدة حكم الخليفة عبد الله ود تور شين لن يكون له نصيب في التنمية إلا الفتات. انظروا إلى مشاريع التنمية والخدمات التي غطت جهات معينة من السودان من طرق على ضفتي نهر النيل من الخرطوم إلى حلفا القديمة والجسور التي ربطت مناطق شرق النيل بغربه والكهرباء وخدمات الماء والصحة والتعليم ومدينة الفاشر عطشى وحدث ولا حرج عن خدمات الصحة والتعليم بل أين إقليم دارفور من ذلك كله، لا أقول لكم عيشوا على الوهم ولكن أقول حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم يختم دكتور يحيى مرافعته الضافية بقوله.. [ .. في الختام أود أن أّذكر، والذكرى تنفع المؤمنين، أذَكِّر من قاموا بإعداد البيان، من هم مواطني الفاشر الموجّه إليهم البيان؟ هم خيار من خيار أتوا من أصلاب هذا النفر الكريم، فسجّل يا تاريخ واشهد.
ويذكر دكتور يحيى في رده الحاسم ذاك قائمةبأكثر من 600 [ستمائة] أسرة من عائلات الفاشر العريقة، ويعتذر لأهله الذين لم تسعفه الذاكرة لإلحاقهم بتلك القائمة، فمكانهم كما قال في سويداء القلب، ويقول: [ هاهم اهلي فهل هم المخاطبون ببيانكم مجهول الهوية؟ ... ولي أن اسأل : من أنتم؟ ومن أين جئتم؟ وماذا تريدون؟ ولنا عودة]. التوقيعيحيىالملكمحمدمحمود ابن الفاشر الخرطوم 12/7/2009 صورة من البيان مرفقة
تلك واحدة من شهادات عديدة تضيئ جانباً من جوانب شخصيته الخيّرة والمناضلة، وأما إسهامه مع أهله في الحقل الاجتماعي وفي مجتمعات الفاشر ومناسباتها، وأما حنوّه ومحبته وسط أهله، وأما كرمه الدفاق و جسارته وإقدامه مع الزكانة والتواضع الجمّ والرأي السديد فإن خسارة السودان فيه لا تعوّض، وأما مصاب أهل دارفور في فقده فجلل وفادح، وأما أهل الفاشر فيقولون نعم فقدناه وفقدنا ركناً ركينا، ويقولون:
نحن والله في زمانٍ غشومٍ لو رأيناه في المنام فزغنا
أصبح الناس فيه من سوء حالٍ حقُّ من مات فيهم أن يُهنّا
هو فقد غال، ولكن لا يغلى على الله، وسنصبرموقنين أن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
فليس لنا غير التوكل عصمة على ربنا، إن التوكل نافع
وصلى الله على نبينا وآله وصحبه ومن سار على سنته.
وكتب ذلكم عالم عباس في 23/8/2013
Alim Nor [alim.nor@gmail.com]