هاشم بامكار أخي الذي فقدناه .. بقلم : جعفر بامكار محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
من الصعب علي جداً أن أكتب عن اخي الزعيم الراحل هاشم ولا استطيع ان استوعب انه قد فارق دنيانا الى الأبد وهو الذي كان يملأها فرحاً وحماساً ومحبة ووطنية ولكن لابد لي ان اذكر بعضاً من خصاله النادرة التي عايشتها معه بشكل لصيق ولعل هذه الخصال ما جعلته نجماً في تاريخ السودان الحديث وجعلت له القبول الواسع في قلوب جماهير الشعب السوداني 0
(1) بعد ثورة أكتوبر المجيدة كتب كلمة ليقدمها في اجتماع جبهة الهيئات بالخرطوم وكنت في ذلك الوقت طالباً صغير السن وبعد ان قرأت الكلمة قلت لاخي هاشم : ( هذه كلمة صعبة وخطيرة لا يستطيع ان يقدمها اي حزب سوداني ولو كان الحزب الشيوعي فلماذا لا تخفف في لهجتها او مضمونها ؟ ) فقال لي بكل بساطة : ( انت لا تعلم اي مظالم وحروب واعدامات ومعتقلات عانى منها الشعب السوداني خلال الحكم العسكري ولم تذق مرارة المعتقلات والسجون وماذا تساوي كلمتي هذه امام كل هذه المظالم ؟ ) فسكت وبالفعل قدم تلك الكلمة النارية وليتني اجد منها نسخة في دار الوثائق السودانية او اي مصدر آخر 0
(2) أثناء عضويته في الجمعية التأسيسية الأولى قرر الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الامة وجبهة الميثاق الإسلامي حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبون في الجمعية التأسيسية إعترض هاشم بشدة على هذا الاجراء الغير قانوني كما حكمت المحكمة الدستورية فيما بعد واعتبر السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء آنذاك أن حكم المحكمة الدستورية حكم تقديري غير ملزم مما دفع رئيس المحكمة الدستورية للإستقالة 0
عندما التقيت مع هاشم فيما بعد قلت له : ( يا أخي هاشم أنني أعلم أنك لست شيوعياً ولا تعرف شيئاً عن هيجل وماركس ولينين وستالين وإنجلز فلماذا دافعت عن الشيوعين رغم أن الأغلبية الكاسحة بالجمعية مع قرار الحل والطرد بجانب زعامات البلاد المرموقة وأحزابها الكبيرة ؟) وكان رد هاشم : ( أنني لا أفهم شيئاً عن الشيوعية ولا أعرف شيئاً عن الأشخاص الذين ذكرتهم ولكن النواب الشيوعين الذين كانوا معي بالجمعية كانوا ناس حلوين وفاهمين ووطنيين وكلامهم جيد وقيم ويعبجبني كثيراً ولا يجوز ظلمهم وطردهم وأنا لا يمكن أن أرى شخصاً أو أشخاصاً يظلمون ثم أسكت مهما كانت النتائج وهذا مبدأي في الحياة ) وبالفعل سجل هاشم وحده موقفاً تاريخياً وثبت فيما بعد أن قرار حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه خطأ سياسي وتاريخي جسيم تسبب في قيام انقلاب مايو المشؤوم 0
(3) بعد قيام الانقاذ ذهب هاشم لإجراء عملية جراحية بالقاهرة وعندما علمت أحزاب المعارضة بوجوده بالمستشفى حضروا إليه وطلبوا منه عدم العودة للسودان والالتحاق بصفوفهم بالخارج فرفض هاشم بشدة هذا العرض بل عندما سألــوه عن حال البلاد السياسية قال لهم : ( من يريد أن يعرف رأي في أوضاع السياسة بالسودان فليحضر للسودان فسوف اشرح له كل شيء اما خارج البلاد فلا أقول شيئاً ابداً ) عند انتهاء فترة العلاج بالمستشفى طلب هاشم فاتورة العلاج والإقامة بالمستشفى فقيل له أن فاتورة علاجه قد تم سدادها بالكامل وعندما سأل من الذي دفع فاتورة العلاج قالت له إدارة المستشفى أن هذا سر لا تستطيع إدارة المستشفى أن تبوح به فعاد هاشم للسودان وفي نفسه شيء من حتى من أمر الفاتورة المسددة وقال لي : (يا أخي جعفر أنني لم أتعود أن أتقبل عطايا الآخرين وإن أمر الفاتورة المسددة دون أن أعلم من سددها يزعجني كثيراً ) فقلت له : ( لا بأس فأنت لم تطلب سدادها من احد في الأساس) 0
(4) عند قيام وفد من الجمعية التأسيسية للمشاركة في أحد أعياد الفاتح من سبتمبر بالجماهيرية الليبية الشعبية الإشتراكية الديمقراطية وكان هاشم أحد أعضاء الوفد وكلفت الحكومة الليبية احد المنظرين للكتاب الأخضر بإعطاء درس ومحاضرة للوفد السوداني الجاهل بأصول الفكر الجماهيري والشعبوي والاشتراكي فإبتدأ ذلك المحاضر قائلاً : ( إن كل من تحزب خان وان أصول الديمقراطية هي المؤتمرات الشعبية وان الاحزاب ضلال وغير ذلك من الترهات السياسية ) فما كان من هاشم الا ان خبط المنضدة بكل قـوة ثم قام وخاطب المحاضـرقائلاً : ( انت فاكر نفسك شنو ؟ انت عايز تعلمنا السياسة والوطنية ؟ كفاية لحد هنا 00 نحن جينا لبلدكم ضيوف نشارككم عيدكم ولم نحضر لنتعلم منكم اي شيء في السياسة أو الوطنية إذا كلامي ما عجبكم رجعونا للسودان فوراً وبلاش فلسفة ) فتكهرب الجو وجمع المحاضر أوراقه وذهب 00
(5) اثناء فترة الجمعية التأسيسية الأولى حضر الشيخ العظيم علي بيتاي للخرطوم للعلاج فزاره هاشم مع عدد من النواب وكان علي بيتاي شيخ همشكوريب لم يكن قد التقى مع هاشم من قبل وبعد السلام والتحية قال هاشم لعلي بيتاي : ( يا شيخ علي نحن نواب الشرق عندنا أزمة شيخ وولي بالخرطوم فالأنصار عندهم آل المهدي شيوخهم والختمية شيوخهم المراغنة وهكذا كل حزب عنده شيخ ونحن نريدك أن تبقى بالخرطوم لتكون شيخاً لنا ونتساوى مع بقية الأحزاب) فضحك الشيخ علي بيتاي وقال في تواضع شديد :( أنني قد لا أصل لدرجة هؤلاء الشيوخ ) فقال له هاشم : ( كيف ذلك وقد سمعت أنك قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أكثر من مرة وأنا أوكد لك أن هؤلاء الشيوخ السياسيين لم يروا الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لمرة واحدة فقط ) فسر الشيخ علي بيتاي وضحك من كلامه 0
(6) في مناسبة خاصة بالانصار حضر المرحوم عمر نور الدائم وكان صديقا لهاشم ويمازحه وكان المرحوم عمر نور الدائم أحياناً يلبس ملابس عجيبة ملونة وقد تكون العمامة صفراء والقميص أحمر والسروال أزرق وفي تلك المناسبة حضر عمر نور الدائم بمثل تلك الملابس فذهب هاشم من فوره للسيد الصادق المهدي وكان رئيساً للوزراء وقال له : ( انتم الحكومة تمنعون أهل الشرق من التهريب وتسمحون لناسكم ومحاسبيكم بالتهريب وهذا ظلم كبير ) فقال له السيد الصادق : ( هذا لم يحدث أبداً وما دليلك ؟) فقال له هاشم : ( انظر لملابس عمر نور الدائم التي أتى بها 00 هذا النوع من القماش غير متوفر بالأسواق ولا يكون متاحاً إلا بالتهريب) 00 فنظر السيد الصادق لملابس عمر نور الدائم ولم يقل شيئاً 0
(7) أنني كأخ لهاشم قلما رأيت هاشم بمفرده 00 دائماً هو وسط الناس بالمنزل وبالشارع وبالسوق وبالنادي وبدور الرياضة وفي كل مكان لقد كان يحب الناس كثيراً ويجذبهم لنفسه كالمغناطيس ويعاملهم بحميمية شديدة 0 هاشم كان يختلف مع بعض الناس احياناً ولكنه لا يعرف الكراهية أو الحقد 00 لم أرى انساناً خالياً من الاحقاد والضغائن مثله 00 لقد كان متصالحاً مع نفسه كريماً جواداً لا يهمه المال كثيراً 00 لا يعرف العنصرية او التعصب لحزب او طائفة او قبيلة او جهة 00 الجميع احبابه وأصدقاؤه 00 كان خدوماً عطوفاً للمساكين والضعفاء 00 لقد كان يحب بشكل خاص الصحفيين والصحفيات والطلبة والطالبات وأهل هوامش السودان 00 لقد كان يهتم تماماً بناس الجنوب وغرب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق ويتألم لآلآمهم ولكنه لا يحمل الجلابة المسؤولية بشكل عام ولكن يحملها لنخبة الخرطوم السياسية الفاسدة والفاشلة 00 كان وطنياً وحدوياً ولا يؤمن بفصل أي جزء من السودان ، كان صبوراً يضحك في احلك اللحظات ويسخر من الجميع 00 لقد كنت ازوره بالمعتقلات والسجون خلال عهود الشمولية والديكتاتورية وانا في غاية الحزن والاكتئاب فاجده يضحك ويضحك الاخرين من المعتقلين السياسين المساكين فاخرج من عنده وانا ضاحك منشرح الصدر 00 لم اره يبكي ابداً أمام الناس وعندما يتوفى عزيز لدينا يقابل المعزين باسماً كأنه لم يفقد عزيزاً وفي المساء عندما يذهب المعزون اضبطه وهو يجهش بالبكاء الشديد فأقول له : ( عيب يا هاشم ما هكذا الرجال تصبر ) فيقول لي : ( ماذا تعتقد ؟ اتعتقد انني حجر ؟ على كل حال لا تخبر احداً ببكائي ) 00
(8) بعد وفاته اتصل بي عدد كبير من السودانيين من كل انحاء السودان ومن خارجه للعزاء ولكن للأسف الشديد انا لا اعرف من المتصلين الا القليل ولكن ما لفت نظري ان بعضهم من دنقلا ومن الابيض ومن الجزيرة ومن كسلا وغيرها من الامكنة يبكون في التلفون وهو امر لم اختبره من قبل وفي ثقافتنا البجاوية بكاء الرجال عيب 00
كيف استطاع هاشم اسالت دموع كل هؤلاء الناس 00 الشيخ الترابي عند تعزيته لنا بالتلفون قال لي : ( ان اخوك هاشم رجل شجاع ) وهي شهادة نقدرها للترابي رغم اختلاف الشيخ الترابي مع هاشم سياسياً وفكرياً 00 السيد محمد عثمان الميرغني عبأ الحزب والطريقة الختمية وكانوا حضوراً ملحوظاً في سرادق العزاء 00 اسرة الهندي كان هاشم يحبهم كثيراً وخصوصاً الشريف حسين وأخيه زين العابدين والشريف صديق الهندي وبقية افراد الاسرة وقد اتصلوا جميعاً 00 السيد الصادق المهدي اتصل 00 وقيادات الانصار كانوا حضوراً بجانب المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني والاتحادي الديمقراطي المسجل وتحالف القوى الوطنية والاسلامية ومؤتمر البجا 00
كيف استطاع هاشم جمع هذا الشتات حوله 00 سرادق العزاء كان اشبه بمؤتمر سياسي لأهل السودان 00 الحزب الشيوعي ومنبر السلام العادل وبقايا الحركة الشعبية وانصار السنة المحمدية وكل القبائل والقوميات 00 السيد محمد سر الختم الميرغني اكبر رموز الختمية بالبحر الأحمر حضر من سنكات لسرادق العزاء وعندما رايت الدموع في عينيه ذهلت 00 لم اكن اعتقد ان المراغنة يبكون 00 أهل الرياضة وأهل الفن والطبقات العاملة 00 ارسل المؤتمر الوطني بالخرطوم وفداً على مستوى عال للعزاء 00 هذا السودان بلد العجائب 00 من يصدق ان الانقاذ التي زجت بهاشم بالسجون تكبد قياداتها مشاق السفر للحضور من الخرطوم لبورتسودان لتقديم واجب العزاء 00 السيد والي ولاية البحر الأحمر وحكومته كانوا حضوراً رغم معرفتهم برأي هاشم في نظامهم 00 لا أعتقد ان ما يحدث بالسودان في الناحية الاجتماعية يمكن ان يحدث في اي مكان في العالم لا في العالم الاسلامي ولا العربي ويمكن ان يدخل هذا الأمر في سجلات جينتس 0
(9) الجهاز التشريعي والأجهزة التنفيذية كانت حضورا لافتاً ابتداءاً من الجهاز القضائي والأمن الوطني والشرطة وجامعة البحر الأحمر وهيئة الموانيء البحرية والشركات والبنوك 00 كل هؤلاء كيف استطاع هاشم ان يؤثر فيهم فيفتقدوه 00
(10) هناك موقف نبيل من رئيس الجمهورية عمر احمد حسن البشير تجاه هاشم بامكار وموقف نبيل آخر من رئيس المجلس الوطني بعد نيفاشا 000 السيد/أحمد ابراهيم الطاهر والموقف الاول يدور حول زيارة رئيس الجمهورية لبورتسودان في السنوات الاولى للانقاذ لبورتسودان وطلب الاجتماع مع قيادات ووجهاء المدينة وكانت الدعوة للحضور قد وجهت لهاشم على هذا الاساس رغم علم الداعين بموقف هاشم المبدئي من الانقاذ 00 بعد ان القى الرئيس كلمته طلب من الحضور المشاركة ولم يتقدم احد بالكلام من شدة خوف الناس من الانقاذ المتوحشة في تلك الأيام السوداء وبيوت اشباحها ولكن هاشم الجسور تقدم وقال للرئيس : ( السيد الرئيس ان شرفك العسكري وقسمك الدستوري يتطلبان منك حماية الشعب السوداني وحماية تراب أرض الوطن وانت الآن بولاية البحر الأحمر وحلايب على مرمى حجر منك وهي محتلة احتلالاً عسكرياً لماذا لا تذهب إليها وتحررها ؟!ماذا تفعل هنا ببورتسودان ؟ ) 00
فغضب الرئيس وسأل من هذا الشخص الوقح فقيل له أنه النائب المشهور هاشم بامكار 0 بمجرد انتهاء الاجتماع قام الرئيس وحمل عصاته وذهب الى حيث يقف هاشم وقال له : ( انت هاشم بامكار الذي كذبت على الناس وقلت ليهم اعمل ليكم كبري من بورتسودان لجدة ؟ وين الكبري ؟ ) فرد عليه هاشم فوراً :( وانت عمر البشير العملت انقلاب وكذبت على الناس وقلت ليهم اجيب ليكم الشريعة وين الشريعة ؟ ) فضحك البشير كثيراً واعجب به وكان بإمكانه وباشارة منه لجلاوذة الأمن ان ياخذوه لاقرب بيت اشباح او يعيده للسجن 00 وهذا التجاوز والنقد العلني الجارح والقاسي لرئيس الجمهورية والماس بالشرف العسكري للرئيس موقف نبيل من قبل الرئيس ودليل على قمة التسامح من الرئيس وذلك يحسب للرئيس 00
أما بالنسبة لرئيس المجلس الوطني أحمد ابراهيم الطاهر فان هاشم اصبح عضواً بالمجلس بعد نيفاشا وبعد الحاح شديد من صديقه زين العابدين الهندي وفي احدى جلسات المجلس انتهر رئيس المجلس احدى عضوات المجلس انتهاراً مهيناً فما كان من هاشم الا ان قام واقفاً وخاطب رئيس المجلس قائلاً : ( انت يا اخينا قايل نفسك ايه ؟ انت قايل الرجال والنساء في هذا المجلس شغالين في بيتكم 00؟ ما انت الا مجرد مراسل للبشير ليس الا ) فضجت القاعة بالهتاف والتصفيق وعلت الزغاريد من البنات واصاب رئيس المجلس حرجاً شديداً 00 بعد نهاية الجلسة استدعى الرئيس هاشم الى مكتبه وتكلم معه كلاماً طيباً ثم طلب منه ان يأخذ صورة تذكارية معه 00 لم يكتف رئيس المجلس بهذا الموقف المتسامح الكريم بل طلب ان تخصص جلسة خاصة لهاشم بامكار وتسجل في سجلات المجلس تكلم فيها الكثيرون من اعضاء المجلس اشادوا بموافق هاشم الوطنية وتاريخه النضالي الطويل من اجل الوطن وذلك بعدما تقدم هاشم باستقالته من المجلس لظروفه الصحية وهذا موقف نبيل آخر يحسب لرئيس المجلس 00
الا رحم الله أخي هاشم بامكار واسكنه فسيح جناته وانا لله وانا اليه راجعون 000
omar ahmad [omar4net@gmail.com]