تيار الإصلاح داخل المؤتمر الوطني: إلى أين يسير؟

 


 

 



وأخيراً برز إلى الهواء الطلق وساحة السياسة السودانية المضطربة تيار الإصلاح من داخل عرين الحزب الحاكم، برز من بين فرث ودمٍ برموزه القيادية وأشخاصه المعروفة وبأفكاره التأسيسية وأطروحاته السياسية المحددة المعلنة والمكتوبة، والتي تفتح الباب واسعاً أمام القوى السياسية الأخرى للتعاطي معها بالاتفاق أو الاختلاف وبالمدح أو القدح. وحسناً فعل التيار الوطني الإصلاحي بهذا الحراك القوي المدروس الذي جاء والساحة السياسية شبه جامدة بين حكومة قابضة فاشلة عجزت عن أية مبادرة للإصلاح والتغيير ومعارضة سياسية ضعيفة تختلف أكثر مما تتفق وتتردد أكثر مما تخطو إلى الأمام، والناس حيرى لا يعرفون إلى أين يتجهون؟ ولا ماذا سيحدث لهم في الغد القريب؟ فالبلد تعيش في زمن الاستبداد والفشل والفساد وفي زمن الضعف والحيرة والمستقبل المجهول، وهي أجواء حبلى تعني القابلية لاحتمالات عديدة تتراوح بين الثورة والتغيير وبين الإصلاح والانتكاسة وبين الفوضى والاضطراب، لكنها غير قابلة للاستمرار لفترة طويلة!
قدمت "قوى الحراك الإصلاحي" في الشهرين الماضيين ثلاث وثائق مكتوبة ومنشورة في المواقع الإسفيرية، بدأتها ب "نداء الإصلاح: الأسس والمبادئ" (أغسطس 2013)، "إطار لمبادرة سياسية وطنية" (3/9/2013)، رسالة للرئيس البشير (28/9/2013). الوثيقة الأولى ذات طبيعة تأسيسية تتحدث عن تعثر السودان في تحقيق الاستقرار والنهوض وفي اضمحلال كفاءة الدولة وهيبتها، وفي ضعف البنية الاقتصادية واضطراب السياسات، وفي خطورة أن تصبح القبيلة هي أداة التمكين السياسي. لذا فإن المسؤولية الأخلاقية توجب النقد والمراجعة لأن البلد تعاني من غياب الرؤية الاستراتيجية وضعف المبادرات السياسية لحلها، ويطمح الحراك الإصلاحي لتكوين "جبهة سودانية متحدة" تقود إلى التصدي لأهم واجبات مرحلة البناء في الفترة الانتقالية قبل الانتخابات القادمة. ويستند الحراك الإصلاحي في تحقيق أهدافه على الحوار وتفعيل الأطر السياسية والتشريعية والتنفيذية وفقاً لما يكفله الدستور والقانون، ويضع نصب عينيه المرجعيات التالية: محورية الإنسان السوداني أساساً للحراك، وحدة الوطن وسلامته ونموه الاقتصادي والثقافي في مقدمة الأولويات، التنوع الثقافي والفكري الذي ينبغي أن يكون مصدر ثراء وقوة جديرة بالحماية والتعزيز، والسلام المستدام الذي تحرسه القوة في مناخ سياسي مستقر يتراضى عليه الجميع، والتوافق الوطني حول بناء الدولة الحديثة مما يعني الانفتاح والتواصل مع الآخرين، والتعاون مع المحيط الإقليمي والعالمي لتحقيق المنافع المشروعة وفق المبادئ المشتركة والاحترام المتبادل، والتنمية الشاملة في أبعادها المختلفة والتحديث الذي يعني التعاطي الواعي مع الحضارة الكونية بما يحفظ هوية الفرد والمجتمع.
الوثيقة الثانية "إطار لمبادرة سياسية وطنية" تنطلق من محاولة الوصول إلى إجماع وطني حول خطوات محددة يشترك في وضعها  ويؤيدها أهل السودان على حدٍ أدنى من الوفاق، خاصة وأن الأهداف العامة للقوى الوطنية متقاربة إلى حدٍ كبير.وتقترح الورقة برنامجاً إصلاحياً موجزاً لفترة العامين القادمين المتبقية للانتخابات العامة باعتباره الخيار الأسلم والوحيد لمعالجة مشكلات المرحلة القادمة، ويتضمن البرنامج:
1. تكوين حكومة وحدة وطنية ذات تمثيل واسع، تتمتع عناصرها بالكفاءة والحيوية والقدرة، تلتزم بتنفيذ برنامج وفاقي شامل.
2. إنشاء آلية للوفاق الوطني من جميع قوى المجتمع في الحكومة والمعارضة مهمتها الرئيسة تحقيق الإجماع في القضايا الوطنية، يتولى رئاستها رئيس الجمهورية ويشرف على تنفيذ قراراتها. تتولى الآلية صياغة مفهوم وأسس للأمن الوطني يعتمد سياسة للتفاوض مع الحركات المسلحة لإنهاء الحرب وتحقيق السلام، تقييم اتفاقيات السلام الإطارية والنهائية الموقعة بغرض تأكيد الالتزام بها.
3. التزام كل القوى السياسية المشاركة في الحكومة وفي المجلس الوطني بالقرارات الصادرة من آلية الوفاق.
4. تكوين فريق خبراء اقتصاديين للنظر في السياسات والبرامج الاقتصادية التي تؤدي إلى معالجة أزمات الاقتصاد السوداني مع العناية بالأوضاع المعاشية للفئات الفقيرة والضعيفة.
5. تضطلع آلية الوفاق الوطني بمشاركة خبراء متخصصين في وضع سياسة خارجية متفق عليها تركز على العلاقات السلمية والتعاون والتبادل الاقتصادي مع الدول خاصة دول الجوار.
6. تأكيد حيادية رئيس الجمهورية ومؤسسة الرئاسة إزاء جميع فئات المجتمع وتنظيماته، وفك الارتباط بين أجهزة الدولة وأي حزب سياسي، وضمان قومية القوات النظامية والأجهزة العدلية.
7. مواجهة آفة الفساد بصورة وإرادة سياسية فاعلة بما في ذلك فساد المؤسسات المحمية بالتشريعات والقرارات الاستثنائية.
8. السعي لإيجاد هيئات تشريعية شاملة التمثيل ذات فاعلية في الرقابة على الأجهزة التنفيذية، والتي لا ينبغي التعامل معها كوحدات حزبية يجب أن تلتزم برأي الحكومة ضربة لازب. ينبغي إجراء انتخابات تكميلية في المقاعد المائة التي شغرت بخروج النواب الجنوبيين من المجلس الوطني وأن تترك المنافسة فيها حصراً على الأحزاب السياسية من غير أعضاء المؤتمر الوطني حتى يستعيد المجلس توازنه القومي ويؤدي دوره الرقابي والتشريعي بجدارة. ويمكن داخل المجلس الوطني أن توزع المناصب القيادية بالتساوي بين الكتل البرلمانية وتحدد نسبة عالية لإجازة القوانين الهامة حتى لا تجور أغلبية الحكومة على غيرها.
9. إحداث إصلاح في القوات المسلحة كمؤسسة قومية مهنية سيادية تحتكر حمل السلاح من أجل الدفاع عن الأرض والوطن، والعمل بكل ما يلزم لتطوير نظمها وتكوينها وتسليحها وتدريبها والعناية بأفرادها.
10. التوافق على اتخاذ إجراءات وتشريعات قانونية لقيام انتخابات حرة ونزيهة في عام 2015، وأن يكون المجلس المنتخب هو من يجيز دستور البلاد الدائم الذي ينبغي أن يكون محل حوار شامل وتوافق بين القوى السياسية والمدنية. وتعزيزاً للتوافق ينبغي إطلاق سراح كل المعتقلين والمحكومين في قضايا سياسية، وإطلاق حريات التعبير والتنظيم. والإصلاح يقوم على إشاعة العدل والحرية في المجتمع فالنهضة يحققها الإنسان الحر لا المستعبد أو المستذل، وعلى الدولة أن تقدم النموذج في احترام الدستور والقوانين والالتزام التام بها، وأن تسعى لإزالة الظلم عن المواطنين وتحقيق المساواة بينهم.
والوثيقة الثالثة هي عبارة عن رسالة مفتوحة للرئيس البشير بخصوص الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي طبقتها الحكومة وأحدثت أثاراً قاسية على المواطنين، وهي إجراءات لم تجز من قبل المجلس الوطني ولا تجد قبولاً حتى من قبل قطاعات مقدرة في الحزب الحاكم. وقد كانت هناك بدائل أخرى قدمت من قبل أفراد وخبراء وقوى سياسية لم تجد الاهتمام أو الاعتبار اللازم من الحكومة. ولم تسمح الحكومة للمواطنين بالتعبير السلمي عن رأيهم حول تلك الإجراءات رغم أن الدستور يكفل لهم ذلك، مما أعطى الفرصة لأصحاب التعبير العنيف الذي أدى إلى خراب كثير وإزهاق لأرواح عزيزة في مواجهات استخدمت فيها الذخيرة الحية. ولقد جاءت الإنقاذ بوعد كبير هو تطبيق الشريعة التي من أهم مقاصدها حرمة الدماء والعدل بين الرعية ونجدة الضعفاء وإحقاق الحقوق، لكن حزمة الإجراءات الحكومية وما تلاها من قمع للمعارضين هي أبعد ما يكون عن الرحمة والعدل وإحقاق حق الاعتقاد والتعبير السلمي. طالبت الرسالة الرئيس البشير بوقف الإجراءات الاقتصادية وإسناد الملف الاقتصادي لفريق اقتصادي مهني وقومي يكلف بوضع وصفة مناسبة لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحالية، وتشكيل آلية وفاق وطني من القوى السياسية لمعالجة الموضوعات السياسية الهامة ومن بينها الإطار السياسي للأزمة الاقتصادية. كما طالبت الرسالة بوقف الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام وإطلاق الحريات العامة بما فيها حق التظاهر السلمي، وإجراء تحقيق محايد حول استعمال الذخيرة الحية ضد المتظاهرين ومحاسبة المسئولين عن ذلك وتعويض المتضررين جراء القتل والنهب والتخريب. ومن باب الشفافية والوضوح فقد ذيلت الرسالة بأسماء 46 شخصية يتقدمهم غازي صلاح الدين،ومن بينهم 10 أعضاء في المجلس الوطني و11 من الضباط المتقاعدين من ذوي الرتب العالية في القوات النظامية على رأسهم العميد ركن م محمد عبد الجليل إبراهيم (ود إبراهيم)، و11 من السيدات القياديات. (انتهى استعراض الوثائق).
لقد ظل تيار الإصلاح في الحزب الحاكم يتحرك منذ مدة بهدوء وينتقد برفق من داخل المؤسسات في المجلس الوطنى وفي أجهزة المؤتمر الوطني ومن خلال اجتماعات الحركة الإسلامية المستكينة، ووصلت كل تلك المحاولات إلى طريق مسدود بل وازداد الوضع سوءاً بعد انفصال الجنوب وتوقف إيرادات النفط واشتعال الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق واتساع دائرة الإنفلات الأمني في دارفور. ووقفت الحكومة بطة عرجاء، كما يقول الغربيون، لا تبادر بخطة جديدة ولا تفعل شيئاً لمعالجة الأوضاع السيئة التي تحيط بالبلاد من كل جانب. وأدرك تيار الإصلاح أخيراً أن الحكومة غير راغبة وغير قادرة على إصلاح الأوضاع لأن ذلك يعني إعادة هيكلة الدولة وتغيير النظم والسياسات والشخصيات المتنفذة، وذاك أمر فوق المزاج المستحكم لدى السلطة وفوق إرادتها السياسية وقدراتها العملية وعلى حساب علاقاتها الشخصية الحميمة التي تربطها بالشلل والأفراد الذين يحيطون بها وأدمنت التعامل معهم زمناً طويلاً. وأقبل تيار الإصلاح على خطوة النقد المكشوف أمام الملأ من باب المعذرة لله والتحذير للذين ينتظرون إصلاحاً من قيادة حزبهم المتكلسة أن انتظارهم سيطول سنين عددا، وإعلاناً جريئاً عن رؤيتهم السياسية الإصلاحية وشخصياتهم المعينة المعروفة، وليكن بعد ذلك ما يكون! وكان رد الفعل السريع من قبل السلطة أن تلك الممارسة تعتبر خروجاً على نظم الحزب ولوائحه، وينبغي محاسبة هؤلاء المارقين مهما علت مقاماتهم حتى يكونون عظة لغيرهم من الشباب المتطلع. ونسيت قيادة السلطة أن لها سوابق عديدة في الخروج على الدستور والقوانين والنظم واللوائح في إدارة الحزب والدولة، ولا معقب على مخالفاتهم لأن "الشرعية في عرفهم هي للبندقية"!
ولن يرفض تيار الإصلاح مبدأ المحاسبة ولكنه سيطالب بمحاسبة شاملة لكل من خرج على الدستور والقوانين والنظم في الدولة والحزب، ويريد أن تشمل المسألة والتقويم محتوى الوثائق ومقترحاتها الإصلاحية وليس فقط الناحية الإجرائية أنها تمت خارج مؤسسات الحزب التي هي في غالبها غير فاعلة وغير قادرة على الاختلاف مع كبرائها مهما شطحوا في الدعاوى وقلبوا الحقائق.وسوف لا يحظى تيار الإصلاح بمحاسبة شاملة أو عادلة أو كريمة، ولن يكون أمامه من خيار سوى رفض التعامل مع لجنة التحقيق المزمعة وعندها ستعلن العقوبة بالفصل أو التجميد دون تحقيق أو محاسبة، وبوابة المؤتمر الوطني واسعة تفوّت عدة جمال في وقت واحد! وبالطبع فإن مثل هذا الإجراء التعسفي ليس من باب حسن السياسة في شئ خاصة في هذا الوقت العصيب ولكن سلطة الإنقاذ ما عرفت بحسن السياسة مثلما عرفت بسياسة الرجالة مع الأفراد والجماعات الوطنية! ولن تفاجأ قيادة تيار الإصلاح بمثل هذه المعاملة الفظة فقد لقي شيخ الحركة الإسلامية وصانع سلطة الإنقاذ معاملة أسوأ منها في فترة ماضية. ولعلنا في مقال آخر نتعرض إلى ماذا سيفعل الإصلاحيون خارج مياه السلطة الباردة!
Altayib alabdin [altayib39alabdin@gmail.com]

 

آراء