من وهج الذاكرة
د. على حمد إبراهيم
16 November, 2013
16 November, 2013
تحت الطبع :
(2 )
*** فى الطريق الى بلاط الحاج عيدى أمين دادا :
كنت قد عدت الى الخرطوم بعد اكمال دورة نقلى الاولى الى الخارج فى يوليو 1976، و التى استمرت لمدة اربع سنوات قضيتها مناصفة بين سفارتى السودان فى مدينة جده بالمملكة العربية السعودية ، قبل أن تنقل السفارات الاجنبية الى الرياض العاصمة ، وبين سفارة السودان بمدينة بلغراد ، عاصمة جمهورية يوغسلافيا الاتحادية ، قبل أن تتوزع الجمهورية الاتحادية الجميلة التى بناها (جوزيب بروز تيتو) من العدم بعد الحرب العالمية الثانية ، قبل أن تتوزع الى عدة كيانات جمهورية مستقلة عن بعضها البعض ، بعد وفاة الزعيم المؤسس ، الذى كان صمام وحدة تلك الجمهورية الفدرالية الواسعة والمتعددة الثقافات والديانات والاثنيات . و لله در الرجل الذى كان مجرد عامل نقابى فى احواض السفن فى مدينة ريكا اليوغسلافية عندما احتل النازى بلاده الجميلة ، فقاد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال النازى وصيّر نفسه بطلا قوميا ذى كاريزما لا تتقاوم . بعد استقرارى المؤقت فى رئاسة الوزارة كلفنى السيد هاشم عثمان ، وكيل وزارة الخارجية ، برئاسة ادارة شئون الامريكتين ، كما كانت تسمى ( امريكا الشمالية و امريكا الجنوبية) بوزارة الخارجية . كانت ادارة شئون الامريكتين ادارة شابة و ضئيلة الحجم فى داخل الوزارة رغم انها يراد منها أن تغطى بنشاطها قارتين كاملتين . طموح زائد عن الحد تعجز عن تحقيقه القدرات والامكانات المتاحة للادارة الصغيرة . السودان لم يكن له أى تمثيل دبلوماسى مع أى بلد من بلدان القارة اللاتينية الجنوبية. وبالكاد كانت توجد مصالح مشتركة كبيرة للسودان مع دول امريكا اللاتينية رغم أنها دول شعوبها اقرب الى السودان سحنة ومسلكا اجتماعيا وشركة فى الضرر والضرار العام . فى يومى الأول فى الادارة وجدت على منضدتى ملفا فى غاية الأهمية كان ينتظر قرارا رئاسيا بشأنه وكان على ّ أن أغرز عيونى فى الملف المهم وانظر فيه بتركيز واناة . كان السودان يتجه بعد طول غياب نحو اقامة اول تمثيل دبلوماسى مقيم فى القارة اللاتينية الجنوبية . وكان مطلوبا من الادارة أن تشير على وزارتها بالنصح أين يجب أن تفتح هذه السفارة المقيمة الاولى من بين كل دول القارة الكثيرة المؤهلة للمنافسة على استضافة أول تمثيل دبلوماسى مقيم للسودان . كانت المفاضلة فى طورها المبدئى مطروحة مسبقا بين البرازيل والارجنتين . وبقى فقط أن تنصح الادارة أين يكون تصويب النبل الاخير باتجاه الهدف الاخير. بمعنى اختيار البلد المضيف الأول لأول سفارة للسودان فى القارة اللاتينية . لتوفير تلك الاجابة الحاسمة كان محتما على الادارة الناحلة أن تجمع احصائيات او معلومات بالمصالح المشتركة القائمة فعلا مع الدولتين . وتلك التى يمكن أن تقوم و تتطور فى المستقبل المنظور. جمع تلك المعلومات بصورة دقيقة كان يحتم استشارة جهات خارج الوزارة لديها الخبر الاكيد مثل بنك السودان ووزارات المالية و التجارة الخارجية والصناعة . المفاضلة بين البلدين بالنسبة لى شخصيا لم تكن سهلة . فانا رجل محب لرياضة كرة القدم . ومصاب تحديدا بفيروس المناعة الازرق الذى تعارف الناس على تسميته بالهلال . وكانت مشكلتى هى المفاضلة بين بلد الساحر بيليه وبين بلد ( اللعبنجى) ديجو مارادونا الذى يتلاعب بالخصم كما يتلاعب الريح العاصف بالريشة .و كنت متعشما أن اكون سفيرا لبلدى فى احدى هاتين الحسنيين : البرازيل او الارجنتين فى المستقبل القادم . هذا العشم جعلنى اقف هنا وهناك عند كل صغيرة وكبيرة . واقلب اوراقى كثيرا بحثا عن مزايا هنا وفوائد هناك لبلدى ولشعبى فى البلدين ولسان حالى يقول لى انت الكاسب فى الحالتين اذا كسبت رهان تعميدك سفيرا للسودان فى أى من هذين الخميلين المورقين . لم اكن أدرى أن وراء الاكمة المظلمة ذئب رابض .أو أن الريح الاصفر قادم الينا فى الطريق فى معية الذين لم يعرف حتى الكونى الطيب صالح من أى المفازات المظلمة جاءوا. وما كنت ادرى أن عشمى فى سفارة فى البرازيل او الارجنتين لم يكن افضل من عشم ابليس فى الجنة . ولم اكن أدرى أن يوما سيأتى أترك فيه جمل الخارجية بما حمل . يرن التلفون السرى ( الانتركم ) فى مكتبى فى الصباح الباكر . نظرت ، فرأيت أن الشخص المتصل هو السيد هاشم عثمان وكيل وزارة الخارجية. ظننت أن إتصال السيد الوكيل فى ذلك الوقت الباكرلابد انه متعلق بالموضوع الذى بحوزتى : موضوع التمثيل الدبلوماسى السودانى المقيم فى القارة اللاتينية . القيت نظرة سريعة على الاوراق التى امامى. و من ثم دلفت على مكتب السيد الوكيل . نقرت على الباب وانتظرت الإذن بالدخول وفى يدى اوراقى . السيد الوكيل ، الرجل الهاش الباش الودود ، يفاجئنى بضحكة مجلجلة من ضحكاته التى اعتدنا على سماعها كثيرا تعبر مسام الجدر و تصل الى مجاوريه الجنب . رأى السيد الوكيل استغرابى من ضحكته العالية . ورأى كذلك تبلمى واندهاشى . أمرنى بالجلوس والاستماع الى ما سيقوله لى . وتنفيذه فورا دون ملاججة . أو جدل. استغربت ذلك الشرط الذى يكاد يقول لى ان امرا جللا قد حدث. وأننى على صلة ما به . أمر ذو بال على اقل تقدير إن لم يكن ذو خطر وخطورة . بلعت ريقى. وانتظرت حتى ينهى السيد الوكيل محادثته التلفونية . كانت الدقائق التى قضاها السيد الوكيل فى التلفون السرى كـأنها ساعات طويلة قضيتها افكر فى الأمر الذى يحتم علىّ الاستماع فقط ، ويحرمنى من التعقيب على ما يقال لى. او ابتدار أى قدر من النقاش حول ما سيقال لى. استغربت الأمر واستنكرته فى سرى . و قلت لنفسى هذا شرط لا يجوز. ولن التزم به. فحتى المحكوم عليه بالاعدام يعطى فرصة التعقيب والجدل . انهى السيد الوكيل المحادثة التلفونية الدهر. و صمت قليلا قبل ان يبلغنى سبب استدعائى الى مكتبه فى ذلك الوقت الباكر. قال أنه قد وقع الاختيار على شخصى لشغل منصب القائم باعمال جمهورية السودان لدى يوغندا . و على ان اغادر الى مقر عملى الجديد فى ظرف اربع وعشرين ساعة أو أقل . وأن هذا القرار نهائى . و لا يقبل المراجعة أو التجادل حوله نسبة للوضع الاستثنائى الذى حدث فى السفارة فى كمبالا للتو. فقد اعفى رئيس الجمهورية السفير حس بانقا من منصبه . وطلب من الوزارة تكليف دبلوماسى بديلا عنه بدرجة قائم بالاعمال . ووجه الرئيس بأن يعمل القائم بالاعمال مع زملائه بروح التيم المتكامل . وقال انه قد نما الى علمه بوجود خلافات حادة بين طواقم السفارة العسكرية والامنية والدبلوماسية. وهدد باغلاق السفارة اذا لم تستقر الاوضاع فيها . داهمنى احباط شديد . كانت يوغندا يومها بمثابة الخطر الذى يمشى بساقين فى الطرقات العامة . فقد قفذ جنرال شبه امى ، باسم عيدى امين ، على السلطة فى صبيحة اليوم الخامس والعشرين من ينائر 1971 فى انقلاب سهل عندما كان الرئيس المنتخب ، ملتون اوبوتى ، يحضر مؤتمرا للكمونويلث فى سنغافورة .و كما هو ديدن الانقلابيين فى كل مكان وزمان ، اتهم الجنرال عيدى امين الرئيس اوبوتى بالفساد والمحاباة . وقال انه ليس سياسيا و لا يرغب فى الاستمرار فى السلطة . ولذلك السبب سوف يعيد الحياة الديمقراطية فى ظرف اشهر قليلة ريثما تجرى انتخابات حرة ونزيهة . وريثما يتم تطهير الحياة العامة من الفساد والمفسدين . كما اعتاد الكذابون الانقلابيون ان يقولوا هكذا دائما للجماهير ذات الاحاطة الصفرية . ولكن ما هى الا اياما قليلة حتى استبدل الرجل جلده ، واستبدل كذلك اجهزة الدولة المدنية كافة باجهزة عسكرية لكى تدير الدولة , وابلغ وزراءه بانهم سوف يخضعون لنظم الانضباط العسكرى الصارم فى عملهم اليومى . وبسرعة انشأ الجنرال اخطر ثلاث وحدات حكومية كما سيتضح فى المستقبل القريب هى (مكتب الابحاث الحكومية ) و (وحدة الأمن العام). و (وحدة البوليس العسكرى) ليكتشف الشعب اليوغندى أن هذه الوحدات كانت هى ذراع عيدى امين الطويلة التى صفّت له المعارضين ومسحتهم بقسوة من على ظهر الحياة وركزت نظامه الدموى على مدى ثمانية اعوام وزيادة . كانت خلالها ارواح الشعب اليوغندى تزهق بدم بارد كأنها ارواح قطط سائبة بلا وجيع فى الفلوا القفر . ولم تسلم حتى ارواح اقرب المقربين للدكتاتور ( الحاج) عيدى امين دادا ، كما كان يحب أن يدعى . وزراء واساتذة جامعات وقساوسة وصحفيون كانوا يخرجون من بيوتهم فى الصباح قاصدين اماكن اعمالهم ، فلا يصلون اليها . ولا يعودون الى اسرهم فى نهاية اليوم . ولا يتجرأ أحد بالسؤال عن مصائرهم. مجموعة كبيرة وراكزة من العلماء و المثقفين اختفت من على ظهر الحياة فجأة واصبحت اثرا بعد عين. كل مصيبتها انها كانت من الجينات السياسية والاجتماعية التى كان الجنرال لا يطيقها . لا أحد استطاع ان ( يصف دولة الدم ) التى اقامها الجنرال أمين فى يوغندا مثلما وصفها وحددها ورقمها المستر هنرى كيمبا ، وزير الصحة فى أول عهد عيدى امين الذى هرب سرا من يوغندا فى 1977 ونشر كتابا ضافيا عن فظائع نظام عيدى امين الدموى اسماه ( دولة الدم). كانت بعض هذه المعلومات متوفرة لى عندما ابلغت بخبر نقلى الى ( دولة الدم ). وكنت ملما ببعض المعلومات عن قصة مقتل احدى زوحات عيدى ، كاى امين ، فى 13 اغسطس 1974 بكل فظاعتها ، والعثور على جسدها ممزقا ومطمورا فى مياه النهر. ومقتل عشيقها الدكتور مبالو موكاسا بزعم أنه انتحر . وكنت على علم بحكاية زواج عيدى من زوحته الاخيرة سارا كيولابا ، كابتن الفريق القومى اليوغندى لكرة السلة ، التى اعجب عيدى امين بجمالها ورشاقتها حينما شاهدها وهى تتقافذ فى رشاقة غزلان منتجع باكوبا اليوغندى وتحرز الكأس لبلادها . سأل عنها عيدى . وعرف انها كانت مخطوبة وتعيش مع خطيبها . ايام قليلة واختفى الخطيب تعيس الحظ. ليتزوج الحاج دادا الغزالة الجميلة بينما ظلت اسرة خطيبها تسال الطير العجمى عن ابنها المفقود ولا اثر. وكانت حكاية عيدى مع وزير خارجية بريطانيا العظمى حاضرة فى ذهنى . لقد جعل عيدى وزير الدولة العظمى يدخل اليه حبوا فى كوخ قصير زعم انه يعتكف فيه فى مناسبة روحية. و بدا الوزير و كأنه يركع امام السيد الافريقى العظيم . كذلك لم تغب عنى حكاية السواح البيض الذين حملوا عيدى فوق كتوفهم وطوفوا به فى الطرقات وهو يلوح للمارة مبتهجا. عادت كل هذه الصور البائسة و احتشدت فى نفسى لحظة ابلاغى بنقلى الى ( دولة الدم ) وجاء فى خاطرى أننى قد ظلمت بذلك النقل الذى جاء قبل موعده فدية للشخص الذى عليه الدور. ولأن وزارة الخارجية وزارة عسكرية السلوك فيما يختص بالانضباط ، فقد خرجت من عند السيد الوكيل مستسلما و مغتما وغير مقتنع بالتبريرات التى سيقت لى .و لكن لا مناص امامى غير التنفيذ الفورى . نظرت فى النتيجة المعلقة فى مكتب السيد الوكيل . كانت النتيجة تشير الى اليوم الخامس عشر من مارس من عام الف وتسعمائة وتسعة وسبعون 1979 ، نفس التاريخ الذى كان يتطير منه يوليوس قيصر ، عظيم الروم . الذى اغتيل فى ذات التاريخ بمؤامرة شاملة اشترك فيها حتى صديقه اللصيق بروتس. تقول الرواية التاريخية للحدث العظيم يومها أن القيصر نظر فى وجوه قاتليه الذين احاطوا به وغرس كل واحد منهم خنجره فى موضع من جسمه . و ما أن رأى القيصر صديقه الحميم بروتس فى ثلة قاتليه حتى لفظ انفاسه بالكلم الاخيرة فى حياته التى صارت مضرب الامثال فى خيانة العلائق الودية - حتى انت يا بروتس! خرجت من عند السيد الوكيل ليس متشائما من تاريخ منتصف مارس كما القيصر المغدور كان . و لكنى خرجت بشئ من حتى فى نفسى تجاه وزارتى. وتجاه يوغندا التى ساتوجه اليها مكرها فى ظرف ساعات قليلة و الاعلام العالمى ما زال ينبح عن مذابح (الحاج) دادا ضد شعبه الودود . وتحديدا ضد قبائل الاشولى واللانقو . وكان الدم اليوغندى ما زال يسيل مسفوحا بلا هوادة فى جنون اثنى مدمر . النقل الى بلد بمثل تلك الصورة الكئيبة لا يستدعى السرور و الارتياح . ولكنى كنت مرسونا مثل جمل من جمال اهلى فى بوادى دار محارب عموم . الجمل المرسون عندهم ينقاد قبل أو أبى. كنا فى الخارجية اهل دربة ونظام وانضباط . حنيت رأسى لتعليمات السيد الوكيل وخرجت . قبل يوم واحد من موعد سفرى الى كمبالا دلفت على مكتب السيد الوكيل للوداع. ولتلقى التوجيهات الاخيرة . وما كنت اعلم ان السيد الوكيل كان يحتفظ لى بمفاجأة أخرى فى اللحظة الاخيرة .
يتبع -
alihamadibrahim@gmail.com