عائشة الأولى

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com


(1)
ساعة وضوح الكلمات وتعبيرها عن الواقع الذي عشناه في تاريخ مضى .زلزل أرواحنا ساعة نضارها . لم تنته الحكاية كما كنُا نُحب أن تكتمل . كانت أصدق رواية تكاد أنتَ من عذوبة تفاصيلها أن تُكذِّب الواقع وتُصدق غواية الشعراء الأُوَل، وإدعاءاتهم بأنهم يكتبون واقعاً  من جراحات لم تندمل في أجساد المصائر. أتذكّر الآن كيف كُنا نجلس سوياً : "فاطمة" زميلتنا ورفيقة عُمرنا الدراسي، و"عائشة" صديقتها ورفيقتها منذ المرحلة الثانوية ، وزميلنا "حسن" و"عبد اللطيف "صديقي ، وأنا . فنحن طلاب وطالبات السنة الجامعية الأولى ، عدا "عبد اللطيف ". المسرح  لاجتماعنا  كان الميدان الغربي بجامعة الخرطوم :
" على النجيلة جلسنا ". بين أيدينا أكواب الشاي ابتعناها من كافتيريا " عم السِّر" ، فهو رجل صاحب مكارم : تشرب أنتَ الشاي الأحمر بثمنه أو بدونه . نأخذ وقتنا هاربين من زحام اليوم الجامعي الكثيف ، وفتنة صحف الطلاب المنتشرة  في " قهوة النشاط " ، تريد  كل منها أن تُشغلك في فسحة الوقت المتبقي من زحام الأكاديميات . وحدها صحيفة " آخر لحظة " لسان حال الإخوان المسلمين لا يكتبها الطلاب ، بل يأتي بها رجال من خارج الجامعة ، في الأربعين مما مضى من أعمارهم أو فوق ذلك ، وما على الطلاب المنضوين إلا حراستها !!. أصوات ضجيج  المقهى الطلابي تبتلعه الأشجار الكثيفة الباسقة من حول المكان. تأتينا الإضاءة الخافتة من البعيد ، وترتمي ظلالنا تقتسم معنا الوقت وتستأنِس.
(2)
مثل تلك الجلسة هي بعض أرجوحة الدُنيا ورفاهيتها في بعض المساءات .نحاول التعوّد عندها على رفقة أخواتنا الطالبات في قاعة المحاضرات الجامعية وخارجها. نهاجر من مجتمع الثانوية وتجمُع الذكور إلى غرابة الاختلاط والمفاجآت وبداوة التجريب. دُنيا جديدة ندخلها بكل أشواكها ومخاطرها ، وحصادها معرفة اجتماعية ضرورية للإنسان السوي ، ومعها أيضاً الكثير من الود والتقدير الذي يُخفف غلواء "الجندر"حتى نعتاد نِديَّة البقاء في شراكة طبيعية مع من هنَّ في دار المعرفة والحياة الجامعية  آنذاك .
في كلية الهندسة أقل من سبع طالبات في ذلك الزمان ، في حين تضُم الكلية بضع وثمانمائة . التحقتْ " عائشة " بكلية العلوم في سنتهاالإعدادية الأولى قبل تحديد التخصصات. في تلك الأيام كان نظام القَبول في الجامعة : كلية العلوم للسنة الأولى قبل التقسيم ، وبعدها بعام تتحدد المصائر :  للمبرزين :كلية الطب ، كلية طب الأسنان ، كلية الصيدلة ، كلية البيطرة ، كلية الزراعة ، ثم كلية العلوم بالتتابُع. أما كلية العلوم الرياضية فكانت السنة الأولى للدراسة العامة ،ثم السنة التي تليها يتم التقسيم  : للمبرزين :كلية الهندسة المدنية ، الهندسة الكهربائية ، الهندسة الميكانيكية ، الهندسة الكيميائية ،بالتتابُع ، فلم تكُن كلية المساحة قد أنشئت بعد .
(3)
قال صديقنا "عبد اللطيف " إن قريبته " عائشة " ستكون في كلية العلوم ،تم قبولها من مدرسة أم درمان الثانوية بنات . عندما تأتي سيرتها  ونحن نتسامر ينقطع الحديث ، وتمرّ حالة صمتٍ مُطبق ، فعبد اللطيف على درجة عالية من الرقة والحساسية ، ويمكنه أن يكتئب في أي وقت بمبرر وبدونه. يرى المحبة والحديث عنها وجبة دسمة يتشاركها الإخوان بقدر من الجديّة والتقدير ، ويتمنون له التوفيق ، ويلاحقونه بعيون الرضابدون تعليق سالب يُكدره. كنا نعرف أنه لم يصارحها بالأمر، فعندما يتحدث وهي بيننا ، ينخفض صوته ، ويتلعثم أول أمره ، ولكنه آخر المطاف عبقريُ الحديث ، بجاذبية مفرطة . تدور الأفلاك كلها من حوله ويصطفيه الجميع . نتربص نحن للمؤانسة حتى تأتينا الجراءة فنشارك.
(4)
" عائشة " هيفاء ، سمراء خمرية  اللون فاقعته، فرائحية العينان ، هادئة .تفاصيل وجهها مما يطلقون عليه في الأقاصيص الكلاسيكية :" الملامح الأرستوقراطية ". تحس أنت حديثها العفوي يأتي عبر دائرة تفكير كهربي، تزن كل كلمة فيه بموازين النغم والمعنى الدقيق . كأن الحكمة مبثوثة في لغتها الدارجة . لم أجد توصيفاً لطبيعة تلك المشاعر التي كانت تتشارك " عائشة  " و " عبد اللطيف " حين يتبادلانها بصمت. لم يكن هناك تصريحاً أو تلميحاً لنعرف خصوصية العلاقة أو طبيعتها. وعندما نلتقي جميعنا ، لا نلحظ ما يميِّز الذي كان يسرّها إلينا " عبد اللطيف " عندما نستفرد به  . نعرف طباعه ، عندما يعجبه شيء ، يغدق عليه الوصف ويتعدى السقوف الطبيعية الممكنة.
(5)
نحن من جيل شباب نهاية الستينات وبداية السبعينات ،فمن يريد معرفتنا ،فنحن لا نخرج من حيز المكان والزمان ، مثل سائر الكائنات ،يتم الرجوع للحيثيات قبل الحُكم لنا أو علينا . لم تزل أبواب العِشق آنذاك تفتح على مجتمعٍ ، تُسامر خيالاته أطيافُ العذريين من الشعراء ، أو الرومانسيين الذين انحدر مسلكهم من الأقاصيص التي استشرقت وقرأناها في أصولها التي بها كُتِبَتْ . تشكل وجداننا من ذاك الميراث . نحن أقرب الديناصورات الإنسانية حداثة ، فالتاريخ الأقدم  في الأربعينات له ثقله في مؤخرة ذواكرنا، ولكن حياتنا تقدمت عليه خطوة أو خطوات . فالأنثى عند حياة آبائنا السابقة أكثر محافظة  ، لا يرى  الرجل الأنثى إلا في حفلات الأعراس ، تتجه الاناث إلى الخلف عندما يجلسنَّ، ولا ترى أنت شيئاً!.وعندما تترجى فاتنة اختارت أغنية ، تتدلى إلى الساحة وينكشف الوجه وتوجه كاشفاتها اللواحظ نحو الجمع ، تومض من البعيد. والشَّعر المنسوج  بضفائره الدقيقة ،هي تاج الرأس الذي يدير دفة الجسد ودفّة القلوب المتراقصة دهشة وانجذاباً. أصدق راوية لساحة الرقص هو ما كتب الشاعر عبيد عبد الرحمن:
تيه في تيه رَفَلْ
نجم الليل زَها وبالبدر احتفلْ
موفور النفَلْ
ساح نام في الكفلْ
أسفل عالي مرة ، وأعلى الكان سَفلْ

ذاك الجيل الذي تثيره التي تمشي كالسحُب الراحلة أو التي يبطئ حركتها " ثقلُ المُرجّرج ّكالخائض الوحل" . يتدلى الجسد إلى المحفل ، وتكشف الأنوثة بِدُور الأوجه ، وتقوم لغة الجسد  بكامل أبجديتها في ساحة الرقص . " بانتومايم " بتعبيرٍ أدقّ ، لا حاجة فيه لحديث ، فهو أجزل بلاغة وأصدق تعبير عن الرغبات والغرائز.دخلت المرأة مجال العمل في البداية الخجولة . ويذكر أساطين شعراء الأربعينات أول مجال دخلته المرأة كان التمريض لجرحى قوة دفاع السودان القادمين من حرب العلمين ، ولم تسبقهم إلا مدرسة القابلات التي تأسست في ثلاثينات القرن الماضي في أم درمان، حين بدأت أول مبادرات عمل المرأة ، فكتب أحد شعراء "الحقيبة " قصيدة شكر بعنوان " المتطوعات " ، إشادة بدور المرأة في تطبيب الجراح ، وجاءت أغنية  أخرى للمطرب " أحمد المصطفى " عام 1946 " فتاة الوطن " لتضع بداية مسيرة  جديدة  للمجتمع وللأغنية ، وتوارت أوصاف " الصُيَّع " للمطربين. بدأت الحياة  تتحلل من قيمها المتزمِّتة.

(6)
جئنا إلى الدنيا من أمة وسط، بين الرعيل الأول المحافظ في مسلكه،  إلى مجتمع  أفسح للحياة العصرية بعض التنازل.فنحن من الجيل الرابع من بعد السودنة. صرنا شباباً و تنفسنا أريحية " فن الروك " الذي تمت سودنته ، وتأثر  به الفن الغنائي عندنا ، وخرج عن الحياة التقليدية، وبدأنا الحياة الجديدة. لكن الماضي دائماً يجذبك بأغلاله الناعمة، ولن تستطيع كامل الفكاك من قيودها .
للنفوس خزائن ، لا يملك مفاتيحها إلا الخاصّة ، فالدنيا تتغنى لمنْ تهوى وتُحب ." عبد اللطيف" يحب سيدته الجميلة بحق ،لكن العيب كل العيب أنه لم يُصرِّح بقول أو كتاب . تحدثت زميلتنا "فاطمة " عن الموضوع ذات مرّة وقالت بأنه يتعين التصريح بالكلام . ولكن بقي الحال بدون تغيير . وسارت الحياة سيرتها .

(7)
كنتُ على موعدٍ مع سَفرٍ خارج السودان حتمته الضرورة ،أيام ذيوع أغنية " ما خلاص" لسيد التطريب" عبد الكريم الكابلي ". كان ذلك من بعد عشر سنوات من تلك اللقاءات التي تأتي مصادفة  .كانت " عائشة " قد أكملت دراسة الطب في القاهرة وتخرجت وعملت في مستشفي أم درمان . و" عبد اللطيف " قد أكمل كلية الزراعة في بلغاريا وعمل في وزارة الزراعة ، قبل أن يتحول إلى القطاع الخاص .

مرت السنوات بأحمالها .حمل "عبد اللطيف "شجونه معه أينما سار . نمت معه رومانسية مفرطة الخيال . بيوتها كبيوت الرمل التي كُنا نبتنيها عند الخريف أيام طفولتنا ، أو تلك التي يبنيها الأطفال عند رمل الشواطئ . للخيال عنده فسحة لا تُضاهى ، حلّقت عن الواقع الذي نعيش ، وسافرت نسوره عالياً من فوق الصواعق والبروق .
(8)
من بعد عشر سنوات ، من مسيرة العشق المتعثرة ، وقبل سفري عن الوطن بأيام ،جاء أحدهم في عطلته السنوية من الخليج . مالٌ ومكانة اقتصادية ورغبةٌ في الاقتران بأي أنثى. دخل الوافد سوق الزواج ، سبقته شقيقاته ووالدته تنتقي من الدُرر الأنثوية  الناضجة. يبدو أن منْ صرّح ليس بالعلاقة الخاصة ، بل قفز إلى الرغبة في الزواج !.
من حصيلة الحياة التي نحيا تناقضاتها ، انكفأ القدر واندلق الحليب مسكوباً ، وجاءت الحسرة من باب لم نكُن نتصور له وجوداً .خبر عقد قران "عائشة  " وزفافها جاء على عجل ، فقد تآمر الكون كله ليتشكل المصير في أيام معدودة . غِبنا عن المشهد كي نترك لأبطال الرواية أن يحددا مصيرهما ، وأن يقفا ضد التيار ،لكن  خاب أملنا ، ونزل الحزنُ ثقيلاً  كثيفاً .
قبل سفري بأيام سمعت أغنية " الكابلي "، وكانت حينها رائجة بما تحمل من معاني وقطوف،أخذت من دراما  الحياة جذوتها مثلما أدارت الصدفة أنخاب المسامرة بأغنيات الأمس ، كان " عبد اللطيف " في المطار  لوداعي. قال لي فجأة:
ـ سافرت "عائشة " قبل يومين شهر عسل .
لم أعلق .هبط الخبر بيننا ، كأمثاله من الأخبار  المفرحة والفاجعة في ذات الوقت ، وهي تتكرر تلك الأيام . إنه حصيلة الصدع الذي شق عصا الطاعة ، بما جلبته الحياة الاجتماعية للمهاجرين عندما يرجعون في الصيف . الزواج ثم تأتي العلاقة العاطفية الحميمة أو لا تأتي . عربة قبل الحصان !.وتلك من إسقاطات الماضي ، وهنا المأساة .
ودّعت " عبد اللطيف " و ركبتُ الطائرة . عجولاً كنت أترقب السفر لأخرج، رغم مرارة الحدث مرسوماً على تقاطيع وجه صاحبي  ، فقد كان " عبد الكريم الكابلي " هو مطربه المفضل ، يجد في أغنياته السلوى وغسيل الوجدان من كل أدران الواقع .
(9)
بعد تسعة عشر عاماً .و بعد أن تعرفت على زوج " عائشة " صدفة ،كأفضل صديقٍ قابلته من سلطنة عمان. زرت عيادتها المسائية ذات مساء ، كانت في كامل هندام الطبيب.هذه المرَّة نحيفة أكثر مما كنتُ أتوقع . لم يزل البريق يضيء لحظها . ذات الود الحميم الذي حفظته العشرة السابقة . أزهرت الحكايات من جديد. تبادلنا أقاصيص أحوالنا من بعد تلك الأعوام . عوالم  وأسر تحفر في الصخر وتحديات التغريب التي تقودك من مهجرٍ إلى آخر أكثر بُعداً . صار الوطن طارداً لأبنائه وبناته ،يستدرج البعض للفرار إلى الأمام في بعض الأحايين. طارت العصافير لتبتني أعشاشها للجيل الأول ثم الثاني  . علمتُ أنها ستغادر لأمريكا فالأبناء يدرسون هناك ، واقترب موعد الرحيل الكامل للعالم الأول . ونحن نودِّع بعضنا ،أضاءت عتمة الماضي أغنيةٌ ما كنتُ أحسب أن شاعرها قد نسج مأساة العشق  المذبوح من زمن آخر ومكان آخر ليلامس تُسنامي الماضي الذي  هزم الوجدان. لا نعرف حال " عبد اللطيف " حينها ، فقد ساقتنا المهاجر في راحلة لا ندري إلى أين ستُحلّ بنا آخر المطاف ، فالأنجم في الليل هي دليلنا .تقاطعت المعاني  واشتبكت الأقاصيص ، وجاء التناص مع قصيدة الشاعر " عوض أحمد خليفة" :
ما خلاص نسيتنا وخلّيتنا...
وخلّيناك كمان...
ودّعنا حلو الماضي...أفراحو...
كل الكان وكان...
هجرنا أحلى أمل... سقيناهو دمعاتنا الحُنان...
ما كان نوالفك ...
كُنا نبعِد .. نبعد من زمان .

عبدالله الشقليني
28/12/2013

 

آراء