الجنوب بعيون دامعة

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com



(1)

في داخل أنفسنا ، وفي قاع الضمير . في مكان ساكن في ظلام الذاكرة ، ترقد خلية حافية ، عارية ، مكشوفة عند ذي بصيرة ومغلقة الإحكام أمام المتعجلين إلى الغرض ، والمتمتعين بكسل العقل، والمجردين من فضيلة التروّي والبحث والنقد والصبر على صعابه. وهي الأدوات الذي تُحفزنا أن نقلِّب الأمر مرة ومرات . في كل يوم يمرّ ، نعرف أن دمعات الحسرة على رحيل الجنوب ، ملأت العيون ثم الأكُف ، ثم إناء الشراب  ، وهاهي تنتهي  إلى رافد صغير يكتب المأساة بكل تفاصيلها وتغتسل في مائه أحزان الفراق.

(2)

نعلم أن أهل الإسلام السلطوي في كامل حُللهم السلطانية وفي أفخر هندامهم ،ورتبهم العسكرية التي يكتبونها لأنفسهم، يفرحون بما جرى و يجري في الجنوب السودان.يستعذبون ما يحدث من حروب استئصاليه بين البطون والأفخاذ و العشائر والقبائل بعد أن بدأها المثقفون أول الأمر. وسيجد حُكام الشمال  مبررات الشماتة والضحك السرّي على ما يحدث في الدولة الوليدة، بلويس تعذبون النميمة في مجالسهم الخاصة ، ويدّعون إن الرب قد اقتص لهم من آبار الذهب الأسود التي رحلت عنهم . هذا هو مُخْرَج إنائهم الفكري المجرّد من كل فضيلة. سيفرحون بما آل إليه الجنوب ، رغم أن عينهم على المصالح التي فرطوا فيها والمضار التي تمس مصالحهم قبل الآخرين ، لأنهم تربوا على سرقة المال العام  ، نهباً من عامة الناس ، وسرقة من باطن الأرض لترحل المسروقات لماليزيا استثماراً لحركة الإخوان المسلمين ، في الداخل و التنظيم في الخارج .هم ينتظرون في قارعة الطريق السياسي الاقتصادي ، يمدُّون صحن التسول أمام  وطن جديد يحاول الوثوب من حياة الكهوف إلى حياة القرن.ولم تقم له أجنحة بعد .

(3)

قطعة اللحم الجنوبية الهوى و الرطبة الطرية ، لما تزل في جسمنا الوطني . وأن الانتماء الذي يهرب منه المُنكرون، هو ختمٌ ثابت في دم  السلالة ، ولا فكاك من التباس الهوية ، فقد تعلمنا أن لكل فكر فضائله ، فقد كانفي التاريخ الجاهلي القديم حلفٌ للفضول ، ولأهل السودان أيضاً  أحلاف للفضول يسمونها النفير ,هو بعض إبداع أهلنا في المدائن والأرياف . فلأصحاب المكارم من الأجداد ، باع في نُصرة المستضعفين ، وللتراث الذي يتشبث بقشوره أهل الإسلام السلطوي ،فضائل لا يعرفونها ، لأن لهم في فضاء عقولهم صحارى مُجرّدة من فضيلة الفكر وأبجديات الإبداع ، وحُنو الرفقة والوفاء. إن لأهل الجنوب من كافة النحل والمِلل دَيْنٌ،علينا أن نهب للنُصرة والغوث ، لا بث الشرار من تحت الأعشاش ، وترويج الفتنة ، والتغني بعذابات الذين إلينا ينتمون لحماً ودماً. فلا يستحق نُبلاء الفطرة أن يكون مصيرهم  كالذي نشهد. إن أصحاب السلطة عندنا هم الذين مشوا على بساط العقيدة السمحاء إلى أغراضهم. ركبوا  بغالاً إلى المعرفة كي يصلوا مسرعين إلى الغاية التي تُبرر أية وسيلة لا أخلاقية ارتضوها، وداء أنفسهم جزاء ووبال عليهم وعلينا وقد بلغوا الآن أرذل العمر وحصاد الهشيم . نفوسهم تشع شماتة وتشقى بالحسد، وقد ابتلاهم المولى بتلك العاهات النفسية ، وهي تتضخم  في كل مرحلة جديدة ، وصباح كل يوم تشرقُ فيه الشمس.

(4)

كتبنا في بطن  مقالنا السابق ( الجنوب بعيون محبّة ) :

القلم يتبعُ حديث القلب .
لن يساورك شك ، في أنك ابن الأم الأولى التي تآلفت على محبتها الديانات الثلاث، الشرق أوسطية . شريكة آدم في أفعاله ، وغواياته ، وحب الممنوع . من هذه السلالة الأسطورية القديمة جئنا ، وأسسنا نسيج الأعراق وأمشاج الدفء يحنُّ إلى السكينة التي لا تعرف فصلاً عنصرياً ، ولا تعرف سياج الطبقات .ليس للإنسانية إلا جسور المحبة ، ومن يهدم سياجها فقد كسر الزجاج الملون النفيس، الذي ليس لهمن ثمن . بيدك أيها الطبيب أن تعرف أن الطفولة تشتكي ، وأن العلم جاء ليكون الإنسان أولاً .لست من بيئة تنظر إلى الحياة من علٍ ، كأن الفقراء ضيعة منهوبة من قِبَل الأغنياء . هنا خيط لامع لن ننسى معه اختلاف العرق أو الثقافة أو الدِّين.

(5)

نعلم حجم الحُلم الكبير الذي غزّته رؤى السودان الجديد ، وكيف تقبُل هو فضيلة التنوع الثقافي ، لا رذيلة الاحتراب . لم تتقاطع رؤى صاحب فكرة السودان الجديد ومصالح أهل المكر في الداخل ودول الجوار والمصالح الدولية في الخارج ، بل كانت رغبته العلنية بالترشح لرئاسة الجمهورية ،هو أن يعود بالسودان بلداً واحداً ليُضمّد جراحاته ، ويشفى من حرائق الحقد والغلو والثارات . إن غضبة الأرياف البعيدة التي استشرت من تراكم المظالم والقتل وإحراق القرى والناس والماشية والزرع والضرع ،اضطرتهم أن يمتلكوا وسائل الدفاع وآلات الحرب. مُعضلة تسهمُ في الحلّ وهزيمة الإخوان المسلمين ، كما تسهمُ أيضاً في تعقيد القضية الكبرى التي تنتظر . وآلات الحرب  ليست حديداً أصمّ ، بل كائنات تؤثر من أنفس مستخدمها و في مسلكهم. وتمتلك فضاء غضباتهم وتوجّه عواطفهم ومشاعرهم  في دروب القسوة ، وتعينهم على الاستفراد بالرأي ، لأن للقوة المُكتسبة سلطان أكبر من كل المحاذير . لذا تشيِّد الأمم جيوشَها ، وتصمم إنسانها المقاتل ، على طريقة أخرى غير التي يحيا المدنيون . تصنع لهم أسس وأبجدية  منهاج ، وكوابح كي لا تنفلت القوة.

(6)

ليس لدينا إحصاءات نرتكز عليها في أية دراسة  أو أية معرفة نبتغي، فسيطرة " الجهل النشط " طوال ربع قرن من الزمان، أعادتنا إلى الفوضى وبسطة الهمج ،عندما يمتلكون جبروت السلطة بدون المؤهلات .لم يترك  الإخوان المسلمين سبباً واحداً يمنعالسقوط الحر إلى قاع الفشل.و لن يستطيع من له صندوق عاقل أعلى كتفيه إلا أن يتعرف على الخسائر الكبرى ومآتم الوطن ، الذي يرحل مُبدعيه قبل الآخرين، ويحيا الأشقياء ، وهم يديرون دفة الحكم ، والاقتصاد ، والتعليم ، والهندسة ، وكافة النشاطات داخل الدولة بأذهان خالية من ابجديات الفكر والثقافة والعلم . وقمة مهازلهم أنهم  كانوا يريدون أن يلوثوا مصطلح " الحضارة " لينسبوه لأنفسهم !!. وتلمسوا كيف يُدار الحكم مع اتساع الدولة ، فقالوا هو"الحكم الفيدرالي "!. فكانت التجربة منذ بدايتها في التسعينات وإلى انسداد أفقها ، مع تضخم العبء المالي وانفراط الضبط الإداري وسيادة العبث بالقوانين و ضعف مؤهلات المسئولين ، فانهزم المشروع ، ففروا من سيرته فرارهم من المجزوم .بقيت السلطة المركزية الشمولية،تأمر وتقرر، وتنصب الولايات عصابات النهب المسلح الرسمية عند بوابات الطرق لدفع فواتير الإخطبوط الإداري المُترهل . لا أحد يعبأ للقوانين أو الأخلاق ، "فالنظام العام " مغمَض العينان ، لا يصحو إلا في مواجهة الأزياء النسائية والخلوة الشرعية ومعظم الإسفاف اللفظي الذي تفضلت بها الإنقاذ ! . أسلمت فدرالية  دولة الإخوان الروح. هؤلاء لم يعرفوا كثير شيء عن مصطلحات الحكم  والإدارة والتمثيل  النيابي  أو آلية الانتخاب أو البرلمان أو الفصل بين السلطات ( التنفيذية والتشريعية والقضائية )، فتخبطوا من تجربة فاشلة إلى أفشل منها .لم يتبصروا الطرائق المناسبة لحكم الأرياف ، وفي ذات الوقت ،لا يتركونها تحكم مناطقها  . لأن فاقد الفكر ، لا يعرف كيف تُدار الدنيا من حوله . ويصل كأس الفشل المُر إلى كل مذاق و يجلس أمام كل الموائد ، شراب الإخوان المفضل  . وحدها القبة الأمنية والتدريب العسكري للمنضوين للتنظيم ، والطاعة التامة لأولي الأمر هي مناهجهم من أجل البقاء .عقول خفف بريق جواهرها الطاعة دون التفكير و تنفيذ الأمر دون المراجعة . فالمراجعة والنقد والجدل ، يحسبونه كفر أدخله العلمانيون ليقصموا ظهر العقيدة !.

(7)

سؤال كبير  يعيد نفسه ويراوح مكانه دون إجابة  :
من أسهم في بقاء الإسلاميين على سُدة الحكم رغم الفشل المستدام، طوال ربع قرن ؟
قبل أن نُفكر في الإجابة ، نتعرف على تقاطيع تاريخنا ونتوقف عند الطوائف التي حولت المريدين إلى رصيد حزبي ، ثم  تحولت المحبة إلى عبودية ،مع  تقديس سلالة مؤسسي الدّين الشعبي، منذ أن قدم البلاد في بداية القرن الرابع عشر الميلادي . وابتنى للفسائل تربة و تمكنت من خلاله أن تبتدع من السلالة آلهة تصنع ما تشاء ، واتخذها الورثة مطيّةً للوصول إلى السلطة الدنيوية على أكتاف محبة البسطاء لهم .فكانت ديمقراطية الصندوق وتقاطعه مع آلية ديمقراطية " وست منستر " ، هو خير وسيط . والتمسك بها أيضاً  خير وسيلة للبقاء ولا تحتاج في نظرهم  تطويراً أو تعديلاً . فالطائفية صارت صناعة سياسية  دينية ،تختلط فيها العواطف بالانتماءات وبالانتخابات بلا برنامج : زعيم الطائفة يوجه ، وينصاع الجميع !!.
للطائفية جماهير ويحتاج دراسة دقيقة وإحصاء عن تلك الولاءات: حفر ورصد وإحصاء .فالانتماء للطائفة قضية وعي وتعليم وثقافة وميراث . كلما تراجعت بانتشار التعليم ، جاءت الحكومات الشمولية لتُعيد لها الروح من بعد احتضار، وتسترد  الطائفية عافيتها في كل مرحلة بالديمقراطية "الشكلانية" التي تتخذ الصندوق وسيلة وغاية !.

(8)

لبست الطائفية أثواب الديمقراطية وحكم الجماهير . تدعي أنها ضد الشمولية وحكم العسكر . وكشفت دولة الإخوان المسلمين  الدينية السلطوية عن سافر وجهها ، إذ جاءت بوثيقة الوهابية الدينية المتشددة وسيلةً لخطف الشعار الديني من أصحاب الطوائف وزايدتهم بشعار "شرع الله " . وعرفت أن قيادات الطائفية ناعمة النضال ، لينة اعتاشت في الدعة ، ونمت في الرفاهية ، فعرفت أنهم بالمال يمكن أن يشترونها لتنصرهم عند الحاجة  في المشروع الدولة،التي صار مصيرها الفشل آخر المطاف، بالصمت أو بالسيطرة على غضب الجماهير أو بكسر التحالفات أو بالدعوة لهبوط السلطة كما تهبط ألواح الزجاج و لا تنكسّر ! . بهذا الفعل ، التبس على الجميع مواقف الطائفية وقادتها الرماديين، وانكسرت شوكة الانتفاضات قبل أن تأتي أُكلها . وانهزم الفعل المقاوم الذي كان يهدف اجتثاث " سلطة الإخوان المسلمين وأذنابهم " وهزيمة الدولة  الفاسدة وأصحابها غير المؤهلين ، الذين استعانوا بقادة الطائفية لكسر مقاومة الوطنيين الشرفاء ،الذين هبوا يهدفون أن يصبح السودان وطناً لكل أبنائه وبناته ، وأن تسود كل الثقافات وتتنوع الدولة برحابتها وتسود العدالة والشفافية ، فالشرفاء هم الذين يطالبون بأن يرتقي السودان بالعلم وبالمعرفة وبالشفافية والعدالة والتسامح ، وأيضاً بكتابة قوانين حيادية تتوسط رغبات الجميع ، لتنال كل ثقافة حقها في البقاء ،مُكرمةً مُعززةً ،وتنتهي إلى الأبد أساليب الحصر والرصد و التعذيب والقتل للمختلفين ، وإباحة التمكين والنهب لمصلحة الأتباع !.
زعماء الطائفية هم الذي أخّروا نهاية الدولة الإخوانية الدينية، بحربائية التنقُل ، وهدم التحالفات ورمادية المواقف . بالصمت حيناً ، وبتفتيت التضامن أحياناً أخرى ، أو الهرب خارج البلاد عندما يحتدم الصراع، ليغسلوا أيديهم من مسئولية التظاهر ضد الدولة حتى لا ينقطع الحليب الذي يشربونه بسريّة .ووصل الأمر بسلطة الإخوان المسلمين أن يغتالوا الشباب وتجاوزوا بذلك كل الخطوط الحُمر وأسرفوا في إهانة جموع الشعب بُغية إذلاله . فرفعوا بذلك سقف التضحيات : (351) شهيد حقيقي ثمناً للبقاء فترة أطول .
انتهت الجولة ... ،ولم تنته المعركة  ؟!

عبد الله الشقليني
2/01/ 2014

 

آراء