في الذكرى الثامنة لرحيل الزعيم الشاب محمد إسماعيل الأزهري

 


 

 




د. محمد عثمان الجعلي   دبي
Jaaly1999@yahoo.co.uk

مقدمة بائسة في حق رجل جليل الشأن:

في 24 ابريل 2006 اختطف الموت الزعيم ابن الزعيم ...رحل محمد في شرخ الشباب وقد بدت عليه آيات القيادة والزعامة ...فجعت فيه أمة من اهل السودان رأوا فيه بعض آمالهم في قيادات شابة تنير دربها لخلاص وطني طال انتظاره ..رحل محمد  وبقى حالنا يغني عن كل سؤال.

ايها الزعيم الراحل خلسة لا أجد كلمات تسعفني في مقام الذكري هذه سوى أن أستزيد من كلام عبد الصبور الذي ردده على مسامع الشعب السوداني مؤخرا أستاذنا الدكتور عبد القادر الرفاعي وهو يؤبن "سمح الخصال الخايلة فوقو العمة" شاعر الشعب وصداحه الأعظم محجوب شريف:


"نحن لا ننسي
ولكن طول الجرح يغري بالتناسي
في شتاء مقفهر الوجه قاسٍ
وفي عقبيه ما يأتي خريف مجدبٌ
دون نداوة
وتعري كفه العالم من كل بهاء وحلاوة
حينما ينقلب التذكار عبئاً وعذاباً وقصورا
وبكاءاً اخرس النبرة وحشياً ضريرا
حينما يلجئونا الحزن الي بطن الجدار
كي تسفي فوق تراب الموت زهرة
زهرة ميتة طال عليها الاحتضار
لا نري الا التناسي مهرباً من موتنا
موتنا القادم في وضح النهار"
في مثل حالنا واحوالنا هذه لا املك وانا المفتقر إلى رحمة مولاه سوي أن أبذل ما كتبته عند رحيلك "
محمد عثمان الجعلي
دبي


أيا قميص يوسف في أجفان يعقوب

محمد الأزهري: كان بدري عليك

د. محمد عثمان الجعلي/دبي
Jaaly1999@yahoo.co.uk

(كلمات في وداع عازف الأوتار السياسية ومرتجى الآمال الاتحادية الشقيق الاتحادي الرفيع، والصديق المبدع البديع محمد إسماعيل الأزهري غشت قبره شآبيب المزن الهطال غفرانا ورحمة)

"إقرعي في عتمة الصمت المدوي
يا نواقيس الرياح الأربعة
عل ذاك الميت يصحو ويغني
تحت شمس مبدعة"

(محمد عبد الحي: نواقيس الرياح الأربعة: ديوان حديقة الورد الأخيرة)

المواقيت والسرادق والمنشدون:
كسنن الأفلاك والشموس والكواكب تتناغم حياتها ودوراتها ورحيلها مع تراتيب العلامات والمواقيت والمواعيد ...رحل محمد إسماعيل الأزهري والمسلمون يواصلون احتفالهم واحتفاءهم بميلاد سيد ولد آدم محمد بن عبد الله عليه السلام...رحل الشاب الموعود بالمجد والسؤدد والزعامة وتلك سنة الله في خلقه وذاك سبيل الأولين والآخرين.

رحل محمد ليذهل خلق ويتجرع أهل الرجاء كؤوس حزنهم وترفع الأكف بالدعاء الصادق بالرحمة والمغفرة لعريس المجد الراحل خلسة ...يرحل الزعيم الشاب وأهل الإنشاد يواصلون مديحهم للمصطفي عليه أفضل السلام ناهلين من حياض أهل الإشراق آخذين من عيون أبيات الإمام الأكبر سيدي محي الدين بن عربي:
ألم تر أن اللهَ أسرى بعبدهِ من الحرمِِ الأدنى إلى المسجدِ الأقصى
إلى أن علا السبع السمواتِ قاصداً إلى بيتهِ المعمورِ بالملأِ الأعلى
إلى السدرةِ العليا و كرسيه الأحمى، إلى عرشه الأسنى إلى المزدوى الأزهى
إلى سبحاتِ الوجهِ حتى تقشعت سحابُ العمى عن عينِ مقلتهِ النجلا

رحل محمد في هزيع ليل حالك السواد فمحق البدر قبل تمامه ...رحل الأزهري ليجزع خلق ويتساقى المتشوفة كؤوس يأسهم وقنوطهم ومن ثم يكون استغفار ودعاء فتلك إرادة الله ومشيئته ...رحل الأزهري ليواصل أهل الحضرة مديحهم لأشرف خلق الله للمصطفي عليه أفضل السلام وأصفيائه الأولياء آخذين من بديع قصيد الشيخ العارف بالله عبد الرحيم وقيع الله (البرعي) في مدح الأستاذ الكامل والبحر الشامل إسماعيل الولي الكردفاني:

إن ناب خطب فى البلاد نزيل فقل يا ولي الله إسماعيل
قطب الوصال الكردفاني الذي من ربه قد حفه التبجيل
وله جنان بالمعارف مفعم وعليه عقل راجح وثقيل
عيناه ساهرتان إن جنّ الدجى ومنامه نصف النهار قليل
أقضى عن الدنيا وعن زهراتها لا للتكاسل والملاهي يميل
أخلاقه تزن الخلائق رأفة يعفو ويصفح عنهم ويقيل
في داره المسكين أمسى مكرماً وعلى الكرامة بالنهار يقيل

رحل ابن الزعيم وحفيد الولي والساحة السياسية الاتحادية تمور بكل "جلجلة وشيتن يحير" كما قال ود الفراش..رحل الشاب وقد نذر نفسه ،بمعاونة العصبة من أولي العزم، لرتق الفتق الاتحادي ..لم يدخر جهدا ولا وسعا ...كان يواصل يومه أصباحا وعشيات سعيا لأنجاز المهمة المستحيلة مستعينا بشبابه وثقة البشر وببيت أبي الطيب المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي

ذلك اليوم المشئوم سواد الليل لم يشفع له ولكن بياض الصبح أغرى به وقد فعل...راح الشاب في شارع "سيدي علي" ...والموت يطوف بالمكان رب هاتف بعيد كان يسمعه تنغيم "البراك" حزينا أسيفا يردده خلفاء الختم ود سيدي عثمان برمكي أشراف مكة:

أيا سيد الرسل الكرام بلا مرا أيا خير من عبد الإله على حرا
إليك التجائي حين يذهل الورى وفي دار دنياي وفي يوم محشرا
فإنك ملجأ للأنام تحفظ

أجرني إذا عدت ذنوبي من البلى وأدنيني في الحضرات منك مبجلا
وأشهدني نور الوجه في كل منزلا بدنياي والأخرى دواما على الولا
ورقيني مع أهل الكمال الموعظ

حزن في جوف حزن ...ألم في باطن ألم ...يا رحمة الله الذي خلق الإنسان في كبد ...فقد ليس بالهين ولا باليسير ولكنها إرادة الله.

بالرحيل المباغت لمحمد الأزهري ينهد ركن من الرجاء متين وحائط للعشم الاتحادي كبير ... كان مشروعا لزعيم كبير ومختلف ليس للإتحاديين وحدهم بل لأهل السودان ...هذا رجل نشأ في كنف أبي الاستقلال ومعلم الأجيال ..أخذ من "لابس بدلة الدمور" الكثير ..أوضح ما أخذه عن "الماستر" التواضع الجم والأدب الوفير والذكاء الوقاد ومهارات التواصل والاتصال والصبر على الناس وأذاهم ... شاءت له الأقدار أن يضطلع بمسئوليات "بيت الأمة" وهو من بعد غض الإهاب واسع الأماني فأظهر صلابة الرجال وحكمة الشيوخ في تدبر الأمر وتدبير الأمور فوصل وواصل وأوصل ...قدراته في التواصل الحميم مع الناس باختلاف منابعهم ومراتعهم وقدراتهم هي صك بنوته للأزهري إسماعيل ذاك الذي وهبه المنان قدرة أخذ الأنوار بدون سلوك رغم وفرتها طريفاً وتالداً ...حلمه وصبره على مكاره السياسة ومكائدها أدخلته زمرة حواريي أيوب ... أفل ذلك النجم القطبي الوقاد والناس في حلكة التيه يعمهون ...إنحرفت العربة فتاهت الخطى وضاع الأمل وانسربت منا نسمة الصيف الباردة والدنيا قيظ وسموم.

رحلت إذن محمد؟...رحمة الله تغشاك وصبره وسلوانه يغشيان من تركت خلفك في "بيت الأمة" ودار الاتحاديين ومنازل أهل السودان.


الأزهري والقيادة الإبداعية و"الخلدونية المضادة":

"فلا يتوهمن جيل العطاء (والإشارة لعمل ود المكي الكبير في الأكتوبريات) أن مهمة الإبداع سهلة، وطريق الابتكار سالكة، إنها شحنة من التوتر والعناء والفعل- الفعل الآمر الناجز في شعر التيجاني:
"فتخير وصف وصور رؤى الوحي وصغ واصنع الوجود المغاير"
(محمد إبراهيم نقد: علاقات الرق في المجتمع السوداني: 1995، صفحة 1)

ألا ما أصدق كلمات نقد وما أقسى شروط الإبداع كما عبر عنها العبقري التيجاني وما اندر القادة القادرين على الوفاء بشروطها...فجيعتنا في فقد محمد أن رحيله قد وافى وبعض سمات ومواصفات القيادة المستقبلية لديه قد بدأت تلوح مظاهرها..وهنا الفقد الفاجع والجرح الذي قد تعز مراهمه...إن أزمة القيادة الاتحادية ليست طارفة بل كانت نتيجة طبيعية للتكوين، ومن ثم التطور، "الأوليجاركي" للقيادة الاتحادية منذ نشأتها كما لاحظ أحمد خير في "كفاح جيل" ...القيادة الاتحادية في هذا السياق ليست استثناء فمجمل الحركة السياسية السودانية ظلت تتسم بصمدية الرأي وأبدية القيادة ...تأمل المشهد السياسي حولك يسارا ويمينا .. حداثة وتقليدا...نفس التكوين وذات النهج في القيادة.

بالنسبة للقوى الاتحادية استفحلت أزمة القيادة في أعقاب إنقلابين مشئومين منعا التطور الطبيعي للكوادر الاتحادية القيادية...أكثر من ثلاثة عقود من الديكتاتوريات العسكرية الجبروتية كانت كافية لقطع نسل التطور التلقائي للقيادات الوسيطة والفاعلة في أوساط القوى الاجتماعية المتجددة بفعل التطور الكبير في بنيات التعليم والحراك الاجتماعي والتفاعلات المتعددة على كل الصعد...حكم العسكر شكل حاجزا حال دون ظهور وتطور القيادات الاتحادية وأضحى البون بين قيادي أصيل صاحب رؤية وآخر بعثة نبي.

طوال العقود الثلاث الماضية ظلت الحركة الاتحادية تبحث عن قيادات شابة ،قادرة وفاعلة لها مهارة تجسير ماض عريق عبر هضمه ومن ثم تجاوزه في خطاب جديد جاذب لأجيال ما بعد الانتفاضة ..إن أزمة الحزب الاتحادي الديموقراطي الحقيقية تتجذر في غياب القيادات الملهمة القادرة على استنهاض الهمم من خلال طروحات تزاوج بين عراقة الماضي وتحديات الحاضر ورؤى المستقبل ...نعم، ما تحتاجه الحركة الاتحادية ليس سهل المنال بل يأتي عبر لحظات تاريخية مواتية من أفراد موهوبين لهم وشائج إبداعية وقدرات الأمساك المستحيل بالمتناقضات ...في الراحل الكبير كمنت بعض متطلبات هذه القيادة وبانت بعض تباشيرها.

محمد الأزهري لم يركن للموروث كمنصة إنطلاق وحيدة للقيادة ولا توسل بنسبه للمطالبة بها رغم أنهما مكونان حقيقيان لأي تطلع للقيادة في مجتمع بطريركي كالسودان وفي حزب كالأتحادي الديموقراطي ...ولكن قيمته المضافة كمشروع قائد حقيقي أخذت بسبب وأسباب تتصل بإسهاماته ومواهبه الإبداعية المعروفة ...كان اجتماعيا من طراز فريد كما كان ميالا للاستزادة الثقافية وكان موسيقيا متقدما ....لربما تمكن - في ظروف وأحوال أخرى أكثر مواتاة - من تحقيق حلمه الأزلي في بعث النهضة الفكرية للحركة الاتحادية.

ضمن مجموعة خيرة من الاتحاديين تركزت حواراتنا مع الراحل الكبير حول بعث الحزب الاتحادي على قوائم مشروع نهضوي يستشرف المستقبل ...من عجب إن حواراتنا اتصلت بذات الحميمية والتقدير والمودة رغم وقوفنا في مربعات متباينة داخل رقعة الشطرنج الاتحادية ...ولعل المقولة المركزية في هذه الحوارات كانت حول سبل الفكاك من الماضي الذي أضحى بعبعا حقيقيا لمحاولات التجريب الأستشرافية ...عقبات كثيرة حالت دون تطور السياق الفكري للحركة الاتحادية...هذا حزب له في مدارسات ومناقشات قادة مدرسة أبي روف وشائج مع الفكر العالمي ومحاولات تجريب فكرية أبرزها البرامج الإصلاحية الراكزة على مفاهيم الفابية الإنجليزية.. إن محاولات الاتحاديين في الأربعينات لابتداع أسس ومرتكزات فلسفية كموجهات لعمل الحزب بعد الأستقلال تمثل رؤية متقدمة على مستوى المنطقة لصياغة مشروع وطني نهضوي. الاتحاديون (استنادا على التطوير الفكري لمدرسة أبي روف) ركزوا على مباديء وقيم تشمل : التوزيع العادل للثروة بين المواطنين، تعميم الجمعيات التعاونية للمزارعين والعمـال، تحريم النظم الإقطاعيـة، تشجيع الملكيات الصغيرة في الأراضي، تحريم الاحتكار، وتسليم المنافع العامة كالكهرباء والمياه ووسائل النقل للبلديات لتدار للمصلحة العامة، توفير فرص العمل لكل القادرين، وإدخال نظام الضمان الاجتماعي ضـد العطالة والمـرض والشـيخوخـة...هذه كانت بعضا من مرتكزات العمل الفكري الاتحادي قبل ستين عاما فتأمل.

تاريخيا تنكب الحزب مساره حين اندحرت مدرسة أبي روف الفكرية (وحزبها السياسي – الاتحاديين قبل إنقسامهم لإتحاديين واتحاديين أحرار ) تحت سنابك ودهاء وبراغماتية "الأشقاء" ....بتراجع أثر "الاتحاديين" والاتحاديين الأحرار" دانت السيطرة للأشقاء وأعلنت نهاية حقبة فكرية هامة ...ما لم تنتبه إليه الأجيال الاتحادية اللاحقة (أو تنبهت له ولم تعره اهتماما) أن الحزب في تلك الفترة كان قد فقد بوصلته الفكرية وذراعه الثقافي.. بوجود أمثال محمد وبما كان لديه من اهتمامات كان الأمل كبيرا أن تبعث حركة فكرية للحزب تخرجه من إسار الفعل العاجز القائم على الخواء الفكري.. خلافا للكثير من القادة الاتحاديين كان للراحل الكبير اهتمام كبير بهذا الجانب الفكري ...صحيح إن العمل الإجرائي الحركي اليومي قد استهلكه كثيرا ولكنه كان حريصا على مواصلة الحوار في الشأن الفكري...في إحدى لقاءاتنا الحولية نبهته إلى مضار الاجتماعات المتواصلة وغير المجدولة والقائمة على الحكي والاجترار ..قال إنها ضريبة العمل العام الاتحادي ....ذكرته بكلام ذكي لطيف للأستاذ محمد إبراهيم نقد أورده في كتابه المهم "حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"...قال نقد نصا :""فمن مناقب المشتغلين بالسياسة في السودان، إن لم يكن من مؤهلاتهم ، أن يتغذى الواحد منهم من سنامه الثقافي الذي بناه قبل التفرغ لتعاطي شئون السياسة ...لكنه قد يعاود القراءة إن اختزن عادتها، في ظروف تعتبر استثنائية في البلدان المتحضرة، وتعتبر في السودان "ضريبة وطنية" تحصل قسرا بواسطة القوات المسلحة، اعتقالا ، أو سجنا أو اختفاءً، أو الثلاثة معاً"....ذكرت محمد بهذا وقلت له أمازحه :"حين يأتي الوقت لن تجد سناما تتغذى عليه وستصبح كغيرك ممن يؤذون الناس بالحديث الطويل الممل الممجوج الذي إن ظللت "تخشه" وتعتصره حولا كاملا لن تخرج منه بمثقال زبدة!"....اكتفى بالأبتسامة رداً!

في سياق متصل تشير الشواهد إلى أن الحركة الاتحادية ظلت في حالة كمون وبيات شتوي طويل تبحث عن محرك فاعل فيها ل"خلدونية مضادة" تتفهم الماضي ...تقف منه موقف الناقد العارف لتتجاوزه .."الخلدونية المضادة" ابتدعها المفكر الكبير عبد السلام بنعبد العالي واستخدمها في سياق تعليقه على الذكرى الدورية لميلاد العلامة سيدي عبد الرحمن بن خلدون ...يقول بنعبد العالي :"إن إحياء الذكرى لا يقتضي الوقوف على التأثيرات وتقصي الآثار، لكنه لا يقتضي بالاولى تمجيد الماضي وإعلاءه بحيث يغدو جاثما بثقله على الحاضر. إحياء الذكرى هو أن نجعل الماضي ينفجر اندفاعة نحوالمستقبل، تفتحاً على المستقبل بطبيعة الحال، ولكن أيضا وفاء للماضي"... بانتظار اكتمال عدد وأدوات محمد إسماعيل ورفاقه كان الأمل أن تتكون لدينا بؤر الحراك الفاعل للمزاوجة بين تاريخ الحركة وحاضرها ومستقبلها ...بل لعل رحيل الرجل يمثل انتكاسة كبيرة لمحاولات جادة لإعادة النظر في موقف الاتحاديين من تاريخهم السياسي الجاثم فوقهم بلا رحمة .

لقد ظل وقوف الاتحاديين الخاشع امام التاريخ الاتحادي كإرث إيجابي في مجمله هو "كعب أخيل" التطور السياسي للحركة الاتحادية...لقد ظل هذا التاريخ (بحسنه وقبيحه) عند الكثير من الإتحاديين أمانة تاريخية لا مكان فيها لجرح ولا لتعديل ...إن جيل ما قبل الأستقلال وجيل "حررت الناس يا اسماعيل" وجيل "حريق العملة حريق الشعب" لا يزال يعس ويحرس الإرث الاتحادي ككهنة آمون .... هؤلاء الاتحاديون كانوا في حاجة ماسة لمن يهز النخلة الاتحادية علها تأتينا ،والسودان ، بالرطب الجني والفكر الرطب وكان يمكن لمحمد الأزهري أن يسهم بقدر كبير في هكذا مسعى يحتاجه الحزب وتحتاجه البلاد لشق طريق جديد للوسط المأزوم يلبى طموحات أهل السودان ويدرأ عنهم تغولات التطرف وغول الإنقلابات العسكرية.

بدون إعمال "خلدونية مضادة" يتبناها قادة إبداعيون من طبقة الأزهري محمد ستظل الحركة الاتحادية حبيسة ماض ولى دون رجعة وحقب إندثرت وتاريخ أضحى كباقى الوشم في ظاهر اليد.... بدون إرادة سياسية واعية قادرة على بعث جديد للفكر الاتحادي ستظل كتائب "تحرير لا تعمير "تحرس مومياء الحزب وهي تخاطب أجيال التقنية الرقمية بلغة ما قبل مايو وما قبل يونيو ...سيظل هذا الإرث الاتحادي عند بعضهم شيئا من "تابو" مقدس يماثل شيئا من "عجل بني إسرائيل"..حينها لن يندهش أحد والمراقبون يرددون قول الآخر:

حينَ تهتَزُ العُقول
رُبَ ذي لُب يقولْ:
أعُجول ٌ في قلوبٍ
أمْ قلوب ٌ في عُجول؟

محمد إسماعيل هنا كان مرتجي نزالك وساحة جهدك الخلاق ....ولكنها ليلة ظلماء وبدر مفتقد في عام رمادة أغبر.

المبدع الرؤيوي:عازف الأوتار سياسيا

"أعلق في جناح سفري
خطابات لي زمن فجري
وأدخل من درب سري
لكل مضاجع الأحزان
وأضفر من شجر بلدي
بروقاً مارقة من صدري"
(عمر الطيب الدوش: وطني)

من إشكاليات الحركة الاتحادية اتساع الفجوة بين الاجيال ...هناك حقيقة مشكلة اتصال (وتواصل) لغة ومضمونا ...لقد بعدت الشقة بين الأجيال وصعبت المجايلة إذ اختلفت الرؤى والتطلعات وسقوفات التوقع ...هناك قطيعة ليس بين الفصائل فحسب بل بين أجيال ذات الفصائل ...الأجيال الراهنة والفاعلة آنيا ومستقبلاً بعد البون بينها واستقلال السودان ومجاهدات الاتحاديين ...من كان ميلاده مع انقلاب الإنقاذ يدق على أبواب الجامعات هذا العام ...من منهم يعرف تاريخا للحزب الاتحادي الديموقراطي؟.

إضافة محمد إسماعيل الحقيقية( والتي كان المأمول أن تنضج عبر التجارب) أنه –خلافا للكثير من القيادات الاتحادية الأخرى – عمل بأدوات مختلفة في فضاءات مغايرة ... مستعيرا بعض العبر من إرث "مدرسة أبي روف" الفكرية في ثلاثينات القرن الماضي، احتقب الزعيم الشاب المعينات الثقافية والفنية زادا للعمل السياسي واستخدمها ببراعة في مخاطبة قطاعات واسعة من الشباب والطلاب..بدأ في الجامعات والمعاهد العليا .. جهده وجهد الآخرين من القيادات أثمر اتحادات طلابية اتحادية متعددة لأول مرة في تاريخ الحزب... الدلالات الكبيرة والخطيرة لهذا الأمر أن هؤلاء الشباب صعدوا رؤاهم وفكرهم السياسي فقط بمساعدة بعض القادة المستنيرين أفرادا ودون سند فكري مؤسسي......محمد إسماعيل الأزهري كان في صلب الدفع الفكري لهذه الشبيبة وسندا كبيرا لها .

كان للراحل الكبير اهتمامات كبيرة بالثقافة وكان من جانب آخر مبدعا حقيقيا في مجال الموسيقى والتي آخذها عليه متبلدو الحس بأنها نقيصة ومذمة ... ككل طليعي رائد كان لا بد أن يجابه سلسلة الاحتجاجات والأعتراض ....نعم ، تساءل بعضهم كيف لابن الزعيم وحفيد الولي ومرتجي الآمال الاتحادية إن يضرب دفاً أو أن يحرك وتراً... هؤلاء لم يسمعوا آراء شيوخنا شلتوت والنابلسي ..في عمله الراقي "زرياب وأهل الوساوس؟" حاجج منصور خالد متفيقهي أهل زماننا ممن يحرمون السماع بقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" : "من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلاظة الطبع وكثافته عن جميع البهائم فإنها تتأثر جميعها بالنغمات".

من أراد أن يسلب الزعيم الشاب من مواهبه الموسيقية لم يدرك أنها، وغيرها من المواهب الإبداعية لم تكن في يوم سببا في حجب زعامة ولا جرح قيادة... القيادة والمسئولية السياسية لم تمنع إدوارد هيث عن قيادة الفيهارمونيكا البريطانية ولم تقف حاجزا عن قيادة الملك المستنير الحسن الثاني للفرقة الموسيقية المصاحبة لعبد الحليم حافظ ... فاتسلاف هافل اعتلى سدة الحكم في تشكيا عبر المسرح وقوافي الشعر ...هوفل لم يحارب النظم الشمولية بالدبابات ولا بالعمل السري ... كان كاتبا مسرحيا وشاعرا بارزا وقد أقلته مواهبه الإبداعية لسدة الحكم في بلاده ....ونستون تشيرشل بكل جبروته وحروبه من "حرب النهر" ضابطا صغيرا في جند الفريق هربرت كتشنر وحتى الحرب العالمية الثانية كان يجد السلوى والإلهام في الفن التشكيلي حيث خلف إرثاً راقيا.

الإبداع الموسيقي لم ولن يكون عائقا أمام القيادة السياسية بل قد يكون خير زاملة تقل صاحبها للناس ولثقافتهم ولهويتهم... القيادة كعلم له أصول تنادى بل تؤكد على قيمة دراية وعلم القائد بخائص وسمات من يقودهم ...من أراد ان يقود الجماعة فليعلم ثقافتها ومكونات هويتها وجوانب خصوصيتها ...ومن أراد قيادة أهل السودان فليعلم ،ضمن ما يعلم عنهم، نغماتهم وغناءهم فهذه في صلب ثقافتهم وهويتهم... الاتحاديون ليسوا استثناء من أي نوع بل على العكس تماما...أجمعهم على صعيد واحد ودع نغمات "صه يا كنار" وكلماتها الراسخة تملأ الفضاء وانظر ماذا ترى؟؟....أنها تفعل الأعاجيب في الشيوخ والشباب سواء بسواء...محمد الأزهري طور الاحتفالات الاتحادية السنوية بإدخال الكورال كأحد أهم أجندة العمل السياسي الاحتفالي....وفي هذا كان الراحل يجاهد لإستعادة مجد سابق ....إن القاريء الفاحص لتاريخ الحركة الاتحادية لن يغيب عنه أثر الفنون جميعها في رفد العمل السياسي بمقوماته التي نعرف ...إن أشعار على نور ومحمود ويحي الفضلي وخضر حمد (إلى العلا) ومحي الدين صابر (صرخة روت دمي) و"النسر" الصاغ محمود أبو بكر وألحان إسماعيل عبد المعين في "صه يا كنار" كانت روافع وروافد للتيار الوطني بذات القدر الذي كانت فيه مذكرات "لابس بدلة الدمور" سيدي الأزهري إسماعيل للحاكم العام وقودا لها.

وجود الأورغن في صالون "بيت الأمة" يمثل علامة نبوغ سياسي وليس فنياً فقط ...من يريح أعصابه من "غلبة" الاتحاديين بالتأليف الموسيقى والتوزيع الكورالي أحق بأن يفسح له في مجالس القيادة والرئاسة وأجدر أن يسمع في المنتديات السياسية كما الفنية كما الاجتماعية فالإبداع رافعة القبول ووسيلتها من بعد...ففي التحليل الأخير يبقى الإبداع" (كما "البلادة"!) كل متكامل لا يتجزأ.

رحم الله محمد الأزهري ... كان يعلم تماما وهو الموسيقي الموهوب أن "التخت" الاتحادي يعاني من النشاز وعدم التوافق ...كان كل فصيل اتحادي يعزف ما يحب من ألحان وفق ما تهيأ له آلة وما دروا أن توافق الألحان في هارمونية مستساغة هو سبيلهم الوحيد لأسماع وعقول وقلوب من يخاطبونهم ...الأزهري الراحل حباه المولى موهبة "الدوزنة" وكان الأمل كبيرا أن يقود فريق عمل ينهد لجمع الصف الاتحادي في نسق يحقق هارمونية الصوت وتفرد الأداء ولكن كان الموت أقرب .

كلمات الوداع: قميص الأزهري وأجفان الاتحاديين الكليلة:

في وداع أمثالك يا محمد يحرن القلم وما عهدته إلا سيالا ويتوقف النطق وما خبرته إلا دفاقا ..كانت الآمال كبارا بقدر ما حباك المولى من مواهب ...كان المرجو أن تسهم في طبابة علل الاتحاديين وأهل السودان ...أهلك الاتحاديون عانوا كلل البصر وأدواء البصيرة وكانت آمالهم أن تكون لبصرهم الكليل كقميص يوسف في أجفان يعقوب عليه وإبنه السلام ...وكان المرجو أن تسعف البصائر الاتحادية برفد وقبس من فيض فكرك ولكنها الآجال ولكل أجل كتاب.

عند جلال الموت وحده يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى...عند رهبة الفراق الأبدي يقف الناس عند عتبة ما زاغ البصر وما طغى ...يسألون الله الرحمة الصبر والسلوان ...في وداعك يصطف الاتحاديون كلهم.... كلهم ...كلهم ...مآقى باكية وقلوب منفطرة وألسن ذاكرة لله وأكف ضارعة وهي تلحف في الدعاء:

اللهم اغفر لمحمد إسماعيل الأزهري وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نُزُله ووسع مُدخلهُ .. واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة... اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده.

اللهم إن محمدا بن إسماعيل الأزهري عبدك وابن عبدك وابن أَمَتِك احتاج إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، إن كان مُحسناً فزده في حسناته، وإن كان مُسيئاً فتجاوز عنه.

اللهم إنه في ذمتك وحل بجوارك فقه فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد ...اللهم فأغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم.
وداعا محمد إسماعيل ..وداعا أيها الزعيم والصديق الراحل خلسة .........وداعا:
يا كابنا وكنزنا وعزة بهانا مفتاح سرنا ومرواد عمانا

 

آراء