amir.nasir@gmx.de
كان وقد تناولت علاقة الإنسان بالمكان "ضمن كتاباتي عن أديبنا الراحل " الطيب صالح ". هذه علاقة أبدية ذات مضامين وآثار عميقة تحدث عنها الشعر العربي , والأدب العالمي عموما إلا أن وقوف أستاذنا الطيب على هذه العلاقة كان إضافة – في زعمنا – لأنه حاول أن يطبق هذه العلاقة على الواقع المعاش من خلال أبسط تصور وأسهل الطرق بهذا نعني "بيوت الطين" .كان وقد استشهد أستاذنا..بحسن فتحيالمهندس المصري الذي شيد قرية من الطين في مصر.
يقول الطيب صالح على لسان الراوي في رائعته رواية موسم الهجرة الى الشمال
(" هذه الدار الكبيرة ليس من الحجر ولا من الطوب الأحمر , لكنها من الطين نفسه الذي يزرع فيه القمح قائمة على أطراف الحقل تماما تكون امتدادا له .... غرف كثيرة مختلفة الأحجام ..... حيطانها ملساء مطلية بمادة من الرمل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم وكذلك السطوح والأسقف من جذع النخيل وخشب الشمط وجريد النخل . دار متاهة , باردة في الصيف , دافئة في الشتاء . إذا نظرت إليها من الخارج , دون لطف , أحسست بها كيانا هشا لن يقوى على البقاء , ولكنها تغالب الزمن بشئ كالمعجزة ).
لقد نشأ أستاذنا كمعظم السودانيين في بيوت قروية قوامها طين النهر/ النيل فكانت امتدادا له كامتداد الزرع وغابات النخل على ضفافه . عاد بنا الطيب صالح إلى البيئة الفطرية الطبيعية " حينما وصف بيت جده المبني من الطين البارد في الصيف والدافئ في الشتاء , واستغرب متأسفا من استبدال أهل القرية لأبواب الخشب العتيقة ذات المزلاج بأبواب الحديد التي يأتوا بها من العاصمة.إنها صورة جلية تعكس تقدم الغزو الحضاري
وانتصاره رويدا على البيئة القروية البسيطة التي بدأ الإنسان منها وسيعود إليها كجزء منها,أي عوة الطين إلى الطين " . ارتبطت المجتمعات البشرية في القدم بالاعمال اليدوية بممارسة الصيد ومن ثم الرعي الى ان تدرجت من ثم الى امتهان حرفة الزراعة
ومن ثم التعلق بالآلة والأساطير إلى أن ارتقت الى ممارسة الزراعة والاستقرار وتشكيل منظومات سياسية واجتماعية قادرة على البقاء. لم يكن تنقل هذه المجتمعات القديمة بئر لعلاقة الإنسان بالمكان بل مرآة صافية لاكتشاف وجوده الحقيقي وشحذ فطرته وحنينه إلى الأمكنة التي عاش فيها وكر على المجتمعات الأوربية الراهنة التي تلغي علاقتها بالمكان ما إن انتقلت منه . بدأت في ثمانينات القري المنصرم انتفاضات على الغزو الحضاري لاسيما ازدياد العمران الحديث وانفراد الإنسان وسط هذه الفوضى وتوسع قوى الجشع والتجريب .
لذا ذاع وطغى شعار العودة إلى الفطرة والالتصاق بالطبيعة وتشييد بيوت الطين واشير اليها كبيوت قاومت تغييرات البيئة هذا الى كونها اقتصاية لاتستنزف كهرباء وغاز للتدفئة كالبيوت الحديثة .
تعتبر روسيا أقدم دولة أوروبية عرفت منازل الطين "1200 قبل الميلاد " ولم تزل منازل الطين هذه شامخة وجميلة. دعا أكثر المطالبين بتشييد بيوت الطين " إلى اعتمادها كمباني حضارية لكونها اقتصادية لا تستنزف طاقة عالية كما أنها صحية لا تلوث طقس الغرف بالكيمائيات وتثير الحساسية وتلوث البيئة كما هو حال العمران الحديث والمصاقع المتسببة في مباشرة علو نسبة ثاني أوكسيد الكربون واستنزاف خشب الغابات هذا الى جانب اعتمادها على المعالجات الكيميائية الضارة التي تدخل في مواد البناء الحديث والآجر .
تقول الدراسات العلمية الحديثة المعنية بمنازل الطين في أوروبا .بأنها البديل الأمثل وربما الوحيد لادخار الطاقة والعودة إلى انفسنا من جديدد و" مصالحة الطبيعة"
لقد توجهت ألمانيا مؤخرا الى . التخلي من الطاقة النووية " واستخدام الطاقة المائية والريح مما مهد مجدا لتشيد مثل هذه المشاريع وتناولها اعلاميا (تلفزيون ارتا وراي سات الالماني ) بل وانشاء معاهد خاصة بتشيد بيوت الطين كما في ولاية ساكسن ان هالت .لقد حظيت لرؤية بعض منازل الطين في برلين وغرب المانيا ولندن ومشاهدة صور فوتوغرافية جميلة عنها بعث بها إلى الأخ الأستاذ عبد الرحيم مكي و أفلام تلفزيونية عن بناء هذه المنازل في سويسرا.
.إنها بيوت جميلة حقا لا تختلف في شكلها الخارجي بل والداخلي عن المباني الحديثة . منازل تم تذويقها وتلوينها بألوان جذابة وأحيطت بحدائق تقوم أغلبها في مناطق مرتفعة قليلا عن الأرض مقارنة بالمنازل الأخرى . ما لفت نظري أكثر ليس بقاء ومقدرة هذه البيوت على مقاومة كل ظروف الطبيعة وتقلبات الطقس " وإنما عيش أثرياء ألمان فيها انطلاقا من انها منازل صحية نقية الهواء خالصة من والمعالجات الكيميائية التي تخل في مواد البناء والطلاء .مواد مضرة للتنفس والحالة النفسية بمرور الوقت !!
حفز هولاء الاثرياء عامة الالمان على تأجير أو تشييد مثل هذه البيوت .
تحدثت إلى بعض المهندسين الألمان وكذلك إلى الأخ الأستاذ عبد الرحيم مكي المهتم بمشروع " تشييد قرى من الطين في السودان "فجاءت اراؤهم متفقة اذ يرون انخفاض تكلفة مثل هذه المباني " واهتمام كثير من المعماريين العالميين بها"كثورة ضد الحداثة الفوضوية وعودة إلى الجذور.
تتشابه بيوت الطين (المحدثة المعنية هنا ) وبيوت الطين المخلوط بالأعشاب وروث البهائم, وكذلك بيوت و قباب الجالوص" المتناثرة في أصقاع السودان.بيوت في هيئتها الخارجية إلا أن الصنف الاول منها " هي النموذج الذي عرفه الغرب الأوروبي منذ القدم وظلت شامخة الى الان.تم تحديثها بعض الشيئ كما ذكرنا بماخل واسعة انيقة ونوافذ عديدة .
وأبواب خشبية سريعا ما تتناسب وتنسجم وتتماسك مع الطين كجزء منه . جدير بالذكر بأن هذه البيوت تقوم في مناطق مرتفعة قليل كما ذكرنا وبأساس متين لتقاوم الانجراف في حالة الفيضانات وتقلبات البيئة الجسيمة.جدير بالذكر بأن سقوط بيوت الطين في إفريقيا يكون دائما بسبب خطأ خلط الطين ونسبة تداخل المواد الأخرى فيه " هذا إلى أنها تقوم في مناطق منخفضة تحاصرها مياه الأمطار ما إن هطلت لاسيما وإن مشكلة تصريف المياه عائق أساسي يهدد مثل هذه المباني .
وكما متعارف هنا في أوروبا / ألمانيا فإن منازل الطين " تجاوزت معضلة تصريف المياه لاهتمام الدول بها منذ القدم لغزارة منسوب المياه هذا كما اهتمت الول الفقيرة لحل هذه المشكلة باتفاق الجيران واهل الحي لتشيد نظام تصريف بسيط مشترك كما في كينيا وتنزانيا وبعض دول امريكا الجنوبية كالمكسيك .
قلة هم الذين يهتمون بمثل هذه المشاريع البسيطة المثمرة , المرتبطة بالفطرة والطبيعة
هاهو الغرب يعود مجا الى العمران القديم فما بالنا دائما تبعا له لانثق في ثراثنا الا بعد ان يكتشفه هو ويحثنا عليه كما لو اتئ به وليس نحن ّّ!!
نقول تشيد بيوت الطين " الأنيقة الجذابة التي لا تختلف في هيئتها الخارجية عن المنازل الحديثةو ليس لهذا البيت بعينه وانم لأنها تتناسب مع دخل الفقراء وما أكثرهم في السودان وارتاط السوانين بالبيئة والتراث بيوت صحية واقتصادية تجرنا الىذواتنا وتوحدنا مع الطبيعة . أنسى ذالك اليوم الذي رأيت فيه منزل طين ألماني لا يختلف ألبته عن المنازل الحديثة ,تحيطه حديقة|, دافئ في الشتاء حتى ظننت بأنه دفئ باكثر من مدفأة .... ضحك صاحبه الألماني وقال لي( مدفأة
واحد’ وبدرجة حرارة منخفضة ).
هذا منزل طين وفر صاحبه الألماني الكثيرا من منصرفات تدفأته , وينعم ببرودة في الصيف وحديقته الصيفية الزاهية .