ربع قرن من الإساءة والتشويه: السودان نموذجا (1-3)
بسم الله الرحمن الرحيم
ربع قرن من الإساءة والتشويه : السودان نموذجا ( 1 – 3 )
كتبت الكاتبة الأردنية توجان فيصل مقالة ضافية في صحيفة الراية القطرية بعنوان ( من يشوه ماذا ؟!) بتاريخ الأربعاء 25 يونيو الماضي ، تناولت فيها ماتناولته الكثير من الأقلام العربية والعالمية ، وأثار حفيظة ونقاش أهل الفقه والعلم الشرعي حول القضية التي شغلت المجتمع الدولي في الآونة الأخيرة ( خصوصا الغربي ) وهي حكم الأعدام الصادر بحق المواطنة السودانية مريم يحي ، وماصاحبه من جدل كبير سياسي و شرعي حام حول توافق هذا الحكم بالردة على الحالة المذكورة من جانب ، وتعارض ذلك الحكم الأولي مع الدستور السوداني و مع المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقع عليها السودان والتي تنص و تضمن لجميع مواطنيه حرية العقيدة والأعتناق لأي دين دون أكراه في ذلك من جانب آخر .
وحيث أنني لست في معرض الحديث عن تخبط النظام الحاكم في هذه القضية تحديدا ، ومن خلفه قطعا قضاءة ( المستقل ! ) و هيئة علماءه ( السلطانية ! ) ، لأن الأساءة الى الأسلام كدين عبرحادثة د.مريم يحي لم تكن الأولى من ضمن حوادث أخرى في سجلاتهم الغنية بكل صنوف التشويه والأساءة للأسلام ، سواءا عبر الممارسة السياسية أو عبر الأحكام القضائية العشوائية ( فقضية دب محمد أو دب المدرسة البريطانية وبنطال الصحفية لبنى حسين ليست ببعيدة عن الأذهان ) كما أنني أعد المتابعين والمراقبين أنها لن تكون أيضا الحادثة الأخيرة لهؤلاء في مشوار حكمهم للبلاد أن تطاول علينا مستقبلا .
ويبقى حري بي حتى أغلق باب الحديث عن قضية مريم يحي فأدلف بعدها لموضوع المقال الرئيسي هو أنني أريد فقط أن أقتبس العبارة التي ساقها الكاتب الأسلامي د.عبدالوهاب الأفندي في خاتمة مقاله الذي تناول فيه نفس القضية وكان بعنوان ( الأساءة للأسلام : السودان نموذجا ) حينما كتب قائلا ....... ( لقد أدمن النظام الحالي الممارسات المسيئة للإسلام، بداية من تصوير التجاوزات في حروب الجنوب ودارفور على أنها جهاد في سبيل الله، مروراً بمهزلة لعبة الدب المسمى محمداً، ونهاية بالتغطية على الفساد والإجرام باسم الإسلام ) .
( هناك إذن خلل منهجي، وليست أزمة عارضة، في الرؤية والممارسات، لا بد من النظر في أصلها. فإذا كان الدين الإسلامي يقول بألا إكراه في الدين، ويؤكد على احترام العقود والمواثيق، وينهى عن قتل النساء والأطفال والعدوان على الأبرياء، ويشدد العقوبة على أكل أموال الناس بالباطل، فكيف تكون هناك فئة تدعي الدفاع عن حياض الدين ولكنها توجد دائماً حيث نهاها الله وتغيب عن حيث أمرها؟ في هذه الحالة، فإن مرجعنا أيضاً هو القرآن الكريم وقوله عز من قائل: «قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين » ) أنتهى الأقتباس .
وعودة لموضوع مقالي ومع تزامن و تجدد الذكرى25 السنوية لأنقلاب حكومة الأنقاذ على نظام الحكم الديمقراطي في السودان ، ربع قرن من الزمان زنحن نرزح تحت نير أستعباد هذا النظام ، وبعد أطلاعي على مقال الكاتبة توجان فيصل ومقال الكاتب د.عبدالوهاب الأفندي ، دفعني عنوانا المقالين لتخير كلمتي ( يشوه المشتقة من شوه يشوه تشويها من مقال توجان ) وكلمة ( الأساءة المشتقة من ساءه ، يسوءه سوءا من مقال الأفندي ) لأختار عنوانا لهذا المقال ( ربع قرن من الأساءة والتشويه : السودان نموذجا ) .
ففي هذا المقال سوف نكر عائدين نحو الوراء لنجتر من الماضي بمناسبة تلك الذكرى المشؤومة بانوراما سريعة عن الأحداث والسياسات التي خلصت ليكون اليوم حصاد السودان هشيما تحت حكم نظام الأنقاذ ، والذي لم يقنع فقط كما قال الكاتب الأسلامي د.عبدالوهاب الأفندي بأنه يكون دائما حيث نهى الله ، وأن يغيب حيث أمرها ، ولكنه تجاوز ذلك كثيرا ليقدم لشعبه وللمجتمع الدولي كل أشكال الأساءة المخزية و صنوف التشويه البشع الذي سوف نتأتى على ذكره لحاقا في السطور القادمات .
أول ذي بدء ، وبأسم المولى نفتتح أعظم الجنايات وأقبحها على الأطلاق ، وهي المنبت الفاسد للدولة السودانية الحالية ، وأقصد في ذلك( التشويه الدستوري ) ، أو تقويض الأنقاذ لحكم ديمقراطي قائم عبر أنقلاب دموي في 30 يونيو من العام 1989م .
حيث أنقضت الأنقاذ على الشرعية الدستورية التي يطلق عليها السودانيون أسم ( الديمقراطية الثالثة ) ، والتي جاءت بعد كفاح مرير من كل أطياف شعبنا فأطاحت بحكم الرئيس الراحل جعفر نميري في أبريل من العام 1985م عبر أنتفاضة و ثورة شعبية سلمية عظيمة .
وبما أن الشيء بالشيء يذكر ، فلو أننا عقدنا مقارنة بسيطة للأحداث التي جرت مؤخرا في مصر في يوم 30 يونيو من العام الماضي وأنهاء حكم الرئيس محمد مرسي الشرعي ( الغير مختلف على شرعيته من أي جهة كانت ) ، بأنقلاب الأنقاذ الدموي الذي كان في 30 يونيو من العام 1989م ، فأنني قد أجد قليلا من العذر لتلك الأحزاب العلمانية و اليسارية في مصر ( ممثلة في جبهة الأنقاذ ) و التي وضعت أيديها مع أيدي العسكر فوئدت معهم الديمقراطية الناشئة من بوابة البراغماتية أو الميكافيلية أو قل حتى الأنتهازية السياسية .
فمن واقع حسابات الأرض الأنتخابية والكتلة التنظيمية القوية المشكلة من أحزاب التيار الأسلامي فيمكن القول أن التيار اليساري العلماني رآى أنه لن تتاح له وعلى المدى البعيد أكتساح أو الحصول على أغلبية برلمانية أو منصب رئيس الجمهورية في وجود تيار أسلامي هرمي منظم يعمل بالأشارة ، فأختصروا على أنفسهم الطريق وضربوا عدة عصافير بحجر واحد ، متحالفين مع المؤسسة العسكرية وفلول نظام مبارك ( أدوات الدولة العميقة التي وقفت ضد حكم مرسي ) تحت شعار ( عدو عدوك يبقى صديقك ) ، وقاموا بأنهاء حكم الأخوان بأخراج ثوري أنقلابي عرفوه للعالم بأنه ثورة و موجة شعبية ثانية جديدة جاءت أستكمالا لأهداف الثورة و الموجة الثورية الأولى المجيدة التي كانت في 25 يناير .
وأذن يبقى ماجرى على أرض المحروسة في شمال وادي النيل رغم عدم شرعيته هينا سهل البلع في نظرنا ، أذا ماقارناه بحالنا البائس في جنوبه ، وفي جعبتنا أقوام أتخذوا أفكا و زورا من ( الأسلام هو الحل) شعارا ، ثم رفعوا المصاحف في الساحات والطرقات تعبيرا عن رفضهم لأتفاقية السلام السودانية المعروفة ( بأتفاق الميرغني – قرنق ) التي وقعت في أديس أبابا عام 1988م ، حينما عاد الوفد المفاوض من أثيوبيا ، وقد شكلت يومها تلك الأتفاقية أجماعا وطنيا شعبيا فريدا من نوعه كان سيمثل طوق النجاة والمخرج الكريم للوطن ليحفظ عبرها وحدته ويحقق السلام الأجتماعي بين أبناءه .
ماذا كانت دعواهم وتبريرهم في رفضهم لها وخروجهم عن أجماع كل السودانيين ؟
لقد برروا ( وأترك الحكم للقارئ ) أن الأتفاق المقصود قد يحقق السلام في البلاد ، وقد يوقف الحرب وقد يحفظ النسيج الأجتماعي بين مختلف الأثنيات في السودان ، وقد يحفظ وحدة السودان وأراضيه ، ولكنه ذبح الشريعة الأسلامية ذبح النعاج في بلاد الحبشة ، ومسخ هوية السودان الأسلامية بعد أن فرط الميرغني الزعيم الديني لطائفة الختمية في الأتفاق بقبوله تجميد قوانين سبتمبر الأسلامية ( تركة من حكم نميري البائد ) لحين البت في أمرها في مؤتمر جامع يضم كل القوى السياسية و النقابات المهنية والحركات المتمردة !!؟ .
وليتهم أكتفوا بالخروج عن الأجماع الوطني والشعبي الذي مثلته أتفاقية السلام السودانية ، حينما و ألتف حولها كل السودانيين ورآوا فيها الأمل و بداية النهاية للحرب في السودان !
أو ليتهم أكتفوا بمعارضة أو أسقاط الأتفاق ديمقراطيا داخل البرلمان وأقناع بقية القوى السياسية الأخرى والنواب بعدم جدواه والتصويت ضده !
أو ليتهم أكتفوا بالمظاهرات السلمية و رفع المصاحف أمام أوجه النواب في البرلمان والمسؤولين في الحكومة ، وأستخدموا معها ورقة الشارع العام للضغط على الحكومة للتراجع عنه !
ليتهم فعلوا كل ذلك أو بعض ذلك ، لأننا ببساطة كانوا سيجعلونا نتدافي حدوث أنقلاب ( البشير – الترابي ) الذي أوصلنا اليوم لمرحلة الأنحطاط في الخدمات الأساسية والحضيض في البنيات التحتية وأنهيار الدولة الكامل وتفتت أراضي البلاد وأنفصال الجنوب وتأزم النزاع في أقاليم دارفور و النيل الأزرق و جنوب كردفان .
ولكنهم ورغم ماكانوا يمثلوه من القوة الثالثة البرلمانية في عدد النواب المنتخبين في الجمعية التأسيسية الشرعية ، ويمثلون أيضا فيها المعارضة الرئيسية داخلها ، ألا أنهم جاءوا بأسوأ مما جاءت به الأحزاب العلمانية و اليسارية في المحروسة ، والتي تآمرت جهارا نهارا مع المؤسسة العسكرية بل حتى مع فلول نظام مبارك لأنهاء حكم الأخوان المسلمين .
هؤلاء الذين يحكموننا اليوم حنثوا بيمين الحفاظ على الديمقراطية والذي تعاهدوا فيه مع بقية الأحزاب السياسية قبل الأنتخابات 1986 ، وخرجوا عن الأجماع الوطني والسياسي الذي ألتف حول أتفاقية الميرغني – قرنق والتي مهدت الطريق لقيام حل شامل للأزمة الحكم والسلم والحرب والتنمية في السودان عبر توافق الجميع لقيام المؤتمر الوطني الجامع ، ثم تآمروا ليلا و أتخذوا الغدر و الكذب والقوة العسكريةوسيلة للوصول للسلطة ، وأسسوا حكما ديكتاتوريا مأساويا نعايش اليوم ذكراه 25 السنوية .
teetman3@hotmail.com