مركز الدراسات السودانية وطباع الضباع
د. حيدر إبراهيم
11 July, 2014
11 July, 2014
بمثابة المدخل:
يرزح السودان منذ نصف قرن تحت وطء دولة الضِباع بامتياز بعد أن اختفت كل السباع. والضِباع من اردأ الحيوانات في طباعها. ويقال:"عيث الضباع"، لأن الضبع إذا وقعت في الغنم عاثت فيها ولم تكتف بما يشبعها!وتقوم بافساد كل شيء لتسبب ضررا. الأسد لا يفترس إلا حين يكون جائعا. وتقول العرب عن السنة المجدبة، أكلتنا الضبع. . ويضر مثل يقول"مجير أم عامر (الضبع) وجدها رجل تحتضر فأنقذها وحين أفاقت افترسته. ومن أهم صفات الضبع اللؤم، بكل ما تعنيه هذه الكلمة في اللغة والحياة. ويقول الثعالبي في فقه اللغة:" فإذا كان ضدّا للكريم فهو لئيم (. . . ) فإذا كان مع لؤمه وخسته ضعيفا فهو نِكس وغَسُّ وجِبس وجِبر، فإذا زاد لؤمه وتناهت خسته فهوعِكل وقَذَعل، وإذا كان لا يدرك ما عنده من اللؤم فهو اَبَلُّ". (ص 139) . ورغم أن الضبعان هي الذكر من الضباع، ولكن لن نفرق بين الانثي والذكرلأنه يهمنا الطبع وهو واحد في الاثنين.
لقد أخذ ضباع دولتنا كثيرا من الصفات المكملة للؤم. فمشكلة النظام الحالي ليست سياسية ولا أيديولوجية بل أخلاقية وسلوكية في المقام الأول. فقد كانت فاتحة النظام الكذب:أذهب انت للقصر وأذهب أنا للسجن!ونجحت الكذبة، فعكسوا قيمة:الصدق منج المعروفة، فقد تأكد لهم أن الكذب وسيلة فعّالة للنجاح والانتصار ، فلماذا التخلي عنها وقد اوصلهم الي السلطة؟ واستمرأ النظام مستنقع الكذب والفساد ولم يعد قادرا علي أن يشم أيّ روائح كريهة بل يستمتع بها. تصور وجود نظام في العالم يقرر إغلاق ملفات الفساد ويحرّم ويجرّم تناول موضوع فساد الدولة.قد يمكن لنظام أن يمنع الآخرين- من معارضين وناقدين-الحديث في الموضوع، لأنه سوف يتولي بنفسه كدولة هذا الموضوع لخطورته (وصباحك خير يادوسة!) . أصحاب شعار: هي لله لا للجاه! كان من المفترض أن يستهلوا عهدهم باقرارات الذمة، وعند مغادرة المنصب الحكومي تتم المقارنة بين الوضع المالي-قبل وبعد. ولكن لأنهم يحكمون باسم الله اعتبروا مال الامة هو مال الله، ولأنهم ظل الله علي الأرض ويحكمون بأسمه فليس من حق الشعب محاسبتهم. فهم مسؤولون أمام الله فقط يوم القيامة، وأي حديث أرضي عن الفساد فهو مغرض وحاقد يريد صاحبه هدم دولة الإسلام العصرية.
أقول أن أزمة النظام أخلاقية، لأن سلوكه السياسي يشعرك بالتقزز والاشمئزاز ولا تملك إلا أن تحتقرهم. فالقضية أبعد من الديمقراطية والدكتاتورية، ولكن غياب الإخلاق والمبدئية في المواقف. فقد كان (جعفر النميري) دكتاتورا، وسفاحا دمويا، ومجرما. ولكن كانت لديه الشجاعة لكي يقف بجانب جريمته ويدافع عنها مقرا بها. ولكن مع ضباع النظام الحالي، فهم يفرقون دم الجريمة بين أشباح (ألم يخترعوا بيوت الأشباح لتغييب الفاعل-المجرم؟) . فالضباع-بخستها-لا تعرف المواجهة، نظام الضباع له عدد من الناطقين بأسمه لكي يتهربوا من قول الحقيقة. ففي كل دول العالم هناك ناطق رسمي واحد تعرفه وسائل الإعلام والشعب. ولكن في السودان الضبعي:ربيع عبدالعاطي يلعلع، وأمين حسن عمر يغمغم، وسامية حمد تدندن، واحمد بلال يهذر:وتضيع الحقيقة. أمّا بالنسبة للقرارات فيستحيل أن تعرف مصدر القرار (أرجع للفاتح جبرا وخط هيثرو كمثال فقط) .
تظن ضباع النظام أن ما تفعله هو ذكاء أو دهاء، ولكنه سلوك أخلاقي هابط يمكن قياسه كما نتابع تدهور قيمة الجنية السوداني. لا أمانع-نظريا- أن يكونوا شموليين وقمعين ولكن بشجاعة وقيم، فحتي المجرمين أو الهمباتة،لهم معايير وقيم خاصة. ولكنه نظام مقرف وكفي،ولا يحتاج للغة سياسية أوفكرية لوصفه.
الضباع ومركز الدراسات السودانية
كان إيقاف نشاط المركز في ديسمبر 2012 لمدة عام ينتهي في ديسمبر 2013، تعسفيا تماما. ولأننا لا نعيش في دولة قانون لم نلجأ للقضاء، وقلنا ننتظر بعد إنقضاء العام. وبالفعل شرعنا منذ يناير2014 في مخاطبة وزارة الثقافة وقد أظهرت عدم ممانعة، وطلب من المركز عقد جمعية عمومية وقد فعل. وتوقف الأمر، ودخلنا في تسويف ومماطلة، واصبح واضحا أن الحاكم الفعلي في السودان -الأمنوقراطية- قد قرر أمرا مختلفا. وهذا وضع شاذ فعلا:انتم حكام رضينا أم أبينا، ولكننا نشترك في وطن واحد ولنا نحن غير الحاكمين الحق في العمل والتفكير ولكن للضباع تصور آخر للوطن.فضباع النظام، تنهب وتحتكر ما تريد، وتخرب ما تبقي لحرمان الآخرين.
كان مبررات إغلاق المراكز مجرد تهريج حول التمويل الاجنبي والعمالة. وحينها وقف في المجلس الوطني(علي عثمان محمد طه) وكنت أظنه خيار أم الخير، ممسكا بملف أو دوسيه كبير، قائلا:لدينا كتاب كامل بمخالفات وجرائم المراكز ومنظمات المجتمع المدني!ولم يحترم شرف مهنته كقانوني ولا تدينه كمسلم ولا اعرافه كسوداني، فأعطي نفسه حق القذف ضد الأبرياء العُزل من السلطة. وجاء عدل السماء ليرمي به في النسيان في انتظار المزبلة الجماعية الكبرى . اللهم كثير من الشماتة علي الظالمين. ومازالت أكرر واتحدي الحكومة أن تذهب بوثائقها ضد المراكز الي القضاء رغم انحيازه لتثبت العمالة وهذ تهمة عقوبتها الاعدام فلماذا تسكت عنها وتكتفي بالمهاترات؟
وأسمح لي أيها القارئ الكريم،تقديم مثالا للؤم وخسة الضباع،فقد جاء في الاخبار حين قرر مركز كارتر تعليق نشاطه ومغادرة السودان،مايلي:" وأكد المركز في خطاب لوزارة الخارجية عن حرصه على إستمرار علاقاته بالسودان والإهتمام بالتطورات المستقبيلة وأن ممثليه سيواصلون زياراتهم للسودان . وعبر الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية عن الأسف لإضطرار مكتب مركز كارتر للديمقراطية للتوقف عن أنشطته لأسباب مالية ، وذكر أن السودان كان يأمل أن يستمر نشاط المركز في متابعة عملية الإعداد للدستور الدائم ، مشيداً بدور المكتب أبان عمله بالسودان "(الصحف27/2/2014).فتأمل كيف تتعامل ضباع النظام مع مركز تابع لامريكا التي دنا عذابها،وفي نفس الوقت تطارد مركزا سودانيا دما وفكرا.ولا عجب فهو طبع الضباع.
ومن نكد الدنيا، أن ضباع النظام لديهم وقاحة فائضة تجعلهم يحاولون تدنيس كل شريف وإثارة الشبهات ضد كل عمل وطني. لذلك فليعذرني القارئ لوكتبت بصيغة "أنا "و"نحن" عن المركز وعن نفسي، فالقصد هو التوضيح والحقائق فقط. كانت فكرة قيام مركز ثقافي تراودني منذ فترة طويلة، وبدأت في محاولة تنفيذها مع الأخ محمد أبوالقاسم حاج حمد ، فقد كانت لنا مناقشات في مدينة (العين) شارك فيها الدكتور محمود شعراني. وتحمس محمد واتصل بدار الكلمة بيروت حول امكانية الطباعة. وجهز عام 1983 موكيت لمجلة: "أوراق سودانية" حملت بورترية للإمام المهدي. ولكنه محمد لمن يعرفونه، له الرحمة. باختصار فكرة مركز الدراسات السودانية ليست وليدة هوجة وموضة المراكز التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي. وهناك نقطة هامة، وهي تهمة محاولة الاسترزاق من المنظمات. لست عاطلا ولا محبا للمال والماديات ، فأنا من أقدم المغتربين وقد استقلت من جامعة الامارات وهي تعطي أعلي مرتبات في العالم لأنها غير خاضعة للضريبة. وكانت أول استقالة في تاريخ الجامعة وقد تكون آخر استقالة ايضا. وسبب فكرة الاستقالة والعودة للسودان هي المركز ايضا .فقد أغراني د/ميرغني حمور مدير جامعة الجزيرة آنذاك بشعبة التنمية الريفية وقلت فلتكن بداية لمشروعك. ولكن الافندية كرهوني-كما يقال- وهجرت الجامعة دون استقالة رسمية. وباختصار، في المرة الاخيرة حين بدأ عمل المركز، تركت العمل في (المجلس القومي للثقافة العربية) بالرباط. وللقارئ أن يتخيل محبا للمال، يترك تلك الوظيفة والمغرب ليقبع في شقة 35 شارع شامبليون الرطبة الحارة، ليدير المركز.
لم تكن اسطورة المركز والمال ومديره، للأسف من نسج الاخوان والإنقاذ ولكن خلقها وروج لها، بعض ضباع "التقدميين" بالقاهرة، ونسجوها بخبث مهني يجيدونه وأطلقوها من القعدات، وحين عاد المركز للخرطوم لم يتوقفوا عن نشر الفرية. فقد قامت النيران الصديقة بدور غير مشرف،وظلم ذوي القربي...
ومن القصص الطريفة، سأل د/وليد مادبو إحدي الصديقات وكانت تتردد علي المركز وحين تناقش موضوعات الجندر تظن أنك أمام سيمون دو بوفوار أو روزا لوكسمبرج، قائلا ببورجوازيته القبلية المحببة:- حيدر دا ما ممكن تكوز عندو أفخم عربية ومعاها سواق؟ردت روزا: دا شايقي يحب يخت القروش!وهي لا تعلم أنني مع الصوفية اعتبر القروش وسخ الدنيا. ولكن السبب الحقيقي لعدم اقتنائي عربية، يبدو غريبا فأنا لديّ مرجعية أخلاقية من بشر تبدو عناصرها متنافرة ظاهريا. فكلما فكرت في ذلك أسأل نفسي:هل كان لمحمود محمد طه،أومحمد محمد علي، أوخضر بشير، أوعبدالله رجب، أواسماعيل عبدالمعين، أوإدريس جمّاع ، عربات خاصة بهم؟ واتوقف عن التفكير خجلا .
قصص المركز وقصصي كثيرة ولا اريد أن اطيل وأثقل، واختم: هذا المركز سليل كفاح جيل وأحمد خير وأصحابه في نادي الخريجين –مدني، وإبن شرعي لمجلة الفجر وعرفات محمد عبدالله والابروفيين وحلقات القراءة، وهو من عائلة الامين علي مدني ومعاوية نور وحمزة الملك طنبل. مركز الدراسات السودانية غير"مقطوع من شجرة" أو يقوم بأمره شخص يريد أن يثري من أموال الخواجات بعد أن بلغ السبعين. مركزالدراسات السودانية منارة للتنوير والمعرفة والتقدم ولن يتوقف بقرار من أمنجي-اخونجي يأكل من مال السحت ويستمتع بعطر فساد سلطته. لسارتر جملة تبهرني كثيرا وأكررها في حالتي، فقد سئل لماذا حدته في الهجوم علي البورجوازية الفرنسية؟فرد:بيني وبين البورجوازية ثأر لن ينتهي إلا بموتي أو موتها. وأقول:بيني وبين الظلامية الإسلاموية ثأر لن يتوقف إلا بموتها أو بموتي.
شكرا لكل النبلاء الذين وقعوا علي بيان التضامن مع المركز.والآن،يعلن المركز عن إعادة تسجيله وقد تم إعلانه بالأمس9/7/2014 في الشهر العقاري وشرع في تكملة الاجراءات البيروقراطية،وسيتم افتتاحه رسميا قريبا بالقاهرة ليدل ذلك علي أن النظام المحاور قد عاد للمربع الأول.فقد بدأ المركزنشاطه من القاهرة عام1991م والآن تتكرر ظروف القمع بأقنعة جديدة ومضمون واحد.
ويعلن المركز عن صدور العدد56 من مجلة: كتابات سودانية، في اكتوبر القادم، ويمكن البدء في ارسال المساهمات علي البريد التالي، حتي إشعار آخر.
Hayder.ibrahim.ali@gmail.com