رغم ما كتبه الأديب الألماني كارل ماي وغيره من المستشرقين المتعالين عن الشرق المسلم، تظل في ألمانيا إشراقات واعترافات بالشرق والآخر المختلف/ العربي المسلم. لم تزل أفلام كارل ماي تعرض في التلفزيون الألماني كأفلام مغامرات وتحد لصالح الغرب المسيحي، رغم أنها تظهر بوضوح ومباشرة فجة هيمنة أبطالها الغربيين المسيحيين على أبناء الحضارات الأخرى كالهنود الحمر والعرب.
أسست منظمة كارل ماي باعتبارها منظمة أدبية تعنى بالاحتفاء بهذا الكاتب (الذي فقد عقله في آخر حياته وأدخل مستشفى المجانين) وتداخلت الحضارات دون شروط واضحة ترضي حضارات ما وراء ألمانيا حتى الغربية كفرنسا. يقول بطل كارل ماي للعربي الذي برفقته: "يجب أن تتبعني.. سأهديك إلى الطريق السوي"، وكان يسخر من حضارات الشرق مثلما سخر فولتير من بعثة محمد الرسول الكريم واعتبرها ثورة صحراوية لا ترقى البتة إلى الثورة الفرنسية الحضارية الديمقراطية. بينما صرح (جوته) بإعجابه بالقرآن (الكتاب التركي كما كان يسميه) ونذكر إطنابه كذلك في الثناء على الرسول محمد الذي كان يعتبره شاعرا فاق بخياله كل ضروب الأدب والأدباء. يقول: "إنه رجل عظيم لولا أنه يشدد في تشريعه على العقوبات وحصر حرية المرأة". نعم كان جوته معجبا بالإسلام ولكن بوصفه رسالة أدبية ولا يعتقد أنها رسالة منزلة. قاده حافظ الشيرازي والخيام إلى جمال الشرق وعظمة أدبائه حتى صرح بمقولته المشهورة: "فلنعترف.. شعراء الشرق أعظم".
لقد ظل الشرق ـ ولم يزل ـ ممزق الصورة لدى الغرب/ ألمانيا باعتباره تاريخا قديما منتهيا لم يجدد ولم يحدث بما يتناسب مع معطيات العصر الحالي هذا، كما شوهت صورته بالإرهاب والتفجيرات والفكر الأصولي المتشدد، وضعف موقفه تجاه قضايا التحرير والمرأة والأقليات واحترام حقوق الإنسان، بسبب خرقه لها بعقوبات القتل والقصاص وبتر الأطراف.
بين هذا وذاك أطل "كريستان فولف" رئيس ألمانيا سابقا كمحب للإسلام والمسلمين فأطلق مقولته المشهورة التي أودت به: "الإسلام جزء من ألمانيا". لم تصمت الكنيسة على ذلك ولا فردريش وزير الداخلية سابقا، إذ قال كما صرحت الكنيسة: "لا يوجد ما يثبت في التاريخ الألماني أن الإسلام جزء من ألمانيا".
أما كاول القس رئيس ألمانيا فحاول إيجاد معالجة لهذا الأمر فقال: "ليس الإسلام جزءا من ألمانيا ولكن المسلمين جزء منها".. اعترضت بعض الأحزاب كالخضر الذي يترأسه تركي بأن ما قاله كاول لا يتفق مع المنطق، لأنه إذا كان المسلمون جزءا من ألمانيا فالإسلام جزء منها دون شك، فما يمارسونه ويعتقدون فيه هو الإسلام وليس المسيحية أو أي معتقد آخر..
أما المفكر الألماني شوبليه (وزير الداخلية سابقا ووزير المالية الحالي) فقال عندما أسس المؤتمر الإسلامي بألمانيا: "لا أعرف مع من أتحدث" وعنى بذلك الفرق والملل الإسلامية المختلفة في مواطنها الأم. وأن عليه باختيار كل الطوائف الإسلامية، ولم يمض وقت طويل حتى اعتذر الشيعة عن عدم المشاركة في هيكله الإسلام في ألمانيا في المؤتمر الإسلامي، إذ اعتبروا أن ما تمليه ألمانيا هو الساري. وأن ما يأتون به من رد أو مقترح لا يجد طريقه إلى القبول والتنفيذ.
توالت الهزائم؛ فاتهم هذا المؤتمر، رغم تمثيله من كل الطوائف الإسلامية والدوائر والشخصيات المعروفة بميولاتها الواضحة نحو العلمانية، ما يهمنا هو (لقاء في الذاكرة) كما جاء العنوان، لقاء بألمانيا لم يحتف بمثل هذه التوجهات والميولات والنزعات الفوقية والمطامع الشخصية التي استغلت الأديان لمآرب اقتصادية وجيوسياسية خاصة.
ألماني (إنسان) مصور فوتوغرافي أحب الشرق والصور المضيئة التي انبعثت منه عبر التاريخ ومن خلال تجاربه هو مع الشرقي الآخر المختلف. ألماني بقلب ابن عربي المتسامح الكبير، وبوجدان لا يقل عن انفعالات الشعراء وومضات الإيحاء.
ــــــــــــــ
مع مصور فوتوغرافي
حاولت أن أترجم كتابا عن التصوير الفوتوغرافي صدر بالفرنسية ثم نقل إلى الألمانية، إلا أنني توقفت بعد الاطلاع على مقدمته التاريخية التي عرضت ابتكاره وتطوره ومن ثم مرحلة التصوير كتوثيق وجمال. توقفت لأن هناك جزءا كبيرا منه عني بـ(الشرق المؤنث)، إذ كان الرحالة يسافرون إلى الشرق لاسيما شمال أفريقيا، فيصورون ويرسمون النساء العربيات شبه عاريات؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وجدتني أتردد في عرض أو ترجمة هذا الكتاب لصعوبة الحصول على إذن الترجمة بعد أن حاولت بالفعل التحدث مع دار النشر التي أحالتني بدورها إلى المؤلفة ودار نشر فرنسية.
ثم عرضت سائحة عليَّ أن أترجم فيه الموسيقى العربية، ففعلت لأنها موضوعة أكثر ديناميكية وانتشارا من التصوير الفوتوغرافي (الذي بدأ يفقد قيمته الثرة) في عصر العولمة العصرية وكاميرات الخلوي المحمول والفضائيات وغيرها.
يكاد (السير لانف) يكون آخر مصور فوتوغرافي كلاسيكي موهوب ومخلص لمهنة التصوير عرفته من المصورين. سكن لصق بيني في الشقة المجاورة وجمعني معه حديث عن التصوير الفوتوغرافي، ولفت نظري بمعرفته وثقافته الواسعة في هذا الفن المتقاطع مع الأدب بمفهومه العام، قال لي: هل تدرك يا أستاذ أن بودلير كان يكره التصوير؟ سمعتك تتلو أبياتا من شعره وأنت تهبط سلم العمارة البارحة..
اتسعت حدقتاي وأنا أستمع إليه. قال مواصلا: لا تتعجب من انتقالاتي المفاجئة في الحديث، هو حال كل فنان. إنهم في رحلة بحث أبدية مرهفة.
أذكر أنني حينما دخلت شرفته الأنيقة أثار نظري الصور الكلاسيكي الكبيرة التي تزين الجدران؛ بعضها هرئ والآخر يبدو كلوحة رسمت في الشمس لالتماع ألوان الزيت ووضوح البانوراما الخلفية. وقفت أتأمل.. أقرأ ألمانيا التاريخية قبل الحرب العالمية الأولى (صور لبسمارك وبعض القياصرة وصور من الحرب العالمية الثانية لجنود يسحبون أنفسهم سحبا من الخنادق، صور للحرب العالمية الثانية، لبرلين المحطة وبرلين الجديدة بعد بنائها) سألته عن صور بعض الأتراك العاملين يحملون شعارات على سطح عمارة. لم يتردد وقال لي: "هم بناة ألمانيا الحقيقيون". ثمة صور لاتحاد الألمانيتين وللمستشار كول ورجل يحاول ضربه في حادثة مشهورة، وأخيرا.. أخيرا يأخذني بيده إلى صدرالشرق الجميل حيث النيل البالغ الزرقة وأشجار النخيل والإهرامات.
أحسست به وكأنه على قيد البكاء. لا أدري لماذا اهتم كثيرا بالتقاط صور لأشجار الخريف الذابلة وهي تودع الخصوبة في رحلة الشتاء.. صور لمقاعد شاغرة في الحدائق العامة، كأنه كان في انتظار حبيب طال غيابه. لم أعرف عن تفاصيل حياته الكثير سوى بعد موته المفاجئ بسبب "سرطان الرئة" وتركه لي كثيرا من الصور الفوتوغرافية التي شعر أنني أحبها وأوثرها لنفسي.
لم يكن شيئا، لم يكن سوى لقاء وذكرى وفنون، ربطت بين عالمين هما في الواقع عالم واحد متكامل لولا التحوصل والاستعلاء هذا بثورته التقنية وذلك بولادته المنظومة الاجتماعية..
وداعا سيد لانف، وداعا يا من أحب الشرق ومات قبل أن يكحل عينيه بشخوصه وزمانه.. وداعا صديقي الألماني.
Xxxxxxxxxxxxxxxxxx
مع مصور فوتوغرافي
(ان الزمن هو كالجدول الجاري ابدا,الذي يحمل ابناءه سعيدا ...وهم يتلاشون كما يتلاشى الحلم عند الفجر .
(العقل في منتهى حدود الاحتمال) ج.ولز
أ
ما ما من شيئ أعز عليه من كامرته الفوتوغرافيه وحمام صغير إستغله كمعمل للتحميض. زرته مرة إثر أن شد انتباهي ملازمته لكامرته العتيقة السوداء الموسومة بأحرف بيضاء ناصعة لإسم شركة يابانية، حييته : صباح الخير يا عزيزي المصور... ضحك، لم أتمعن ملامحه، كي أكسب إنطباعاً ما كما تعودت دائماً، كلما تعرفت على ألماني لكأني أبحث عن سمات شرقية ما تشدني إليه. دلفت إلى شقته الأنيقة فداهمني إثر ولوجها إنسياب فوح ورد من الغرفة المقابلة للممر إنه رجل متميز دون شك تنم عن ذلك لمساته الفنية الشفيفة وصوته الرجولي بالنبرات الخفيفة .
جنبا إلى جنب على إمتداد جدار الممر صور متراصة قال لي: «إنها برلين التي أحبها، رغم ذكرياتها المؤلمة، أُنظر هذه الصورة إلتقطها البارحة، كم هي هرمة مدينتي الفتية... إنني أحس بتقدم سنها البطئ مثلي».
كان يتحدث بلا إنقطاع، غارقاُ في تمعن الصور... إلا أن عينيه الذكيتين كانتا تنفرجان بين الفنية والأخرى لتبصران مدى إهتمامي بكلامه.
: أظنك ترى فيها مدينة حديثة لا سيما وأنت قادم من الشرق من التراث... قل لي هل تحب التصوير أم تصفه كلص، كمختزل للرسم كما يصفه بودلير
تعودت أذناي على منلوجه، ... لم أقل شيئا . تابع قائلا لقد سمعت ذلك كثيراُ، وكم وددت أن يسعفني الحظ بأن ألتقي مثلي أعني من يهوي التصوير، بالفطرة. هل تدري أن هواة وأعضاء نادي التصوير أنفسهم يجرون هذه المقارنة الغريبة بين الرسم والتصوير... إنك مهتم ببودلير... لقد سمعتك تتلو أبياتاُ من شعره وأنت تهبط السلم البارحة. إنه كذلك يكره التصوير.
إتسعت حدقتاي وأنا أستمع اليه، لا تتعجب من إنتقالاتي المفاجأة في الحديث هو حال كل فنان إنهم قلقون في رحلة بحث أبدية، مرهقة.
إنه شخصً متميز لا أدري لماذا أسريت إلى ذاتي بذلك، كان كلما أجبته على سؤال ما، شرع من توه في الإسترسال عن التصويرالفوتوغرافي، وعن صور تقاضى عليها أجوراً باهظة لإدانتها بعض النازيين... لم يكن يهمه أن يشي بهم وبأوساطهم الوحشية... صور عن تفجير قلعة ما، وتحويل حديقة عامة إلى مجلس مدينة.... اعدت هذا اللقاء به، في ذاكرتي وقد مضي عامان على وفاته، ولم أكن أعلم بذلك إلا مؤخراً لإنتقال أرملته Frau Lange إلى شقة أخرى. معزيا ذهبت إليها فأخذت تنشج بالبكاء حينما رأتني... لم أدر كيف أهدئ من روعها، فقد كنت نفسي محّوجاً إلى عزاء... لا أدري لماذا تغلغل هذا الرجل في ذاكرتي ولماذا نشب رباط وثيق بيننا، رغم لقاءاتنا العابرة على سلم العمارة، وفي الطريق وملعب الأطفال... لقد دعاني أكثر من مرة لزيارته، واعتذرت لضيق الوقت، وحينما دعوته صادف أنه كان نزيلا بأحد المستشفيات... أهديته باقة زهور فبادرني قائلاً: هذه الورود من حدائق فارس، دون شك وصوتك يوحي إليّ ببلابلها.
لم أكترث بتعليقه الشاعري، فلقد تعودت أذناي على سماع تهويماتي كلما أسرى إليّ شيطان الوحي.
عادت Frau Lange وقد هدأت من روعها وبيدها مظروف مذيل بإسمي: لقد أوصاني بأن أسلمك إياه، وقال لي لا تيأسي سياتي ليزورنني، إن طال الزمن أو قصر. فضضت المظروف أمامها، لقد كنت على يقين بأن هذا الرجل لا يطوي على سر ما... كل شيئ ظل يشي بذلك، حياته المطلةعلى الطريق العام... عيناه... كان المظروف يحتوي على صور للشرق العربي القديم بتوقيعات رحاله على ظهر بعضها. نصف قرن إنصرم على إلتقاط تلك المشاهد. كنت ألمس الصور ككتاب مقدس، اوكنز أثري. إلى جانبها أطلت رسالة بخط أنيق قرأتها لأول وآخر مرة:
عزيزي الأديب... لكم تمنيت أن ألتقيك ولكن ... لا أظن أن سانحة ثانية ستسمح بهذا. هذه الصور اخترتها لك من ضمن تركة عائلتي، التي ورثت عنها التصوير... ولكم وددت أن أرى الشرق ثانية، لكن... لن أنساه... ذاك الرجل الشاحب الوجه بالشعر الأشقر المنسدل على أكتاف شبه دائرية، وقامة نحيله. إلتقيته في الشارع العام، وبملعب الأطفال قبالة حلزون التسلق مع طفلي وعلى سلم العمارة، زرته في شقته المقابلة لشقتي إثر إصراره... فشد إنتباهي سقفها المحدوب كظهر الثور «كغرفة مصطفى سعيد في تلك القرية»* النائية على ساعد النيل. سألني من يكون هذا الرجل وعن سر حبي للأدب، كان يحدثني وقد طوقنا الليل محتمين ببقعة يضيئها مصباح كابي، فبدى، وقد أكتنفه لفيف دخان السجائر، كتمثال بودا غارق في ضبابه بخور معبد.
كان هذا الألماني بمثابة سر ما، أبحث عنه في كل ماأكتب، سر أن أتعامل مع غيري/ الأوروبي دونما إحساس بعقدة التآمر، ودونية المُستَعمر، أو بتوهم تعالي الرجل الأبيض... حدثته عن ابن الفارض، وقصيدة للمعاوده، وقصة (حديث في مقهى) لسالمه صالح، وعن محمد خضير. لا يهم كيف كان هذا الرجل ولماذا أكتب عنه!!! لقد ذبل فجأة كما الورده، ورحل دونما عودة تحت وطأة سرطان الرئة.
* إشارة إلى بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح
ـ هذه الخاطره من مجموعة « مدن وأسفار»
xxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxx
طريق برليني
رغم برودة الطقس في هذا المساء إلا أنني أحس بدفئ وحنو يسري في أوصالي . الطريق طويل , طويل جداً أمامي ومتعرج بتقاطعات عديدة . المارة الألمان يسرعون في اتجاهات متفاوتة كأنهم في سباق مع أشباح .
ـ سامشي الى اخره . ...انا وهو متنافسان هذا المساء !! سرت عكس قوانين السير .الإشارة حمراء و السكون مخيم وما من سيارة أو دراجة بخارية تنفلت كقذيفة طي هذا السكون المطبق.اجتزت الطريق وأنا أنظر بسخرية إلى الإشارة الحمراء وهي تحدق في بدورها باحمرار غاضب.
- أيها السيد حذاري !!!.
هتفت خلفي سيدة ألمانية هرمة متكأة إلى عصاة . من أين أتت هذه الألمانية !!.الا تنام !! ولماذا تقف هامدة هكذا في انتظار إشارة المرور الخضراء لتجتاز الطريق ؟ لم أجبها تابعتها بنظراتي وهي تجتاز الطريق المسائي الشاغر حتى من نباح كلب أو كلمة واحدة للمارة أو سكان العمارات على حافتي الطريق . أجنبي أنا لا أعير النظام اهتماماً ربما لأني شاعر كما قال توماس الألماني المسئول . لم يكن يجتاز الطرقات إلا عندما تضيء إشارة المرور الحمراء فيلعنه السائقون ويشتمونه بأبشع الألفاظ ويتابعونه بضوضاء أبواق سياراتهم.
توماس يغني دائماً:
وحيداً في الليل
أجتاز الطرقات تحت المطر
مالي أنا وتوماس ! الطريق طويل والطقس بارد إلا أنني أحس بدفئ بعد يدب في أوصالي . كم مرة جبت هذا الطريق مثقلا بتذكارات ومجابهة وحوارات مع ذاتي !! لكن لماذا وقفت هذه الألمانية في انتظار إشارة المرور الخضراء ؟ ما من سيارة أودورة شرطة تراقب حركة السير ؟ كأن من الممكن أن أسالها إلا أنني أعرف الإجابة مسبقاً .
ـ إشارة حمراء تعني التوقف !!!
ربما خفت أن تواصل الحديث . ستسألني دون شك من أي دولة أنت ؟ سأظل غريباً في ألمانيا شئت أم لم أشأ. ما من فائدة أن ذكرت لها بأني أعيش هنا زهاء ربع قرن ستنذهل وتستغرب أكثر .
ـ لماذا إذا تخالف قوانين السير وانت مواطن الماني ؟ .
لن أصمت أنا . الألمان يخالفون اللوائح الألمانية كذلك . ولكن هؤلاء ألمان وهذه دولتهم لماذا تقيس نفسك بهم ؟ من قال هذا ؟ لا يهم . الطريق طويل أمامي لا أسمع سوى وقع اقدامي الرتيب وأنفاسي المتلاحقة . أعرف أكثر من ثلاثة ألمان كانوا يسابقون أنفاسهم لاجتياز الجدار البرليني الفاصل بين المدينتين. أحدهم هو «شرودر» الذي توفي قبل عامين كان يجوب معي هذا الطريق في الليل يتحدث دون انقطاع عن تلك الليلة التي اجتاز فيها المنطقة المحظورة , الفاصلة بين برلين الشرقية والغربية .( نباح الكلاب البوليسية , الليل , ضوء المصابيح اليدوية , وضحكات العسكر وهم يجوبون الطريق الفاصل). ظل شرودر يضخم ويطيل في كل مشهد في تلك الليلة حتى صار من أبطال هذه المدينة.
- ما رأيك لو كتبت قصة عن مغامرتك يا سيد شرودر.
- هذا غير ممكن ! ماذا سأكتب غير أني ركضت كالكلب المسعور في ليل دامس تناهبته قوات مراقبة الحدود .
- ليس الأمر هكذا كما تظن هناك كتاب مختصون بصياغة السير الذاتية والمغامرات التاريخية كحادثتك يا سيد شرودر.
كان يبتسم باعتزاز ويهز رأسه فخوراً حين يسمع مغامرة تاريخية . لم يعد أحد يذكر شرودر في هذا الحي البرليني أثر أن كان المارة يستوقفونه في الطريق ليحدثهم أو يوقع لهم اسمه. انفاسي المتسارعة تلاحق خطوي تباعاً في هذا الطريق. لم أعد أعرفه وقد كان من قبل مكتظاً بالمقاهي التي تحمل اسماء الأدباء والفلاسفة الألمان وبعض المراقص التي يرتادها السود الأمريكان وإلجامايكيون وكذلك الأفارقة . مقهى وحيد منفرد عند التقاطع حيث نزل معتم للمومسات..
ضباب
ضباب
وضوء ضئيل بباب
يدلف رجل
يخرج آخر
آه
تعم الفضاء
لمومس تنادي
تبث الحب
آهات ودمع اكتئاب
«أيا هذا العذاب
متى خلاصي؟
متى أختم
قصة هذا الكتاب!»
يقولون عنها الكثير
حين يسري الصمت في يم الظلام
«امرأة تحترف الغرام
شبق
في دمها الوحشي
حرب
على الفضيلة والوئام «
أمرأة
تناجي قطها
دميتها الحرير
يقولون عني الكثير»
كم نافقوا
خانوا عهود نسائهم
سبقوا
خطاهم لهفة
لأمسية معي
كم
هرَّبوا أحلامهم
تلك المحظورة الحمراء
كطفل مفرد
بكوا على صدري
وأنا
تلك المنبوذة الشقراء
أشتات فتاة
مَن يسعف دمعتي !
من
يصغي الى مر احتراقي
من
سوى هذا المواء
وطيفي الساهر المفرد
على المرآة!»
ضباب كثيف يكلل سماء برلين هذا المساء . أين أقراص النجوم القمر اللؤلؤة. وسمار الصيف في منحنى الطرقات؟ أين ليل الصحراء ,اقراص النجوم والقمر وفيه سماء خالصة الزرقة في السودان ؟ صمت مخيم حولي . خطواتي توقع لحناً رتيباً مكرراً كأسطوانة مشروخة هل كان من الممكن أن يحدث شيء آخر في هذا الطريق قبل سقوط الجدار او بعده ؟ لا أدري .
الألمان والأجانب معاً أصبحوا أكثر جموداً أو ربما ازدت أنا شفافية وجنوناً؟
ـ لماذا هذه الهجرة ...الغوص في اعماق الذات دوماً؟ لن تجد شيء سوى الفراغ يا صديقي››
هكذا قال لي إيرلندي زميل لي معجب بصامويل بيكت.
مالي أنا وكل هذه لهواجس المزمنة زنوبات و اوهام وحدي وعزلة الطريق الأفعوان. من يأنس من ؟ كفاي مكورتان طي «جيوب» معطفي ونظراتي (قدم الخطوات) مبعثرتان بين أشباح ماره تترآى وتختفي سراعاً. لافتة زرقاء بإضاءة خابية لمقهى كنت ارتاده من قبل جذبتني اليها فاقتربت منها وضغطت أنفي على زجاج واجهته الصقيل مثل ( أوشوا) الطفل المعوق لتلك السيدة الروسية التي التقيتها هنا في هذا المققهى المفرد عند تقاطع الطريق.
كظل، كفراشة تمايست النادلة بين رواد المقهى ووقفت وهلة قبالة زبونين لتلبي طلب ما ,اومأت برأسها وهي تدون في قصاصة ملصقة على دفتر بني . نظرت الي واشارت مبتسمة بان ادخل. كمشهد سينمائي دارت تلك الامسية في مخيلتي... الشمعة التي تتوسط الطاولة, همهمة الرواد, صرير باب المقهى وموسيقي البلوز المناسبة في انسجام مع اضواء المقهى الخافتة وهمهمة بائع الورود الهندي المطوف بين رواد المقهى العشاق.
آه لقد انتهى عهد الرومانسية ولم يعد سوى قشور ومكياج مزيف. هكذا بغتة همست لذاتي وانا اجالس السيدة الروسية في المقهى عينه , في مساء ربيعي , صافية سماؤه حتى كدت أن أعد النجوم... أشد اذيالها لتشاركنا الانخاب .
- ماذا تود إيها السيد؟ سالتني النادلة وهي تسجل الطلبات على دفتر من الورق المقوى.
- قهوة خالصة ؟ تعرفت على السيدة الروسية الحسناء دونما سبق ارهاص او تكلف .
لم يمض وقت طويل حتى قدمت لي ,بابتسامة جذابة, اشوا ابنها المعوق. حدثتني عنه طويلا لا أدري كيف تذوقت القهوة في ذلك المساء والحزن يعصر قلبي وهي تفض لي بعض اسرارها.
اتدري باننا - في روسيا نخبئ الأبناء المعوقين . تلزمنا الدولة بالتخلي عنهم ووضعهم تحت كفالتها في دور المعوقين . كثيراً ما تطالب الامهات بإجهاضهم ان اثبت الفحص الطبي تعوق الطفل المتوقع ؟.
قلت لها وأنا أحاول الاتزان :
- ولكن .... لكن ثمة حلول دون شك . قد قررت ولادته. كم عظيم إصرارك هذا . اشوا صبي . لطيف كما يبدو, لا أعتقد وجود ما يعتري نموه الفطري ؟.
- هكذا تقول ، تتمنى !!
ضحكت بمرارة ونظرت إلى كأسها وقطع الثلج تطفو فوقه سايحة كأحلام بيضاء على ممض .
- كم حاولوا إقناعي بتسليمه إلى دور حضانة المعوقين. حتى اسرتي واصدقاي ينسحبون حينما اكون معه. اعتبروا حياتي هباءا دون جدوى لأني ارافق مخلوق مشوه !!
- ماذا يحب أوشوا؟
- ماذا تعني ؟
- هل له هواية ما مثلاً أو عن ماذا يحب التحدث؟
لست باحثاً اجتماعياً أو منقذاً للبشرية . أنا مخلوق مستضعف كذلك في المغترب الاوربي !!أ هكذا فضيت إلى ذاتي فيما بدأت هي بالتحدث بجمل مرتبكة متقاطعة .
- لا أدري تماماً. هو مزاجي جداً. أتفهم ذلك , ولكنه يتميز بحاسة مميزة
- ماذا تعنين ؟
- إنه يشخص الناس جيداً ؟ يعرف من هو بنوايا خيرة أو متصنع باللطف تجاهه لأجل التقرب إلي !
نظرت إليها مجدداً (سيدة في نهاية العقد الثالث دون شك حلوة الملامح بلون برونزي على النقيض من ذويها الروس ناصعي البياض).
كان المساء حولنا رائعاً ومأسوياً معاً ....ظل أوشوا وحيداً يضغط بأنفه على كوب الحليب امامه وينقر بأصايعه الصغيرة على الطاولة وينظر بتردد وحياء إلى رواد المقهى . شرب الحليب ومنحته أمه ورقة بيضاء وقلم ليرسم . لم ألاحظ ما رسمه. قالت لي أنه يشخص الناس في رسومات. ضحكت وقلت لها إنه شاعر دون شك.
- من يدري «أوشوا» يستيقظ في الليل ويشرع النافذة حينما يسطع القمر أو تتراءى بعض النجمات بين الغيوم.
حدثتني عن ابنها وحدثتها عن غربتي وعن وطني. استوقفتني معجبة عندما كلمتها عن المتصوفة وحلقات الذكر. سألتني :
- ولكن هل يمكن « أوشوا» أن يشارك في مثل هذه الحلقات
- نعم . وربما توحوهوا زعيماً على الذاكرين .
تذكرت .... تذكرت بعض دراويش لا يختلفوا كثيراً عن «أوشوا « كانوا يعقدون حلقات الذكر ويتمتعون بحب الناس ويأخذ بقولهم «المقلوب» كفلسفة عصية لا يستطاع فك طلاسمها إلا بالتأمل والرؤى. ودعتها كما أودع كل مرة محاولا سدى الا التفت إلى الوراء . ...اه كم يؤلمني الوداع . مد الي « أوشوا» بالقصاصة التي كان يرسم عليها .
- نظرت إليها دائرة بيضاء تحيطها تخطيطات سوداء مترادفة تشكل دهليزا مفتوحة!!
ولكن ما هذه الدائرة البيضاء وسط كل هذا السواد يا أوشوا؟ سألته . لم يجب ، ضغط أنفه على كوب الحليب ونظر إلى أمه . لم ترد هي كذلك .
الطريق طويل أمامي و ساهر ابدا !!!. احس كما لو كان اقصر… انحسر كظل . كل خطوة تسوقفني طيه «معلم « في تلفافيه وانبساطه .
طرقات متفرعة ومباني شاهقة في الأعالي كجني انفلت من ربقة. أحس بدفء بعد يسري في أوصالي , قدماي هما عيناي اتبعهما دون تردد. كم مشطت هذا الطريق ذهاباً واياباً. ماذا منحني؟ أسمعه يرد : منحتك روعة النزهة. استحال السكون حولي الى حزن شفيف عندما شارفت نصب تذكاري تحفه عقود ورود يانعة بعد .
«نصب عائشة التركية. ضحية قتل وحشي» لا أعرف عنها الكثير سوى ما رواه المارة هنا في ذات صباح أحد وأنا أتصفح جريدة الصباح البرلينية. سمعتهم يلهون بذكرها قبالي على مقعد خشبي عتيق في المنتزه العام : ألماني أشيب وامرأتان لا شك أن إحديهما زوجته والأخرى ابنته لجلوسهما متلاصقين ومسح المرأة جواره لشعره. لا أدري ربما هما أقرباء فقط في هذه البلاد التي تشح فيها ابتسامة وادعة ولاتعرف الربت على الكاهل والترهات البريئة سمعتهم يتحدثون وأنا أتظاهر بقراءة الصحيفة :
- أحرقها والدها ؟
- لا لا أخوها ... ولكن لماذا كل هذه الوحشية ؟
- قتلها... بأكثر من طعنة . قال بأنها عار على العائلة... لطخت سمعتها بما مارسته.
- يبدو أنها كانت على علاقة بشاب ألماني. هكذا الأتراك لا يقبلون حرية المرأة. أعرف أكثر من تركي يمارس الجنس مع الألمانيات ؟ لماذا لا يقبلون بحرية المرأة إذاً قررت فعل ما تود؟ .
- لا أدري. يبدو أن ذهنية الرجل الشرقي المتصلت لم تزل راسخة فيهم . أين يعيشون؟ وفي أي عصر!!
- لم يندمجوا بعد في مجتمعنا الألماني ! هل أتيت بفتات الخبز لنطعم البط في البحيرة !
نظرت الشابة إلى حقيبتها وأخرجت كيس ورقي ورفعت نظراتها فرأتني انظر اليهم . وقفت متأبطة ذراع السيدة والسيد جوارها ثم ساروا في اتجاه البحيرة .ها انا قبالة النصب التذكاري الناصع البياض وقد تركزت عليه أضواء قادمة من بعيد فاتضحت عليه تخطيطات سوداء وأخرى ملونة متداخلة لم أستطع قراءتها سوى سطر منها بخط أسود كثيف «إلى الجحيم أيتها العاهرة›› والى جواره كتب بخط مهتز(نامي غريرة العين ايتها الثائرة الرائدة )كما تراءت لناظري خربشات ونقوش وقلبين متداخلين .
هذا عالم فوضوي يديره الجشع واللاجدوى .
زحمت مسمعي هذه العبارة ليوناني زمهري القامة يعمل في دار للطباعة جواري. جاء يعمل هرباً من العطالة في بلاده. شق سكون الطريق قرع أجراس كنيسة متواتر. عددت الضربات… أثني عشر تماماً, لم أكن أدرك حينما قدمت الى العرب الضبابي قبل سوات عديدة هدف ضربات الأجراس المرتبط بإعلان الوقت إلا فيما بعد .عندما زارني ألماني ذات مرة لأوقع مع سكان الحي في قائمة اعتراض على ضجيج الأجراس كل ساعة لإعلان الوقت او القدوم للقداس لاسيما يوم الأحد وفي الأعياد المسيحية : قال وهو يهز رأسه
- لا يمكن السكوت على هذه الضوضاء.
أعرف أنه ألماني شيوعي يقف ضد بناء الكنائس ويمقت الدفاع عن الأديان. قلت له بان العالم تغير ولم يعد كارلس ماركس ألا متحفاً أثرياً. قلت له ذلك وليتني لم أتفوه به فقد أبحر لأكثر من ساعة في التحدث عن كارلس ماركس - نبي العصر- كما كان يسميه وسيادة الرأسمالية وتحول الكنيسة إلى أداة مسخرة للسياسة.
الطريق طويييييييل يهدهده قرع أجراس كنيسة تترنح كضروع بقرة حلوب .
في ليل كهذا لا يمنح سوى الصمت والغور في الذات السليبة أحس, أحس بالعزلة وقرع عنيف على باب ذاكرتي الموصدة . من ترى القادم من قصي.من ؟ الطريق طويل يكاد ينتهي فيبدا من جديد .مفرد هنا تشدني قدم الخطوات ولكن الى اين في هذا المساء !! الطريق طويييييييييل ياخذ مني ليمنحني مجددا. خطوة أثر خطوة سرت قدماً فانتهيت عند «الينبوع»… نافورة المياه الصافية المتدفقة من رأسه الأسد. ما أروعه في الربيع وما اجمل الغشاق ماثلين أمامه كنساك في معبد.
من كان يتوقع أن تشيد هذه النافورة؟ ما من ساكن الماني اواجنبي على امتداد هذا الطريق!! انتعشت الساحة بهذه النافورة الأنيقة، عروسة الموكب بؤرة حقل الزهور حولها. كلهم حضور هنا ( العازفون والبهلوانات والرسامون والعشاق ... آه العشاق فرادى وأزواج ينخلون الحب رسومات على جذوع الأشجار ومقاعد الحديقة العتيقة) ..برغمان ). هو النحات الرسام مشيد النافورة. سكن فترة جواري وانتقل إلى حي آخر حيث قضى نحبه قبل ان يشهد افتتاح الساحة وتدفق الماء من راس النافورة الاسد . كم تمنى رؤية نافورته وسط الساحة . كنت أصغي للموسيقى الكلاسيكية والبلوز المناسبة من اسطواناته العتيقة. سألني :
هل تزعجك الموسيقى التي أستمع إليها ؟ هل أقلق راحتك ؟
- لا يا سيد برغمان.
وددت أن أقول له بأني أنام غرير العين لسماعها , ألا إنني أثرت الصمت. كانت شقته متحفا أثريا. في كل زاوية لوحة وشابلونة ألوان ولوحات وأوراق سميكة وأزميل ومطرقة. لا أدري كم من تمثال داخلها وكم من حسناء قدمت إليه ليرسمها أو ينحت لها تمثالا مكور النهذين كهذا التمثال المشفق على نفسه من حمل نهذين ممتلئين بسخاء. لابد ان اسيد بيرغمان نسي كفيه فوقهما !!
- اتحب نحت تماثيل نصفية فقط !!
- إلى أدنى النهدية فقط.
ضحك وواصل قائلا : إلى هنا فقط إلى هنا. وعقد كفيه فوق نصفه الأسفل. أقمنا له تأبيناً حول النافورة التي كان يحلم بأن تجد مكانها في هذه الحديقة التي أحبها كفنه . كانت أعز عليه من أسرته وأصدقائه .
لم تبك ابنته على وفاته. صامتة وقفت يميني في مراسم التشيع وقالت للقس المشيع.
ـ كان أبي على الورق وظل أباً روحياً لفنه .لم يحفل بنا ولم نحفل به. لم أعثر على صورة فوتوغرافية اوتذكار واحد لنا وسط صوره ورسومه المترادفة حتى سقف الغرفة .
أنا الآن وحدي أمام باب غرفتي أتردد من فتح بابها ولا أستطيع بعد التجوال . قدماي أضربتا عن المشي ولم أعد أحس بدفئ بعد يسري في أوصالي المرهقة فقط تعب كألم ممض. نظرت من أعلى الدرج إلى الطريق الليلي الطويل مرة أخيرة فرأيت الاشارة حمراء ورجل مشدود القوام يقف قبالتها في انتظار الاشارة الخضراء. كقذيفة شق الليل المطبق صوت توماس المتسول وهو يجلس متدثرا بمعطف في زاوية مهملة عند منعطف الطريق ككلب منبوذ
- اللعنة على النظام واللوائح. اللعنة
وحيداً في الليل , أجتاز الطرقات تحت المطر.
مهداة هذه القصة الى (لي أكسنق) الكهل الصيني الحكيم الشفيق الذي التقيته في الحي الصيني بلندن.
amir.nasir@gmx.de