سبتمبر الأخضر: نفح الذكرى ومرارة التاريخ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ } تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب .
أحبتي أخواني و أخواتي الأبرار ، شهداء هبة سبتمبر العظيمة و الذين فارقوا هذه الدنيا الفانية بعد أن طالتهم يد الغدر اللئيمة الباغية بغير حق .....
سلام من الله ورحمته تغشاكم جميعا في مرادقكم ، وجعل مثواكم الفردوس الأعلى من الجنان مع الصديقين والشهداء و حسن أؤلئك رفيقا
وبعد التحية العطرة
أني والله العظيم لأفتقدكم بشدة بعد مرور عام كامل على رحيلكم المر . أفتقدكم بعد أن غادرتم بأجسادكم و أرواحكم دنيانا الدنيئة و وطننا المنكوب الذي بات تتصارعه الكلاب و يسوسه قوم ظالمين خرجتم عليهم سلميا عزل من أي سلاح أعتراضا على سياسات حكمهم الخاطئة والفاشلة والتي أورثتنا والبلاد كل تخلف وأنحطاط و أنقسام ، فما كان منهم ألا وقد ردوا أليكم سلميتكم بالقتل و العنف و الرصاص .
قوم سلطهم الله علينا تعرفونهم حق المعرفة ، طغوا في البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، ومازالوا على دأبهم هذا ينقضون في كل يوم عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ماأمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض والأنسان ، دون أن يراعوا في ذلك رهبة أيمانية من الخالق أو حياءا حاكميا من المحكوم المخلوق
لم يبقى في حياتنا اليوم في سوداننا الحزين كما حدثنا الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلم من الأسلام ألا أسمه ، و من الأيمان ألا رسمه ، ومن القرآن ألا حرفه ، حتى صرنا كالدواب الهائمة يسود الظلم فينا كل أفرد المجتمع ، همنا عيشنا و بطوننا ، ديننا المال و السلطة نحبها حبا جما ، نسعى أليها ليل نهار حلالا و حراما .
قبلتنا الغناء و النساء والطرب في الأعلام و في الشارع وخلف الغرف المغلقة ولو على أشلاء الجثث ومعانة ومأساة الغير منا .
الحرب مازالت مستعرة في شمالنا المتخلف الفقير و جنوبنا المنفصل تحصد الأخضر و اليابس ، وحياتنا خربة يعم فيها الهرج و المرج كل مكان .
في حياتنا أيضا يوسد الأمر في أي موقع لغير أهله ، يصدق الناس الكاذب ، ويكذبون الصادق ، يحترمون مختلس المال العام ويحتقرون الفقير العفيف ، وتقتل النفس التي حرم الله قتلها ألا بالحق من دون سبب ، فلا القاتل يعرف فيم قتل ، ولا المقتول فيما قتل .
رحلتم عن دنيانا بعد أن خلفتم ورائكم في قلوبنا كدرا مستداما ، وفي قلوبنا حزنا دفينا ، وفي مآقي العيون دمعا سخينا ، وفي الأجساد جرحا ثخينا ، وفي عقولنا خللا كبيرا .
هل يعقل أن ينام القاتل من بعدكم قرير العين هانيها ، ثم يمشي بين الناس حرا طليقا مطمئنا دون حساب ؟
أيعقل أن يهنأ أحد بالعيش بعد اليوم في وطن ديست فيه كرامة الأنسان وعدالة الأرض تحت الأقدام وكنتم أنتم وغيركم أكبر مثال لنا لذلك ؟
هل سيحكي الناس والتاريخ عنكم تضحياتكم و بطولاتكم كما كان مع سيرة القرشي وثورته المباركة المكتملة في أكتوبر الأخضر ؟
هل ستردد الألسن ويأتي اليوم الذي تخلد فيه دولة العدل و الحريات والديمقراطية والمساوة أسمائكم ؟
هذا مايأمله المرء وهو يخط الحروف و الكلمات عنكم في الذكرى الأولى لرحيلكم حزنا و شوقا أليكم ، في أحوال غير الأحوال و ظروف غير الظروف ، فلم يعد أمامنا حل غير أن نحاور أنفسنا و نشجع غيرنا بضرورة الأستمساك بالعروة الوثقى و رفض الظلم و الجهر بالرأي الآخر وقول الحق في وجه السلطان الجائر وقبول البديل أي كان هذا البديل . ولعل وعسى !
***********
قبل أن أبدأ سرد قصتي مع هبة سبتمبر يهمني أن أنبه القارئ الكريم أنني أعتمد فيها كثيرا على الذاكرة و العاطفة مهتديا بما سجلت من تعليقات و خواطر بعد كل يوم مر فيها ، وحيث أن الأعتماد و القياس على ذلك السندين فيه جنوح سلبي كبير عن القياس العلمي الدقيق للحدث ، وقد لايكون مجديا أو مقبولا بعد مرور الأيام وأنقضاءها عنه ، لذلك فقد يحمل المقال شيئا من الأخطاء ، تكون محمولة كلية على رؤية شخصي للحدث وتفاعلي معه أدبيا لا توثيقيا مما قد يختلف مع الآخرين .
أود أن أقدم في بداية حديثي بعض الهوامش العابرة التي سقتها من خلال تجربتي على الأرض في الهبة ، و هي وأن أطلقت عليها نعت الهوامش ، ولكنها وفي رمزيتها تعطيك براحا كبيرا لتأمل الفاجعة ، و قدرة كبيرة على تفهم حماسة البدايات التي صاحبتها و تقبل مرارة النهايات ، التي لحقت بها ، و أنتهت عليها هذه الهبة المباركة . ومن ذلك نسوق الآتي :
1 - كان لي ومن باب الصدفة البحتة شرف أن أكون حاضرا بالتواجد الجسدي في الموضع الذي بدأت فيها الشرارة الأولى للهبة بالعاصمة ، وفي الموضع تقريبا الذي كانت فيه آخر تظاهرة كذلك .
2 - قصتي مع الهبة بدأت شحنتها مع طفل صغير مناضل بريء بطل في مرحلة الأساس لايتجاوز عمره العاشرة ، وأنتهت كذلك مع طفل آخر من نفس المرحلة المذكورة يحمل نفس القيم النضالية الخلاقة التي آسرتنا وكانت بارقة أمل لنا بأن ورغم قتامة الصورة ولكن الباطن في طياته الكثير من الجمال الذي غفلت عنه الأبصار و العقول .
3 – كانت هنالك أرهاصات معروفة للكافة لبداية أنطلاقة شرارة الغضب كمثل ( زيادة تسعيرة المحروقات – ومؤتمر رئيس الجمهورية وعبارة الهوت دوق الشهيرة ) ، فهي التي أججت الغضب و الرفض الشعبي ، وكان لها الأثر البالغ في خروج جزء من الشعب السوداني للشارع للتعبير سلميا عن رفضه لسياسات الأنقاذ دون أن يكون للأحزاب أي دور أساسي في ذلك .
4 – ولكن وفي مقابل ذلك و أثناء الهبة كانت تحيط بالشباب الثائر و الخارج للشارع تظاهرا سلميا رياح ( سلبية ) عاتية غير مرئية من الداخل ، رغم السند الأسفيري القوي ( الأيجابي ) الظاهر والذي كان يأتيهم من الخارج ، وسوف نضرب أمثلة لذلك لاحقا .
5 - مايجب التأكيد عليه أيضا أنه كان لقنوع الأغلبية الصامتة المرعوبة من بطش أجهزة النظام ، و ألتزامها الحياد والجلوس في المنازل لمتابعة الهبة من خلال القنوات الفضائية وهي تعيش داخل العاصمة ، أعظم الأثر الكبير في عدم أستمرارها وأنتهاءها على ماأنتهت عليه .
ويبقى أسوأ مافي هذه الجزئية أنه وما أن أستكان الهدوء وعاد الناس لأشغالهم العامة و بصورة طبيعية ، كأن شيئا لم يكن ، حتى أنقلب النظام على هؤلاء الشباب المغامر المسكين الذي خرج في الهبة ، فبدأ معهم حملة تصفية حسابات قذرة عبر أعتقالات واسعة طالت الكثير منهم من الذين سولت لهم أنفسهم الخروج للتظاهر في الشارع أنتهت للأسف الشديد بعمليات تعذيب قاسية جدا في بيوت الأشباح .
6 – رغم مايقال على أن الشعب السوداني فطن وخبر لأكاذيب و مغالطات أعلام هذا النظام ، خصوصا في تلفزيون عبدالله بن أبي بن سلول ، غير أن الشواهد على الأرض جاءت لنا بعكس ذلك و كشفت لنا ولكل الشباب الثائر في الهبة أن الأعلام الحكومي الذي يحيط بالمواطن من كل جانب خصوصا المرئي منه ، وعدم وجود أي قناة أعلامية مضادة للمعارضة كان له أثر كبير في تشكيل الوعي العام الشعبي و أثارة الرعب بين المواطنين وألتزامهم المنازل ، وتنفير الناس من فكرة الثورة و الثوار أثناء الهبة .
فقد أشاع النظام عبر كل وسائل أعلامه المتاحة بشكل مكثف أن هؤلاء ليسوا ألا مجرد شباب مخربين و ناهبي أموال مغرر بهم من جهات خارجية معادية وأسند ذلك بتصويره للخراب الذي طال بعض الممتكلات الخاصة و العامة ، فكان الكثيرون يطالبون الشباب الثائر بالكف عن التخريب ومقابلة رصاص ألوية النظام بالسلمية !
7 - أشاع النظام أيضا عبر أعلامه أن هؤلاء الشباب الثائر و الخارج للشارع تظاهرا لا يملكون أي مشروع وطني للتغيير غير الفوضى ، وسار في نفس السيناريو الأعلامي الذي أعتاد عليه النظام و تدربت عليه كوادره كثيرا وظل يرسمه لمثل تلك الحالات من الأنفلات الأمني في مخاطبة مواطن الداخل ، ودونكم على ذلك مثالان ( أحداث الأثنين الأسود التي أعقبت مقتل الراحل قرنق ، و دخول الراحل خليل أبراهيم لمدينة أم درمان ) وكيف أستطاع النظام بدهاءه المعهود كسب الشارع العام لصفه .
8 – وضح لي أن المجتمعات التي تعيش ردحا طويلا تحت نير قهر و أستبداد الأنظمة الديكتاتورية ، تحتاج في حالات الغضب و الخروج عن الحاكم التي قد تأتي عفوية بين الفينة والأخرى الى أمران أساسيان من أجل أن تحقق غاياتها في التغيير السلمي وتحويل هذه الهبات والتظاهرات الي ثورة شعبية مكتملة الدسم .
أولا تحتاج القيادة السياسية الشريفة التي تثق فيها ثقة عمياء وتحمل نفس آمالها و همومها ، وثانيا الى التنظيم الدقيق لهذه الجموع الخارجة من أجل توجيه جهدها بشكل أكثر فعالية ، هذا أذا ما أرادت الأنفكاك من طوق عبودية ومصارع أستبداد السلطان ، والقيام بأنتفاضة حقيقية سلمية مدنية ، وهذا للأسف ماأفتقدته هبة سبتمبر العظيمة وكانت في أمس الحاجة له من أجل الوصول لحسن الخاتمة .
8 - نحمل عتاب آخر لبعض الكتاب و المواقع التي تتبنى خطا أعلاميا ضد النظام في مسألة تجريم و تقبيح و الهجوم على بعض الأحزاب التي تشكل النقيض أو الطرف المقابل للنظام دون أن نحدد حزب أو جهة بعينها .
نعم نحن نرى ونقر أن في كثير من المواقف السياسية التي تنتهجها قيادات هذه الأحزاب فيه دعما سياسيا لتثبيت النظام ، لكن السؤال الذي يجب أن يطرح ...... هل مشروع الأغتيال الأعلامي لكل هذه الأحزاب ،وشخصياتها يصب في مصلحة التغيير أم في مصلحة تثبيت أركان النظام ؟
هل يمكن أختزال كل هذه الأحزاب والكيانات التأريخية التي أثبتت جميعها فشلها في مسألة قيادة الوطن الى مرافئ الديمقراطية التي طال شوقنا و سفرنا أليها في شخص او شخصين في سدة قيادتها ؟
ماهو مثلا ذنب شباب هذه الأحزاب الخلص الذين وجدناهم قد خرجوا جميعا للشارع في الهبة نصرة لمعانة المواطن المكلوم الذي وضح أن النظام ومفسديه لن يفهموها ولن يفهمومها ، متجاوزين في ذلك قيادات أحزابهم من حملات التشويه القاسية التي تطال كياناتهم من أفراد أو جهات تفترض أنها محسوبة ضمن معسكر المعارضة ؟
كيف لنا أن نحارب النظرية التي يرددها الكثيرون من أبناء الشعب السوداني ويتبنها النظام كثيرا وهي أنه لا بديل سياسي جاهز للأنقاذ في ظل حملات الأغتيال العشوائي التي تطال كل أطراف المعادلة السياسية في البلاد ؟
كيف لنا أن نخرج المواطن السوداني من قوقعة حتمية العيش أما تحت مطرقة جحيم الأنقاذ أو الركون لسندان جحيم الفوضى الشاملة ولفترة قد تطول ،أذا ماأنهار النظام ، كما حدث في كثير من دول الربيع العربي بعد ان انقلب ربيعها خريفا فيما بعد ؟
هذه مجرد هوامش عابرة قصدت أن أسوقها كمقدمة لتجربتي المتواضعة مع الهبة ، هي ليست بقصد المحاكمة و التجريم ولكن من أجل عصف ذهني يقودنا يوما ما لأفضل الحلول للخروج ببلادنا من مستنقع الأنقاذ الى دولة تنبذ الكراهية والأستبداد و التطرف و الأحتكار و تعلي راية المواطنة و تسع الجميع بمختلف أنتماءتهم السياسية و الأثنية و الدينية بمن فيهم من ينتمي حاليا لهذا النظام أو عاونه على الظلم .
ويبقى للحديث بقية
teetman3@hotmail.com