من قصيدة -الأسير- للشاعر والقاضى السابق عبد المنعم عوض- من كراسة اليواقيت
أخى وأثيرى الحسن؛ الزين الحسن ؛إبن الحسن ؛
الودود الذى حبوته بالإختصاص من بين الناس ؛ طلق المحّيا الذى شاطرته الإقامة فى بيت الأساس برفقة الأحباب كلتوم وأبوالناس ؛ المتفائل الضحوك الذى قاسمته وثبة الآمال فى عهد الثورة الطالبية والانتفاضة والرصاص؛ الملتزم العفيف الذى حلمت معه بغد مشرق وزاه لأهل السودان فكان ذلك دافعا لخوض النضال السياسى والعمل السرى إبان عهد الدكتاتور النميرى وهيمنة الازدراء والافتراء ؛ وهتفنا معا بافواهنا وأرواحنا مع جموع السودانين فى انتفاضة رجب-ابريل 1985-المرتقب أوبتها بعد حين- لسودان حر ومستقل من الاعيب الامم وإزدراء الدول ؛ وانتهاكات المستبدين؛ وطالتنا زخات الحنين ومرارة التشرد فى عهد الإسلامويين الطويل الطوّال ؛ والممتد بلا امل او طمع فى رده والإحاطة بملكه وحقده؛ وخبرت وإياه غيهب الغربة الأوربية والأطلسية التى كثيرا ما حسبتها الفئة الباغية فنادقا من فئة الأنجم الخمس؛ دون ان تتقرى ايديهم غرفاتنا الضيقة الباردة باللمس ؛حيث لا آذان يصدع ولا دفء عشيرة يلتمس ولابرء من زفرات الحنين يرتجى؛ وعشت معه ونخبة جيلنا المتفرد ؛ مناحة السودانيين فى عهد الانقاذ الوبيل وقسوة عصر التمحين والتدجيل وفظاعات نظام التمكين والتخذيل؛ بدون خنوع او إنكسار إلا لله المتكبر القهار.
أثيرى ابو على - الإسم الكيانى أوالكنية الكيانية ولا أقول الحركية-(العبارة التى يمقتها الراحل الدائم الدكتور عمر نور الدائم صيب الله ثراه وعطرّ مرقده ومثواه لما نالنا من حركاتهم من جور وعسف ومنع للنصّف وركام للأسف) - التى اسبغها عليك الإمام فى حقبة من سالف الأيام ؛ أيام عصر الصحوة بكوادرها الفتية وقلوبها الوفيّه وعطائها الوافر المبخوس؛ وعلو قامتها فى التغيير والثورات اذا إشرأبت الرؤوس ؛ والتى كنت ايها النبيل احد حداتها وروادها الناشطين ضمن جمهرة النشطاء والخريجين. واصحواه! مابات يذكر هؤلاء المخلصين سوى ثلة من المصطفين الأولين وقليل من النشطاء الآخرين.
لقد هدّنى نبأ وفاة زوجك واختنا لمياء فما زلت احاول ان استرد تماسكى الذى تبعثر... لأواسيك نيابة عن جيل شاركت فى بنائه بيدك ومنحته قدرتك وبذلت فيه جهدك وأفنيت فيه زهرة شبابك ؛ ومعارضة ضارية لقبضة طاغوت الاسلامويين طوال السنوات العشرين ونيف والتى أخذت قسطا مخصوما من عمرك ؛ فما زادتك البلايا إلا مزيدا من المزايا إذ لا زلت صبّارا تلقى بدلوك فى الدلاء. ولقد عشنا معا بداءات ودكما الذى كان بضا برعما حتى صار زواجا ميمونا شّكل إحدى نوافد الفرح الجميل فى الموسم الديمقراطى المغدور به ؛ ثم غدا نسبا وصهرا فى ذاك اليوم الودنوباوى الذى تعلم؛ فى قلب الحى الانصارى الشاهد والشهيد واهله الأنصار الاشاوس الأفاضل الكرام المظلومين بقصد مرات عديدة: تارة من نعاثل السفوح وتارة اخرى من صقور الشماريخ والمحدثين الرافلين فى النعماء والمشتغلين بأغراضهم والمنشغلين باهوائهم.
إن الدنيا التى رأيت فى المشرق والمغرب لم تشغلك زهرتها ولا امتثلت لملاكها ولا اجتذبك زخرفها ؛ مكتفيا بقول الامام المهدى- الدنيا جيفة وطلابها كلاب- وما تغربت من اجل مال او روائع الحصيد ؛ سوى عزة النفس وإحتساب التضحية من اجل السودان الذى احكمت من حوله القبضة ممن يقرأون القرآن فلا يجاوز حناجرهم ؛ والذى أضحى مسخا وهو الحديقة الوارفة-الواعدة وأستحال إلى جغرافيا غامضة ومخوفة؛ حيث " تنام التماثيل واقفة من خشية السقوط على وجهها" إذ بات لا يهوى سوى النكوص والانتكاس والتقلّص والإنكماش فى دولة رسالتها المثلى التشّظية المتواترة وسمتها الكبرى السيادة المستنفدة وقيمتها العليا كوجيتو التهويش والتبخيس فى زمن الهرج والمرج...
يا ابا على:
ها قد بلغنا الكهولة ؛ ولا يزال حلمنا الكبير متقهقرا إلى الوراء ؛ فما زالت الحرية ؛ التى أعاد اكتشاف تاريخها الامام المهدى؛ مثل طائر الفينيق الأسطورى ؛ عصية المنال تندس خلف أحجبة التكهن مقهورة خلف أبنية الخرطوم المتشامخة بطرا وعمارات الأسمنت والحديد التى تزحم فضاءه الرحب علوا فى عصر الأفول الدنىء الذى لا تنذر نهايات هيمنته السمجة إلا بدولان الدولة بالحريق العرقى أوالإحتراق المعولم بعد ان اُبتيعت جملة بيعة وكس.
أثيرى الحسن:
لقد شهد زواجكم الميمون خلال العقود الثلاثة الماضية ؛ المزاوجة بين النبل والعطاء والوطن والغربة والنضال من اجل الحرية وإستعادة الديمقراطية فى مجابهة لا تزال مستمرة ؛ خضتموها مع اندادك فى جيل كتب اسمه فوق هامة السودان ؛ بيد انه كان بقصد يحط بلؤم فى الحضيض والثرى؛ ويجر مرغما إلى الوراء ؛ عايشت آماله المتكسرة غياهب الغربات وقمع التطلعات والتشتت فى الأمصار والأقطار حتى ان المرء ليحار متى يعود هؤلاء الى موطنهم الأصل والفصل وقد إنفلق شطرين؟! لا سيما ان كثيرين يجزمون ان غربة الأمصار اقل وطأة من الغربات التى أرخت سدولها على الديار.
لقد قضى الله ان ترحل لمياء شهيدة (مقتولة بسوء الطبابة) لتلحق بالسابقين من اهلها شهداء ود نوباوى؛ وكنت امنى النفس ان يمتد بها الأجل لتشهد يوم السودان الموعود بالنصرة والغلبة وإندحار المدينة المؤتفكة بإنتفاضة الشيب والشباب والنساء والطلبة. ولقد كانت لمياء شوّافة المستقبل؛ عميقة الباطن وشفافة الروح ؛ فكانت لا ترى مناما إلا وقع كفلق الصباح. وكانت اكثرنا وفاء للوطن وأشدنا يقينا فى مجابهة المحن؛ واروعنا انتهاضا ومثابرة فى مصارعة الفتن. فقد عادت إلى السودان لا مبالية بمكابدات إحنه ومحنه؛ لتجد ان الغربة قد ترسخت وان النوايا قد ضمرت وان الخارطة قد انشطرت وان الآمال قد زوت ؛ والناس قد تغيرت ؛ وام درمان قد صلبت ؛ والظلم قد حط بكلكله؛ فلزمت حيها ودنوباوى فى صمود وإباء وهى المتصوفة أصلا والخيرّة طبعا ... فى دنيا كان ديدنها طوال سنى عمرها القصير قول الامام المهدى- ولا تجعل فى قلوبنا ركونا لشىء من الدنيا-.
وإنا لنشهد انها عاشت معك فى طيب خاطر وركبت معك طوعا ثبج الأهوال والمخاطر ... فلم تطلب منك لا ذهبا ولا مالا؛ بل شاطرتك اللقمة الحلال ومنحتك ثمرة العيال والأنجال. فيما ظللت انت فى ترحال مهِوما ما بين القاهرة وواشنطون ولندن وام درمان والدوحة ؛ من صوت الأمة إلى صوت امريكا ؛ فأم درمان ثم فضائية الرّيان؛ مهاجرا ومكابدا من اجل العيش ؛ بلا جنيِة إقترفتها يداك سوى إنك واحد ممن انتاشته بلؤم سهام القاسطين بإسم الدين.
وفى وطنك السودان الذى روته دماء أجدادك فى كررى وشيكان من اجل حرية ورفعة الانسان لاشك انك قد رأيت بعين الصحفى المطبوع ويقين الانصارى المبيوع (لله) القيود المقيِدة والمتاريس المشّيدة والشباب الحائر والحزن الغائر فى وجوه شعب كاد ان يكون مختارا- وإن لم يكن فكأن قد- من كثرة مدافعته للظلم والظالمين عبر الاعصار والسنين والذى ابتلاه الله بإنقلابات العسكريين وسطوات اهل التمكين.
ولا شك انك ابصرت بأم عينك إستعلاء سلم القيم الوافدة الجديدة ؛ وتبارى المترفين فى تشييد القصور واستباقهم ونفرتهم للعيش فى زهو وحبور؛ وهول المستضعفين والفقراء الذين طحنتهم ماكينة جباية ملك الاسلامويين العضوض؛ يبيتون غرثى بلا شىء يقيم الأود ؛ ويتقلبون فى أسرتهم خماص البطون وقد كادوا يربطون عليها احجار المتصوفة ليشدوا بها اسرهم؛ فإن سألوا كُبتوا وإن إحتجوا قمعوا وان خرجوا ذاقوا النكال أو قتلوا.
ليرحم الله كل من هب إلى عزائك فى تلك الخيمة المنصوبة بجوار المسجد الرحمانى العتيق الذى ما إنفكت ساحته الكبرى مجمعا لصلوات الجمع والأعياد ونبراسا للهداية والإرشاد ؛ ورباطا مستداما ضد الظلم والاستبداد ؛ شاهدا لخطب الاسباط من الائمة وحاديا للثورة وحرية الأمة ؛ مزدهرا بهتافات الله اكبر ولله الحمد ووقفات الاحتجاجات المنداحة من أجل العلا والمجد ؛ ومجمعا لتدافع المتواصيات والمتواصين بالحق والصبر ومربعا لدعوات اهل اللطائف ضد الحيف والجور وموعدا لللقصاص والثبور ضد من لبس للسودان واهله جلود النمور. لقد بعث ذلك المشهد فى ذاكرتى تصدى الانصار البواسل الذين ركبوا صهوات المجد المنيف والعز المنيع وبذلوا للموت انفسهم فرفعوا فى الحياة سهمهم وكتبوا بدم الشهادة باذخ شأوهم.
فيا سعدى لمياء الراحلة الى الرفيق الأعلى مهتديه بهدى الإمام المهدى وسالكة سكة المصطفى (ص) فهل كانت حياتها القصيرة إلا إفاضة فى عالم الرّوح والأنوار منتقشة بقول الامام الاكبر– إن للدين بواطن وأغوار. طبت سيدتى لمياء فى الدنيا والآخرة ... وطوبى لك ايتها النفس الطيبة الأبية والزوج الصابرة الوفيّة... والله نسأله إن يلحقك بالسابقين والصالحين من اهلك الشهداء حماة الوطن والدين؛ وان يلهمنا ويلهم الحسن ومحمد احمد ودانيا وحسام وعشيرتك الانصار من آل هبانى الصبر واليقين ؛ والثبات بالقول الثابت فى الدنيا والآخرة. آمين "