اكتشاف أقدم دليل لفن النقش (الحفر): في التاريخ البشري: الماهية والدلالة. بقلم: بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير 
عميد كلية الدراسات العليا – جامعة بحري 
نشرت مجلة " الطبيعة – Nature" الأكثر شهرة عالمية في مجال الدراسات العلمية التطبيقية في عددها الصادر بتاريخ الثالث من ديسمبر الجاري (2014م) خبراً مهماً مفاده أن فريقاً من علماء الآثار الهولنديين بقيادة جوزفين جوردين  ) جامعة لايدن – Leiden ) تمكن من التعرف على أقدم دليل لفن النقش (الحفر) – Engraving في التاريخ الإنساني. فقد تم العثور على قطعة محار متحجرة (Fossilized Shell) في موقع أثري على شاطئ نهر نجوان سولو بشرق جاوه (إندونسيا ). وبالكشف عن طبيعة المحارة ومحتواها بالميكروسكوب الإلكتروني ، إستبان للباحثين أن ثمة خطوط زقزاقية ( متعرجة) تمثل أقدم دليل لفن النقش (الحفر) نفذه الإنسان في التاريخ بإستخدام أداة عبارة عن عظمة سمكة وتؤرخ إلى  500,000 سنة من الوقت الحاضر . ولا يعرف علماء الآثار لماذا أقدم الإنسان في هذا الموقع على خط هذا التعبير البياني ( النقش ) ؟!. ونسب الباحثون هذا النقش الفني إلى "الإنسان المنتصب القامة" ( Homo Erectus) والذي عاش في الكوكب الأرض في الفترة ما بين 1,9 مليون سنة حتى 150,000 مضت .وجدير بالإشارة ،أن هذه المنطقة ”جاوه" التي عثر فيها على أقدم دليل لفن النقش (الحفر) الإنساني هي ذات المنطقة التي وجد فيها عالم الإحاثة  Paleontologyالهولندي أوقين دوبيوس عام 1891م جمجمة " إنسان جاوة – Java Man" المعروف بإسم " البيثكانثروبس – Pithecanthropus". وعاش هذا الإنسان القديم ويمثل أحد أسلاف البشر في الطور الرباعي لعصر الكاينوزوي قبل مايربو عن مليوني سنة خلت .
ولامشاحة أن الفن يعتبر من أهم خصائص الجنس البشري . وتحضرني هنا مقولة لعالم الآثار السوداني الراحل الأستاذ الدكتور أسامة عبد الرحمن النور إذ يقول : " إن المواد التي تم تجميعها عن طريق الجهود الرائعة للعديد من علماء الآثار تدحض كل المحاولات التي يبذلها بعض العلماء النظريين لعزل الفن عن المجتمع والباحثة عن بدايات ما للفن في عالم الحيوان والهادفة للتأكيد على أزلية الشعور الفني لدى الإنسان"  . وكما هو معلوم ، فإن غاية الفن هي الجمال وأداته الشعور ووسيلته الذوق . ويعمل الفن – كما الأدب أيضّا – على تثبيت القيم الفاضلة والمثل العليا وتنمية الإحساس بالجمال ليس فقط بغرض الإمتاع الذاتي ، بل أيضّا لتدبر بديع صنع الله جل شأنه في هذا الكون العريض ، ولتعظيم مُلكه سبحانه وتعالى والذي لاندرك منه سوى النذر اليسير .
ويرى العديد من علماء الأنثروبولوجيا أن ظهور الفن البدائي نتاج سلسلة طويلة من المقدمات التي إستمرت لملايين من السنوات من تطور المجتمع والعمل الذي أحدث تحولات وتغييرات جذرية في طبيعة الإنسان وحواسه ومقدراته . 
وفي تصوري أن أهمية إكتشاف "جاوة" لبداية فن النقش ( الحفر) أنه أطـــاح بأحد مسلمات علماء الآثار و الأنثروبولوجيا والقائلة بأن البذرة الأولى للفن الإنساني بدأت منذ أواخر المرحلة الموستيرية(Mousterian) للعصر الحجري القديم الأوسطMiddle Palaeolithic  ( 120,000 – 45,000 ق.م) . وكانت تلك البذرة هي المقدمة السابقة للتطور اللافت للفن الذي ميز بشكل خاص العصر الحجري القديم الأعلىUpper Palaeolithic (45,000 – 10,500 ق.م). ولاريب أن إنسان العصر الحجري القديم الأعلى قد خطا خطوات كبيرة للإرتقاء بشتى ضروب الفن خاصة الرسومات والنقوش المنحوتة على جدران الكهوف والمآوي الصخرية . وتتبدى آثار ذلك الفن المميز – على سبيل المثال – في أروبا بكهوف التاميرا على خليج بسكاي في شمال إسبانيا وفي كهوف كومبارس ولامادلين بفرنسا وغيرها . وإستطاع الإنسان القديم في تلك الفترة تسجيل أعماله البارعة والمتنوعة معبراً بصدق عن البيئة المحيطة وبدقة عن أهم السمات الأكثر فائدة وإلتصاقاً بشئون حياته الدنيوية والروحية . وأصبح موضوع الفنون البدائية موضوعاً جاذباً لعلماء الآثار وتخصص فيه العديدون . ومازال الجدل محتدماً حول معناه ومغزاه . بيد أن الشئ المهم هو دلالته التي لاتغرب عن البال في مجال الفكر والمعتقد ثم ثراء الحضارة الإنسانية في عصورها القديمة (الحجرية والبرونزية والحديدية) والمتمثل في أساليب الإقتصاد المعيشي والتقدم الجلي في تقنيات الأدوات . وأخيراً بروز السمات الدالة على التعقيد والتطور الإجتماعي الذي يتمظهر في الأيدولوجيا والثقافة الإنسانية كالفنون والآداب وغيرها من مؤشرات العلاقات الإجتماعية الجديدة التي باعدت بين الإنسان والكائنات الأخرى وإرتقت به إلى مصاف "الإنسانوية" وهي أرفع درجات التقدم الحضاري . والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.



بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير
khabirjuba@hotmail.com

 

آراء