من الملفت للإنتباه إن الحادث الذي أدى إلى مصرع (12) شخصاً من بينهم صحفيين من جريدة "شارلي إيبدو" الفرنسية التي نشرت رسوماً مسيئة للرسول الكريم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم)(الثلاثاء7/1/2015م) والتي وجدت رفضاً وإستهجاناً من سائر شعوب العالم قد أفرز تداعيات عاصفة تمثلت في في الحملة الشرسة للدول الغربية-في مقدمتها فرنسا التي وقع فيها الحادث-على المسلمين بعامة وعلى الأقليات المسلمة في أروبا خاصة فرنسا(عددهم بلغ خمسة مليون) وتبدت في الإعتداءات المتكررة على المساجد والمرافق الإسلامية والتي ذادت بنسبة 50% عقب حادث الجريدة.وفضلاً عن ذلك،تم توثيق ما لايقل عن (50 )إعتداء على المسلمين تراوحت بين إطلاق النار والتهديد في أماكن متفرقة من فرنسا.وتورد الأخبار أن الشرطة الأمريكية قد رابطت في عدد من المساجد بمدينة نيويورك لمراقبة خطبة الجمعة بعد واقعة "شارلي إيبدو"مباشرة تحسباً لأي طارئ(جريدة الصحافة،العدد 7690،بتاريخ 15/1/2015م :6).
ونظمت فرنسا مسيرة كبرى حضرها لفيف من الزعماء الغربيين وقادة منظمات المجتمع المدني تنديداً بحادث الإعتداء على الجريدة الباريسية.وكتبت العبارات والتعليقات المعادية برغم أنه حادث فردي ولا يمثل الإسلام والمسلمين.وفي تقديري أن العداء الغربي التاريخي للحضارات الحية(الحضارة الإسلامية،الحضارة الهندية البوذية والحضارة الصينية الكونفوشسية) مترافقاً مع النظرة الإستعلائية قد دفعاه لفرض هيمنة تفوق الوصف على كل شعوب الأرض بما فيها الشعوب الإسلامية ذات الخصوصية العقدية والثقافية وأصبح يعمل جاهداً على قولبتها قيماً ونظماً ومناهج تفكير(العولمة Globalization) . واستنادا إلى ما سلف،بدأ الكثيرون في دول العالم الثالث يشعرون بوطأة الهيمنة الغربية وأنها ليست بأكثر من قناع لمفهوم "النزعة المركزية الغربية" WesternCentralism ومثيرة بذلك مجموعة من من التظلمات،من عقد النقص والشعور بالتهميش وبخاصة المسلمين الذين تأثروا أكثر من غيرهم من أسلوب الهيمنة الغربية(فلسطين،العراق وأفغانستان) مما دفع الراديكاليين منهم(تنظيم القاعدة) إلى مصادمة المركزية الغربية في أكبر بلدانها-الولايات المتحدة الأمريكية(أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م).وكان الملمح الواضح منذ الأيام الأولى لتفجير أبراج مركز التجارةالدولي بنيويورك أن الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الإبن وسم حادث التفجير بالحرف "إنهاحرب صليبية" ضد الغرب.لذا ليس من المستغرب أن تورد وكالات الأنباء العالمية في مسيرة باريس المنددة بحادث جريدة شارلي أيبدو التي حضرتها ثلة من زعماء الغرب صورة لفرنسي يرتدي زي محارب صليبي في إشارة واضحة للمسلمين بأن الحرب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي(1096-1291م ) لاتزال أوارها مستعرة برغم أن نهايتها الرسمية قد تجاوزت ثمانية قرون.
ولا ريب أن هذه الفوبيا Phobia(الخوف المرضي) من الإسلام والحركات الأصولية الإسلامية مردها توهم الغرب من أن الخصوصية العقدية والثقافية للدول الإسلامية عامة والعربية على وجه الخصوص بمكونها الروحي (الإسلام) تشكل تهديداً حضارياً له، مما جعله يلصق تهمة "الإرهاب" بالثقافة العربية الإسلامية كما عمل ولا يزال في تضييق هوامش الحريات الثقافية والدينية للجاليات الإسلامية المقيمة في بلدانه خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001م). وأصبح الإسلام في نظر الغرب يعني "الأصولية – Fundamentalism ". وإرتبطت هذه المفردة عند الغربيين بالتكفير والعنف والجماعات المتشددة والإرهاب. بيد أن الإسلام – كما هو معلوم لكل عاقل ومنصف - برئ من هذه الفرية، فهو دين الوسطية والإعتدال. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة : 143 ). ومدح جلّ شأنه أهل الوسط بقوله (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء : 29 ). وفي الحديث الشريف يقول إبن عباس رضى الله عنه: (قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين") . ولعل من نافل القول أن الوسطية هي أحد أبرز خصائص الإسلام ويعبر عنها بـ "التوازن" و "الإعتدال". ويقصد بـ "التوازن" "أن يفسح لكل طرف مجاله ويعطي حقه (بالقسط) أو "بالقسطاس المستقيم" دونما تبخيس أو شطط أو تشدد أو تقصير أو طغيان. أما "الإعتدال" فيعني "التوسط والتعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه ويطغي على مقابله ويحيف عليه.
وتجدر الإشارة إلى أن كلمة "الأصولية – Fundamentalism " التي تنعت بها بعض حركات الإسلام السياسي مأتاها غربي صرف وأن أول من إستخدمها هم الإنجيليون البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر. وتشدد المسيحية الأصولية على الحقيقة الحرفية ل "الكتاب المقدس" (أسفار العهدين القديم والجديد)، وأصبحت كلمة "أصولية" تعني العودة إلى التفاسير الحرفية للتوراة على أساس أنها مصدر المسيحية. ويطلق الساسة الغربيونكلمة "أصولي" على سبيل التهكم والسخرية على الحركات الإسلامية بإعتبار أن "الأصولي – على حد زعمهم – هو الشخص المتطرف، الساذج، غير العقلاني ، المستبد والذي يتميز بالإندفاع والميل للعنف".
ودخلت هذه الكلمة الأدبيات الإسلامية مؤخراً حيث أصبحت تعني للبعض "إتخاذ مواقف غير قابلة للنقاش بإعتبار إنها مواقف إلهية منزهة من عند الله تعالى". أما لدى المسلمين فالأصولية تعني بشكل عام العودة إلى الأصول أو الجذور في فهم الإسلام والعمل به والدعوة إليه. ويعرفها جمهور الفقهاء بأنها "العودة إلى الأصول في مصادرها اليقينية وبدلالاتها المحكمة وبأحكامها التي تدور مع عللها وبحكمتها التي لا تتوقف مع زمن محدد أو واقعة عارضة. وبالتالي تجاوز التفسيرات الصادرة عن رؤية إجتهادية مرتبطة بظرف أو حدث وتجاوز النظريات والحلول التي أفرزتها ضرورة التطور الإجتماعي والسياسي ، ومن ثم الإقرار بضرورة وشرعية الرؤى الإجتهادية المتجددة والمنضبطة بالنصوص الواردة، والقواعد الكلية وشرائط الإستدلال والإستنباط وفق روح الشريعة وقاعدة المصلحة" . وجاءت في تعريف بعض كراسات وزارة الخارجية الألمانية كما أوردها الدكتور مراد هوفمان في كتابه المعنّون "الإسلام هو البديل" بأنها – أي الأصولية – "حركة إصلاحية تعني بإتخاذ أسس التشريع والقيم ونماذج السلوك الأصلي في الإسلام – كما في عهد النبوة والخلافة الراشدة – بإعتبار إنها أساس لتشكيل الحاضر".
وننوه هنا بأن ثمانينات القرن الماضي شهدت بروز قوة الحركة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة. ونجحت في التحكم في الإنتخابات حتى أصبح المرشح للرئاسة الأمريكية يحمل الإنجيل في يد وبرنامج "حرب النجوم" في اليد الأخرى. وشوهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان آنذاك (1984م) يحمل الإنجيل ويقول "هذا هو الحل" . مما جعل كثير من المراقبين يرى ثمة تناقضاً لافتاً للنظر في السياسة الأمريكية. فكيف يحل لرئيس أمريكي أن يحمل شعار "الإنجيل هو الحل" ويحرم على أي زعيم إسلامي أن يرفع شعار "الإسلام هو الحل" سيما وأن المسيحية في الغرب تقبل الفصل بين الدين والدولة ويبقى الإسلام ديناً ودنيا. وتحضرني هنا رؤية الباحث البريطاني فريد هالدي المحاضر بجامعة لندن والذي يعزو نشأة الأصولية الإسلامية إلى كونها تمثل رد فعل مضاد لفشل العلمانية المعاصرة في العديد من المجالات إذ يقول: "هذه الدولة التي تعتبر فاسدة وعاجزة عن حل المشاكل الإقتصادية والإجتماعية، فضلاً عن كونها إستبدادية ودكتاتورية". ويرى هذا الباحث أن التوجه السياسي للحركة الأصولية الإسلامية دافعه الحقيقي هو الهروب من مخاطر الإستبداد والدكتاتورية الأحادية التوجه والعلمانية الفكر التي تضيق بالدين والمتدينين. ولعل هذا هو السبب الذي دفع هذا المفكر البريطاني لنزع سمة التشدد والإرهاب من الحركات الإسلامية المعاصرة بعامة. وحجته في ذلك "أن غالبية المسلمين ليسوا "إسلاميين"، والإسلام الجدي لا يشكل خطراً على الغرب سواء أكان هذا الخطر عسكرياً أو إقتصادياً".
وعلى خلفية التغيرات السياسية في المنطقة العربية خلال السنوات القليلة الماضية، يشير بعض المراقبين أن العديد من الجماعات الإسلامية وبخاصة في مصر وتونس قد طورت خطابها السياسي بما يتلاءم وواقعها الوطني وبما يطمئن الغرب أنها بمنأى عن التشدد وعن أي توجه لحكم ثيوقراطي (وحدة السلطتين الزمنية والروحية) حتى تبعد نفسها عن أي مواقف قد تضر بمستقبلها السياسي. فجماعة "الأخوان المسلمين" في مصر أعلنت على رؤوس الأشهاد على لسان القيادي بهذه الجماعة الدكتور عصام العريان عقب ثورة 25 يناير 2011م في مقال له بصحيفة نيويورك تايمز موسوم بـ "ما يريده الأخوان المسلمون" نصاً وحرفاً "… نحن نقبل الديمقراطية لا بحسبانها مفهوماً أجنبياً يجب توفيقه مع التقاليد ولكن بحسبانها مجموعة من المبادئ والأهداف تتماشى مع المبادئ الإسلامية وتعززها". أما زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي وفور عودته إلى تونس بعد "ثورة 14 يناير2011م" فقد أعلن عدم نيته الترشح للانتخابات الرئاسية في رسالة فهم منها أن حزبه يبتعد عن شبح الثورة الإيرانية والحالة الخمينية التي تقلق العديد من القوى السياسية ليس في تونس فحسب إنما في الغرب على وجه التخصيص.
وبرغم كل هذه الرسائل التطمينية من بعض القيادات الإسلامية ، فثمة شكوك لا تزال تساور العديدين حول مغزاها. بل يتساءل البعض حول الضمانات التي يمكن أن تقدمها الأحزاب الإسلامية لعدم الإنقلاب على الديمقراطية مع العمل على فض الإشتباك بين الأيدولوجية التي تتبناها وقضايا حقوق الإنسان والحريات العامة كما تبرزها المواثيق الدولية والإنسانية. ومن الجلي أن الغرب لا يزال يتوجس من فوبيا "الأصولية الإسلامية" كما إرتاها ومن وصول بعض حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم ومن تدفق المهاجرين إلى أوربا وأمريكا الشمالية من البلدان الإسلامية. ومبعث التخوف الغربي من هذه الحركات مرده – حسب الرؤية الغربية- أن مفهوم التغيير السياسي لدى كل الأحزاب الإسلامية ينطلق من مرجعية إسلامية ملامحاً ومنهجيةً مع التدرج في التغيير والتعاطي مع المؤسسات والمفاهيم المعاصرة بغية الوصول إلى الهدف الإستراتيجي وهو إقامة الدولة الدينية (الإسلامية) .ومن الواضح ان هذه الرؤية هي التي جعلته لا يثق في أهداف جماعات الإسلام السياسي سواء تلك التي وصلت إلى كرسي السلطة (المؤتمر الوطني في السودان وحزب العدالة والتنمية في تركيا) وإرتضت بالنظام الديمقراطي لإدارة دفة الحكم أو تلك التي لا يزال يراودها ذلك الحلم وبخاصة في سوريا والعراق واليمن والجزائر.
خلاصة القول، أن غالبية حركات التغيير السياسي الجارية في بعض البلدان العربية والإسلامية ورغم أنها لم ترفع شعارات تطالب بدولة دينية وحصرت أهدافها في توفير الضروريات الأساسية لمعيشة المواطن وفي إقامة مجتمعات عصرية تظللها العدالة والحرية والمساواة، إلا أن الدول الغربية ينتابها قلق بالغ من إمكانية وصول بعض تنظيمات الإسلام السياسي للسلطة – حتى ولو عبر آلية الديمقراطية-. ولا ريب أن هذا المسلك يفسر حالة التناقض وعدم المصداقية للغرب المتمثلة في عدم إحترامه لقيم الحرية والديمقراطية التي ينادي بها والمنصوص عليها في دساتيره، غير أنه يرفعها فزاعة في وجه كافة الدول والشعوب التي تخالفه من حيث عقائدها السياسية. وهذا ما دفع بعض الأنظمة العربية الحاكمة والتي فشلت في تلبية تطلعات شعوبها إلى تبني أساليب أخرى تعويضاً عن إخفاقاتها الإقتصادية والسياسية وذلك بإثارة مخاوف الغرب من منافسين لها على السلطة من "الإسلاميين" بدمغهم بالعنف والإرهاب. والرأي عندي أن تصحيح الصورة النمطية، والشائهة عن الإسلام والمسلمين في الذهنية الغربية وإزالة حالة العداء الغربي للأمة الإسلامية تتم عبر الحوار الجدي وإحترام الخصوصيات(العقدية والثقافية) والإعتراف بالآخر واللغة المشتركة ووجود عقلية مهيأة لهذا الأمر. ولعل هذا هو الهدف الذي أنشئت من أجله المنظمات الدولية (اليونسكو والعمل وغيرها) بدلاً من فرض النموذج الغربي (الأسس والمعايير وطرائق العيش) عبر النزعة المركزية الغربية – بوصفه نموذجاً للعصر كله أو النموذج الذي يفرض نفسه تاريخياً كصيغة حضارية للحاضر والمستقبل ، والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.