أزمة الإسلام السياسي بين خيارات الانتصار الأيدلوجي والتعايش العلماني

 


 

 

اتخذ عنصر الصراع الأيدلوجي حول أزمة الشرعية السياسية في المنطقة العربية عدة أشكال وانماط من المواجهات السياسية والفكرية والاجتماعية العنيفة. لذا تساءلت العديد من النخب الفكرية في الغرب هل سيمضي الصراع التاريخي بين العلمانية والإسلام السياسي علي وتيرته الراهنة حتي يحقق احد التيارين انتصارا نهائيا وحاسما علي الطرف الاخر؟ ام هل ستبرز أسس تسوية ايدلوجية جديدة تمثل نظاما هجينا اسلاعلماني يجمع بين الخيارات الأيدلوجية للتيارين العلماني والإسلام السياسي؟ هذه المقاربات التي عبرت عنها الأسئلة السابقة جاءت في إطار محاولة فكرية جادة في كيف يمكن  استخلاص الدروس المستفادة من الحروب الدينية التاريخية التي وقعت في أوروبا لتقدم إشارات واجابات علي التحديات الراهنة التي تواجه مسارات الاسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط ؟ ذلك ما حاول البروفيسور جون اوين أستاذ العلوم السياسية في جامعة فرجينيا  ان يطرحه ويقدمه من خلال كتابه الجديد الذي أخرجته مطابع جامعة برينستون مؤخراً عن ( في مواجهة الاسلام السياسي: ستة دروس من تاريخ الغرب).
 يقف العقل الغربي ازاء  تفسير ظاهرة الاسلام السياسي متأرجحا  بين الأخذ بأشراط المنطق الصوري وهو يعلل هذه الظاهرة باعتبارها استجابة طبيعية للفقر المادي والفساد الاخلاقي والاستبداد السياسي في منطقة الشرق الأوسط او انها احد تمظهرات اضمحلال  الطبقة الوسطي واغتيال فاعليتها الحيوية ومصادرة حقها في تشكيل مستقبل السلطة والفكر والحكم في المنطقة لانعدام الخيار الليبرالي الديمقراطي.و لم يقبل العقل الغربي تفسير النخب الاسلامية التي ترد بروز هذه الظاهرة الي تغلغل مشروعات الغزو والهيمنة الغربية واحتلال البلاد العربية والإسلامية ومصادرة حق هذه الشعوب في انجاز تطلعاتها في التمدن والعمران والحداثة والتطور حسب خياراتها الذاتية . هذا اضافة للانحياز الغربي الكامل لدعم وتأييد اسرائيل ضد الحق الفلسطيني. فريق ثالث من مثقفي الغرب يري ان البروز التاريخي للإسلام السياسي يعتبر احد تمظهرات الصراع التاريخي بين المشروعين الاسلامي والعلماني والذي تجدد بشكل واضح بعد هزيمة ١٩٦٧ اذ انتكست رايات المشروع العروبي العلماني القائم علي التحرر تحت قيادة عبدالناصر الكاريزمية. وكما مهدت حرب ١٩٦٧ الطريق للمشروع الاسلامي للتعبير عن قضاياه فقد وسعت الثورة الاسلامية في ايران عام ١٩٧٩ من فرص هذا الخطاب تحت رايات الانحياز الشعبي للشعارات الاسلامية  وجاء الغزو الامريكي للعراق عام ٢٠٠٣ ليمنح هذا التيار أكسجين الحياة بعد تكبده خسائر فكرية وسياسية ومادية فادحة جراء هجمات ١١سبتمبر التي  اعادت قضايا المسلمين في الغرب الي نصف قرن للوراء.
وقف الدكتور حسن الترابي امام اللجنة الفرعية لأفريقيا في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الامريكي عام   1992 وهو يدلي بشهادته عن الاسلام السياسي اذ قال في عبارة  طنانة  ان الاسلام هو موجة من موجات التاريخ وسيكون حاضرا في تشكيل الواقع الراهن عن طريق الثورة  او عبر حتمية التطور الطبيعي ، هذه القاعدة دفعت كثير من مثقفي ومفكري الغرب الي تبني سياسة قبول مشاركة التيار الاسلامي في الحياة السياسية ، بينما رفض اخرون هذا الطرح مؤكدين ان الاسلام والديمقراطية علي طرفي نقيض و لا يلتقيان أبدا ، وحاول بعض المفكرين المعاصرين إثبات أطروحة التوافق التاريخي والمبدئي بين الاسلام والديمقراطية مثل الغنوشي والافندي واخرون ، وبينما عجلت التجربة المصرية بعد ثورات الربيع العربي بخسران هذا الرهان التاريخي جددت التجربة التونسية وقبلها التركية الأمل في نجاح هذه الفرضية.
 لكن يلفت البروفيسور جون اوين النظر من خلال تحليله للحروب الدينية التي وقعت في أوروبا من قبل وإسقاطاتها علي تجربة الاسلام السياسي الي ما يسميه (من كالفن الي الخلافة الاسلامية) حيث يشير الي ان الأزمة ليست الاسلام كدين ولكن الاسلاموية كأيدولوجيا لتنظيم الحياة وفق مباديء عقدية ، كما ان الخلاف حسب قوله  هو بين  المسلمين أنفسهم حول درجة الاسلام الذي يجب ان تستمد منه قوانينهم وتشريعاتهم شرعيتها الدينية والقانونية، ويري البروفيسور جون اوين ان الصراع القائم الان حول توجهات الاسلام السياسي بين مختلف الأيدلوجيات التي تمثله تتشابه الي حد كبير مع الظروف التي أنتجت الحروب الدينية في تاريخ أوروبا الحديث قبل ٤٥٠ سنة مضت. فقد واجهت هولندا واسكتلنده وفرنسا في العام ١٥٦٠ تمردا عنيفا قاده التيار الكالفني (نسبة الي القديس كالفن) وهي جزء من المذهب البروتستانتي، وكانت الكالفنية آنذاك خليطا من المباديء الدينية والأيدولوجيا السياسية موجهة ضد النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي شادته الكنيسة الكاثوليكية وكان الخلاف حول نوع المذهب المسيحي الذي يجب ان تطبقه وتتبناه الدولة، وقادت هذه الصراعات والمعانفات الي ما يعرف بحرب الثلاثين عاما وهي حروب دينية بدوافع سياسية أدت في النهاية الي إبادة ربع الشعب الألماني الذي كان يمثل قلب الامبراطورية الرومانية المقدسة.
ويقع البروفيسور جون اوين في خلط شنيع اذ يلخص أزمة  الشرعية التي تكاد تعصف بكيانات الشرق الأوسط في الصراع التاريخي بين العلمانية والإسلام او بين مصدرية القران من جانب وحجية العقل والتجربة الانسانية من جانب اخر. وذلك لان صراع العلمانية والإسلام لا يقوم فقط بين مجموعة تري حجية العقل والاخري تري علو القران  علي ما عداه من تشريعات وضعية لان جزء من العلمانيين يرجح مختارات من تطبيقات الاسلام في النظام العام خاصة في مجال الأخلاق والمعاملات ، كما تري بعض النخب الاسلامية ان العقل لا يتعارض مع النقل وان التجربة الانسانية يجوز معها تأويل بعض احكام القران، لكن الصراع الحقيقي بين النخب الاسلامية والعلمانية يقع في احتكار سلطة الدولة لإنفاذ هذه المباديء بالقوة والعنف، واستخدام السلطان وأدوات العنف التي تحتكرها الدولة لمحاربة أعداء هذه التوجهات.
في اعتراف نادر قال الدكتور قطبي المهدي لكاتب هذه السطور في إطار مراجعات كسب التجربة الاسلامية في السودان ان اكبر ما نجحت فيه سلطة الإنقاذ هي انها حرمت مناوئيها من استخدام السلطة  ضد الإسلاميين كما فعل اليساريون من قبل. ويزعم البروفيسور جون اوين ان المسلمين في الشرق الأوسط الان ليسوا اسلاميين او علمانيين بالمعني الكامل ولكنهم في منطقة وسطي بين الطرفين رغم انهم اكثر ميلا لأطروحات الإسلاميين في تحكيم الشريعة كما كشف استطلاع مركز PEW للدراسات عام ٢٠١٣ في بعض الدول العربية ، ولكن الخلاف هو في ثيوقراطية الدولة او في دور رجال الدين في إدارة الحكم والسياسة علي النمط الشيعي كنظام الملالي في ايران الذي يقوم علي تراتبية دينية مقدسة ومحفوظة حسب صلة الدم والنسب بال البيت. كما ان بعض الحكام العرب يطبقون بعض مباديء الشريعة خاصة في قوانين الأحوال الشخصية والميراث التي لم يجروء حاكم علي الغائها الا الرئيس الراحل بورقيبة في تونس الذي استبدلها بمدونة الأحكام المدنية بحجة أنصاف المرأة في ضوء مشروعه التحديثي العلماني.
اذا كان هناك درس واحد مستخلص من تجربة الحروب الدينية في أوروبا ويمكن اسقاطها علي تطورات الاسلام السياسي حسب روية البروفيسور جون اوين فهي قوله: لا تقللوا من شان ووزن وخطورة الاسلام السياسي، ولا تعتبرونه ظاهرة عابرة سرعان ما تتلاشى بفعل رياح الحداثة والتغيير. فقد أكدت تجربة الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت ان العقل السياسي والمصلحة المادية لا الأيدلوجيات هي ما أدت الي إيقاف نزيف الدماء، ولكن استمرار أزمة الشرعية الكامنة في عَصّب التاريخ الاوروبي أعاد إشعال الحروب من جديد خاصة وان الفكر السائد آنذاك كان يشترط لتحقيق الاستقرار السياسي توفر توحد ديني بين مختلف الملل والنحل، فقاد ذلك الي تمرد البروتستانت في بوهيميا وتفجرت ماسي حرب الثلاثين عاما التي قتلت الملايين الي حين توصل الفكر الاوروبي الي تسويته التاريخية المشهودة في الفصل التام بين الديني والسياسي.
يعتقد البروفيسور جون اوين ان الاسلام السياسي مثله مثل الأيدلوجيات القديمة المتصارعة يقف فاقدا لامثولة التوحد الفكري والسياسي ففي داخل هذه المنظومة الفكرية تجد أنماط مختلفة من الإسلاميين منهم المتطرفين والجهاديين والسلفيين والوسطيين، ولعل هذا الاختلاف هو ما دفع بعض نخب التفكير الغربية في تبني الاسلام الوسطي البرغماتي لمواجهة الاسلام العنيف المتطرف ، ولكن اخرون يَرَوْن ان لا شيء يوحد الإسلاميين سوي كراهيتهم للغرب.وفي مقاربة مثيرة للجدل يقارن البروفيسور جون اوين بين التشطير الذي عاني منه التيار البروتستانتي الذي بدا لوثريا محضا ثم انقسم الي زونغالي في سويسرا وبابوي في ألمانيا وانتهي الصراع الي مواجهة عنيفة بين التيارين الكالفني واللوثري. وهذا ايضا يمكن ان يُنشيء مقاربات موضوعية بين تيارات الإصلاح الديني خاصة وان مدرستي الافغاني ومحمد عبده خرجتا من مشكاة واحدة ولكن افترقت بين منهجي الجهاد السياسي والتربية الاجتماعية التدرجية المتروية، ثم جاء التيار السلفي كحركة اصلاحية لمحاربة الانحرافات العقدية وتثبيت عقيدة التوحيد فخرجت منها تيارات السلفية الجهادية والتكفير والهجرة وغيرهما.وكما انتهت حرب الإصلاح البروتستانتي لمواجهات عنيفة بين اللوثرية والكالفانية فقد انتهي الصراع الان لمواجهات عنيفة ايضا بين تيارات السلفية الجهادية ، فقد أصبحت القاعدة نسخة قديمة بعد بروز الدولة الاسلامية (داعش) وغيرها من التيارات الجهادية الآخري.
ولعل العامل الاخطر في تحليل بروفيسور جون اوين هو ان حدة الاستقطاب والصراع بين هذه التيارات يقود حتميا لتفضيل التدخل الخارجي لإسباغ الحماية ولتوفر قواعد مشتركة من المصلحة السياسية، وهذا ما يحدث الان في سوريا بعد تدخل ايران وكما حدث في البحرين عند تدخل السعودية لقمع الثورة الشيعية المسنودة من ايران ايضا.
في مقاربته للحلول النهائية لازمة الشرعية في ظل الصراعات الأيدلوجية  فان تاريخ الحروب الدينية في أوروبا انتهي الي ثلاث انواع من الحلول والتسويات.الاول هو الانتصار النهائي لأحد أطراف الصراع الأيدلوجي،الثاني هو تحول في طبيعة الصراع مما يودي الي ظهور نظام جديد يتجاوز تناقضات الطرح الأيدلوجي السابق الي أشكال وأنماط جديدة، والثالث هو بروز نمط نظام هجين يمثل اطر المصالحة الممكنة لانعدام فرص تحقيق الانتصار النهائي تذوب فيه كل الأيدلوجيات وتتمثل فيه اجندة كل أطراف الصراع.
بهذه التمثلات فان الاسلام السياسي لن يستطيع تحقيق انتصار نهائي علي التيار العلماني حتي يتمكن من فرض خياراته الأيدلوجية بالقوة، لهذا يبرز الخياران الآخران كارجح  الاحتمالات، وهي تحولات في أنماط الصراع تقود في النهاية الي بروز قوة جديدة تتجاوز تناقضات الأيدلوجيات السابقة،  او ظهور نظام هجين يجمع بين الاجندة المتناقضة للتيارات الأيدلوجية المتصارعة بحيث يصبح الأساس للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، وذلك ما حدث تماما في نموذج الامبراطورية البريطانية العظمي التي أظهرت  ابرز تمثلات هذا النظام الهجين الذي جمع بين متباينات  ومتناقضات الاجندة المتصارعة.ويتساءل البروفيسور جون اوين هل يمكن ان يصبح هذا النظام الهجين هو المخرج لصراعات أزمة الشرعية والأيدولوجيا بين تيارات الاسلام السياسي في الشرق الأوسط؟.
وإجابته ان ذلك ممكن علي ذات النمط التي انتهت عليها الحروب الدينية في أروبا بعد فصل الدين عن السياسة والدولة ، وهو ان تتخلي النخب والجماهير المسلمة عن مرجعية الاسلام في القوانين وتنظيم الحياة العامة كقضية موت او حياة. ومع رجحان هذا الخيار سيتخلق نظام هجين يجمع بين خيارات الإسلاميين وتطلعات العلمانيين وذلك ما حدث في أروبا علي اثر الصراع التاريخي بين الجمهوريين والملكيين. وولد هذا النظام الهجين الذي نجح في بريطانيا وعم أنحاء أوروبا حتي سمي بالليبرالية المحافظة ويري البروفيسور جون اوين ان نجاح هذا النظام الهجين يتطلب وجود دولة تمثل قاعدة انطلاق ناجحة لهذا النموذج مثلما كانت بريطانيا هي النموذج الأساسي الذي انداح في أنحاء أوروبا،ورغم المحاولات الخجولة في العالم العربي الا ان هذا النظام الهجين عبر عن نفسه في  اكثر من موقف فكري خاصة عندما خرج مصطلح الديمقراطية الاسلامية الي حيّز الوجود او ما عبر عنه رجب طيب اردوغان ان تركيا تطبق الديمقراطية المحافظة وهي الاحتفاظ بمزايا النظام العلماني وهو الوقوف من كل الأديان بدرجة ومسافة واحدة وتبني التوجهات الاسلامية وقبول الديمقراطية كأساس للحكم والتبادل السلمي للسلطة. تبرز ايضا التجربة التونسية بعد تنازلات ضخمة قدمها تيار النهضة خاصة في مدونة الحقوق المدنية التي حافظت علي تراث الحداثة البورقيبي والدستور العلماني الذي تبني كل مباديء الإعلان العالمي لحقوق الانسان، لكن يري البعض ان تونس دولة صغيرة وغير مؤثرة لذا لن تصبح نموذجا ملهما او قاعدة انطلاق أساسية لبروز نهجا النمط الهجين الاسلاعلماني.
لكن النخب الراديكالية داخل منظومة الاسلام السياسي تضع هذا الصراع في إطار الصراع الأزلي بين الحق والباطل ويعبرون عن ذلك بشعارات مشهورة ان (يعد للدين مجده او ترق كل الدماء)، لذا فان طرح النظام الهجين الاسلامي العلماني علي نمط التجربة الأوروبية بعد الحروب الدينية لا تصلح للمقاربة التاريخية في ظل وجود تيار اصولي متشدد يري الصراع بطبعه ازلي بين الحق والباطل ونخب علمانية تري ان الاسلام السياسي يعتبر مهدد وجودي لمشروعها يجب ازالته بكل الطرق والوسائل.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء