صولة بني عثمان في ملاحم الثورة المهدية: للكاتب مكي أبو قرجة

 


 

 

(عائلة سودانية ما بين قرنين )

abdallashiglini@hotmail.com

(1)

كان السِفر مقالاتٍ متفرقة في الصحافة في زمانٍ مضى . ولن تمنع حواسّك أن تشُدكَ لتقرأ دون أن تعيش البرهة التاريخية كأنك حاضراً كنتَ هناك ، تجد الوقائع فيها الشخوص تتوهج في نفوسهم محبة إمامهم وقائدهم ، وكيف يتنادون لاستذكار الأدعية و الأوراد المهدوية تعزيزاً لسند القضية . أحلامهم تملأ دُنياهم وهم يستسهلون الصعاب،ويسندون بعضهم بعضا ،وتأبى الرماح إذا اجتمعنَّ تَكسُرا . هكذا بدأت القصة متواضعة وتضخمت حتى ملأت الدنياً. كانت المظْلَمة في سودان أواخر الثلث الأخير من القرن قد تجاوزت كل الحدود ضرائب باهظة على الماشية والزراعة على بساطتها و ضرائب أخرى على الأفراد والجماعات . وقتها كانت  توجد ضريبة " الدقنيّة " وهي مفروضة على الأفراد الذكور بمجرد أن تظهر معالم رجولتهم ، يعملون كانوا أم بلا عمل . لذا كانت للثورة المهدية مبرراتها لتنتشر ويتسع لهبها بين الناس، ولكن لتجميع الشعوب السودانية تحت قيم أيديولوجية توحدهم ، وانتظامهم في تجمُع جديد ، أعلى من سلطة القبيلة كانتهي المحك . لقد تمكن قائدهم" المهدي " من استخراج قدراتهم . وقد أورد البروفيسور محمد عمر بشير في سِفره الإنكليزي ( تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900-1969) عن أن " برمنجهام " كان يرى أن السّر في الانتصارات التي أحرزها المهدي يكمن في قوة شخصيته وقدرته في التأثير على السودانيين رقيقي الإحساس ، سريعي الانفعال لكل ما يأتيهم عن طريق الإيحاء والتعزيز، لذلك يرى أنه القائد الذي أوجدته ظروف خاصة لنوع فريد من الشعور الوطني في السودان ، ويكمن أيضاً وراء اعتقاده وإيمانه الصادق الذي لا يهتز برسالته التي بعثته بها القوة الالهيّة ، وهي عقيدة كانت تفرض تأثيراً لا راد له على الآخرين )

(2)

كانت الهجرة إلى الأرياف البعيدة الحصينة، فكرة حربٍ شعبية مُبدعة،قبل أن ينمو هذا المصطلح ويصير له شأن في منتصف القرن العشرين . إن اختلفت أنت حول الوسائل حينذاك أم اتفقت ، فالتاريخ هو صنيعة الزمان والمكان ، وليس لنا الحق في انتزاع الحدث من مرقده لنُجري عليه مفاهيم وقيم عصرنا ، ولكن وفق زمانه كان إبداعاً قيادياً للمهدي ، وللشعوب التي نصرت فكرته .

كشف سِفر الكاتب " مكي أبو قرجة " عن كيف  تكون الكتابة عن التاريخ نقلاً للوقائع على الأرض ومن أصحابها الذين ساهموا في أحداثها مُشاركين . يروون الأحداث وأثر عقيدتهم يفوح من تلك الحكايات التاريخية ، ومعها إحساسهم المُتجدد أنهم كانوا يحملون لواء المدافعة عن الوطن وفق ما كانوا يرونه حينها .كان إحساس الأفراد والجماعات بلهب الفكرة والتجمُع حولها وافتدائها بالنفس والنفيس هي السيرة التي تحملها ألسنتهم ، وقد عانوا الأمرّين من لظى الفُرقة من بعد رحيل زعيم الدولة الناشئة " محمد أحمد المهدي " بعد حوالي ستة أشهر من استرداد الخرطوم . الأرض والفكرة الاستراتيجية وأدوات الحرب ، رغم تواضع الثلة التي بدأت المسيرة من أولها ،إلا إنها نمت وتمددت بفعل كاريزما المعتقد والقدوة النيّرة التي رأوها في القيادة الزاهدة في عرض الدُنيا .

بريطانيا عندما كانت عُظمى وفي قوة عنفوانها ومجدها العسكري الإمبراطوري ، تأسس أنموذج جديد من " حرب العصابات " ، جديد على العصر والتاريخ . بدأ المهدي بالحروب الصغيرة ، وفي كل انتصار ترث الدعوة أنصاراً جُدد وعتاد حربي ، يتقوّى به أنصار الدعوة . نهضوا قليلي العدد، إلى أن أصبحوا آلاف ترتج من وقع أقدامهم الأرض ، وصعدت المشاعر مُحِبة للفكرة ، يفتدونها بالمُهج والأرواح .ونهضت البطولة من الأرياف وتمددت بطول الوطن وعرضه ، إلى أن استردت الخرطوم في خاتمة المطاف ، وسجلوا بالدماء قصة وطن فقير وقف في وجه الإمبراطورية التركية العثمانية .

(3)

سفر الكاتب" مكي أبو قرجة " في طبعته الثانية ، من القطع المتوسط ، يحوي (467 ) صفحة . وهو مسرد  في التاريخ كبير الأهمية ، لأنه يجمع الوقائع التاريخية بثبتها ومراجعها ، مسنودة بروايات من حضروا ومن حضرنّ تلك المعارك ، بلغة حية جاذبة . أحيا فيها الكاتب السيرة الحياتية لأبطال غاب عنا بعضهم في قضية التأريخ الذي اختصّ به  أصحاب الحُكم ومن بيدهم السلطة ، دون أن يعير المؤرخون كبير اهتمام بأبطال كانت لهم جولات وصولات في صناعة ذلك التاريخ ، وخلت مؤلفاتهم من الحياة الاجتماعية والثقافية إلا عرضاً .

تجمعت الأشواق كلها تُزين الفكرة المهدوية وأصحابها ، تمُد كل واحدة رأسها ، وتستمتِع أنت بدراما مثيرة لوقائع تاريخية تكاد تنطق .وعندما تقرأ السِفر تغوص في بحيرة ماؤها لا برد تحِس ولا حراً تجد . ولكنك تعيش تلك الملاحم التاريخية ، تكاد تشتمّ أريجها . نقل الكاتب مشاعر أبطالها وسيرتهم من خلال قرنين . أسهمت شجرة العائلة في صناعة التاريخ الذي هزّ الإمبراطورية التي كانت في قمة مجدها ، وشمسها لاهبة على البلدان والبحار  ، لا تترك دابة في الأرض إلا لسعتها ، ومن شواظ نيرانها أذاقت الكثير من الأمم الطعم اللاسع للقهر ، وإرغام الشعوب لتنضم قسراً إلى الدائرة الاقتصادية التي شرّعها الاستعمار .

(4)

كثير من الرواة  والتاريخيين كانوا يعرفون أنه من الصعب أن تكون نقياً حيادي السرد ، فتلك مقولة مردودة على أصحابها ، ولكن مقاييس ضبط التاريخ ومناهجه حاولت أن تضع المناهج العلمية لتناول الأحداث المروية والنظر إليها بموضوعية يسهّل مهمة اللاحقين في النقد والدراسة والتحقيق ، لتميّز السرد من الأغراض المُختبئة . إن تاريخنا ملئ بالفجوات التي تحتاج أسفاراً من روائع الذين يوثقون عن الرواة الحقيقيين ، وكاتبنا الأستاذ " مكي أبو قرجة " باحث له أسفار عديدة ومتنوعة ، تميّزت بالصبر على كتابتها والتدقيق على الأخبار والسيّر ، فقد أورد ضمن السيرة نصه عن مقتل " هكس باشا " وهي القصة التي طعنت الإمبراطورية العُظمى حين ذاك في كبريائها ، بأن جيشاً كاملاً تتم إبادته عن بكرة أبيه في وقتٍ وجيز ، ويذكر الكاتب " مكي أبوقرجة " أن هنالك روايات متعددة عن مقتل " هكس باشا " ولكنه يرجح رواية أن " عبدالله ود سليمان " هو قاتل " هكس باشا "  ، ولكن لدينا مصادر وفق محاضرة سابقة  في منتدى السودان الفكري عن معركة " شيكان " ، قدم فيها الدكتور " أحمد التجاني ماهل" رواية نقلاً عن الأمير " ود النعمان" الذي رحل عام 1985م وذكر أن قتلة " هكس باشا " كانوا ثلاثة تسابقوا بحرابهم إلى " هكس باشا " ، الذي صعد شجرة ضخمة قرب الموقعة .تصدوا له بحرابهم " الأمير ود النعمان" و " ود طِبيق " وقام " ود عَوَجَة " بقطع رأس " هكس باشا "وإحضاره للمهدي .

روايات تدخل جميعاً بوابة الدراسة والتحقيق وتفتح أبواباً ثرية في تناول التاريخ من خلال الميراث الشفهي . ورواية أخرى أيضاً أوردها " نعوم شقير " في سفره التاريخي الضخم " جغرافية وتاريخ السودان " وذكر فيه أن الجيش الإنجليزي  أعدم " الخليفة شريف " وابني المهدي " الفاضل " و " البُشرى "  في محكمة عسكرية ميدانية بعد موقعة " الشُّكابة " . وهي قضية عُرضة أيضاً للدراسة والتحقيق . وقد ذكرت البروفيسور " فدوة عبد الرحمن علي طه" التي قدمت لطبعة 2007 م لسِفر " نعوم شقير " ، أن الكاتب قد استخدم الطرق العلمية المعروفة في توثيق الأحداث التاريخية .

(5)

يظل التاريخ خامة طيعة للسرد وللدراسة والمقارنة والتحليل والتحقيق ،لتغطية كل الثقوب التي تُكمل الرواية التاريخية. إن كنوز الثقافة الشفهية هو مصدرنا الذي يتعين تناوله واستعراض روايات أصحابه وتدوينها ، فالبون شاسع بين أهلنا وشفاهيتهم من طرف وبين مصادر المُستعمرين المدونة من طرفٍ آخر ، قبل وأثناء الثورة المهدية . فقد اعتاد المستعمرون أن يدونوا الأحداث اليومية التي يمرون عليها في مذكراتهم  اليومية ، وهذا تفوق في حضارة رصد الأحداث ، فبمرور الزمان تبقي مخطوطاتهم تسجل الوقائع كما هي في وقتها . وقد أفاد الإنكليز من حكام ومآمير وإداريين وعسكريين لاحقاً وتمكنوا من الكتابة عن معاركهم وعن حيواتهم من الوقائع المدونة في كراساتهم ، ربما يضيفون عليها من القصص الدرامية المُثيرة بغرض التسويق ، وهو أمر لا أظنه يهرب من العين التاريخية الراصدة ، أما نحن فليس لدينا سوى أسفار سدنة التاريخ و التراث الشفهي المفتوح على كل شيء . وستظل المصادر المكتوبة والشفهية تنتظر التحقيق والدراسة المقارنة ، وهو بحر لا يقدر على الإبحار فيه إلا المختصون والصابرون على التقصي والبحث .

(6)

يعود بنا الكتاب إلى الوجه الاجتماعي للحياة وتفاصيل الصراع بين الخليفة عبد الله وبين آل المهدي ( الأشراف ) وبين سيرة آل عثمان و الأمير أبو قرجة، والظلم الذي حاق به . وكيف صار الذين تضامنوا جميعاً نُصرة لدعوة المهدي و تحت قيادته  في لُحمة واحدة ، إلى أن ولي الخليفة عبد الله الحُكم ، وشبّت الصراعات ونمت بين شركاء الأمس عقب رحيل قائدهم "محمد أحمد المهدي". ويحكي الكاتب سيرة تلك الأحداث التي يرجع فيها لمصادره الموثقة ولمقابلته الشخصية  للأحياء من الذين شهِدوا الأحداث الجسام ،في الزمن الذي تراجعت فيه الدولة ولازت بحمى القبيلة والعشيرة و  نهضت بين أهلها الانتماءات القبلية ، ولونت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية آنذاك ،وكان ما كان .

يظل السِفر الجليل الذي أعده الكاتب الأستاذ " مكي أبو قرجة " إضافة كبيرة لسلسلة المراجع التاريخية ، تستحق الدراسة والتحقيق بجانب مراجع المؤرخين الذي كتبوا عن تاريخنا الوطني ، فنحن في حاجة لنحقن التاريخ بتراثنا الشفهي الذي تناقص رواته على مر الزمان .

(7)

تم المرور على ذكر الشاعر" محمد أحمد أبوسن- الحاردلو" عرضاً ضمن السيرة ، إذ أنه في مجالس الصفوة أيام  سلطة الخليفة عبدالله ،كانوا يسمونه "الغناي" كناية عن قوله الشِعر . وقد كان في هيجاء الصراع بين الخليفة عبد الله والأشراف ، على الجانب الرخو من معادلة السلطة والقوة .

ونذكر هنا أن الشاعر " إبراهيم العبادي" - وهو من الذين شهدوا جزءاًمن حكم الخليفة عبدالله - في لقاء تلفزيوني مشهود عام 1974، قد أورد طُرفة عما يُسمى في المثل ( الفَسَخُو الحاردلو ) . وهو قول الشاعر " الحاردلو "  مستشفعاً  في قضية " الخليفة شريف " فيما كانت تسمى حينها بثورة الأشراف ، ونقض أبياته الشعرية بأخرى في ذات المجلس ،وذلك حين بادر الخليفة عبدالله بشِعره :

فوق لقَى فوقْ مَحنْ

في الجايّة ما بِتتْمَحَنّ

وفرّاج كُربة الهًّم القَبايلو يِزِحَنّ

لو لسَّ حَسَناتَكْ قِبيل ما صَحَّن

صبر أيوب بتنقلبو الليالي إن شَحَّن

فأعرض عنه الخليفة عبدالله في مجلسه ،فانقلب الشاعر على نفسه وواجه الخليفة من الجهة المقابلة قائلاً :

عِجل البُربُر الوَقّف قُرُونُو شَراتي

نَطح الصومَعة ولامّاتُو جاي يتَاتي

وِقت الطار مَرقْ رِكب السَديس العَاتي

والله البِواردَك في مَشَارعَكْ رَاتي

(8)

كتب الأستاذ " مكي  أبو قرجة" سٍفراً تاريخياً جلس له جلوس الصابرين وبالسنوات. سافر هو عبر المدائن والأرياف ليجمع ويوثق لهذا السِفر العظيم ، له منا الشكر الجزيل، أن يسر لنا سِفراً يضاف لأسفار تاريخنا الوطني ، لنعيد قراءة الأحداث بصفاء جديد ليطّلِع عليها من بعد مبضع الدراسة والتحقيق .

عبد الله الشقليني

31 مايو 2015

 

آراء