الاشـــــــــــياء تتداعى: ( مقدمة مختصرة لورقة بعنوان القبيلة)
كثيرة هي الاحداث التي تمر بها ساحة السودان والسودانين هذه الأيام، والقاسم المشترك بين اغلبها هو انها سالبة، وهذا امر بديهي.
لعلنا نذكر – قبل محنة الرئيس في جنوب افريقيا وهروبه الميمون- حدثا آخر نال حظا وافرا من النقد و السخرية والتهكم وقليلا من التبرير الخجول – خلال الاسبوع الماضي- وهو زيارة بعض زعماء القبائل السودانية للعاصمة الامريكية واشنطن.
من الواجب ان نذكر ان بعض هؤلاء الزعماء كانوا قد دعوا السفير الامريكي بالخرطوم لغداء غير رسمي على شرف ما يمكن ان نسميه إدارة اهلية، ثم وعلى خلفية الحوارات التي دارت بين الطرفين، طرح زعماء القبائل اقتراحا بزيارة العاصمة واشنطن وإجراء حوارات هنالك!
هذا ما وافتنا به بعض الصحف السودانية المحلية، وهي تفاصيل تقبل إعادة التحوير والإخراج والتفنيد، لكن ذلك لا يعنيني ولا احسبه ذا بال، ما يعنيني حقا و لا يمكن انكاره – بحال من الاحوال- هو رؤية وفد القبائل السودانية بأم أعيننا وهو يتجول في شوارع العاصمة الأمريكية واشنطن قبالة البيت الابيض الامريكي، وصيحات الإستهجان من ابناء الجالية السودانية المقيمين في امريكا تطاردهم وتضيق عليهم الطرقات والأرض على رحابتها و تنغص عليهم زيارة كانوا يعدونها ويعدون لها على خلاف ما رأوا و رأينا جميعنا، ولو انهم تبينوا الرشد والسداد في أمرهم وألتمسوا النصيحة لما انزلوا انفسهم هذه المنزلة و لكانوا وفروا على انفسهم مذلة غير مسبوقة وثقتها وسائط الإعلام ورآها القاصي والداني.
وبما أن الزيارة بالزيارة تذكر فإن من الواجب ايضا ان نعرج على زيارة اخرى مثيرة للجدل للرئيس المصري " عبدالفتاح السيسي" لألمانيا في ذات الايام رافقه فيها وفد مصري " شعبي" يتألف من ممثلين وممثلات ومغنيين ومغنيات وصحفيين، يدعون هم ايضا تمثيل قطاعات الشعب المصري المغلوب على أمره!
الكاتب المصري فهمي هويدي يقول في هذ الصدد ان اكثر ما همه في هذا الموضوع هو ( ابتذال مصطلح تمثيل الشعب فى ظل الفراغ الحاصل، حيث لا توجد أية جهة تمثيلية يمكن أن يدعى أحد أنها منتخبة من الشعب ولها الحق فى التعبير عنه (استثنى النقابات المهنية التى تمثل العاملين فيها). إذ ليس لدينا مجلس نيابى ولا مجالس محلية حقيقية، بل لم يعد لدينا مؤسسة نص القانون على استقلالها وأتيح لها أن تمارس ذلك الاستقلال على أرض الواقع. فى هذه الأجواء انفتح المجال واسعا لتزوير إرادة الشعب. وصار المسئولون والأبواق الإعلامية الخاضعة لتوجيههم يمارسون حريتهم فى التمسح بالشعب) انتهى حديث الكاتب فهمي هويدي.
(2)
حديث الاستاذ فهمي هويدي هو القاسم المشترك الأهم بين الزيارتين المذكورتين اعزك الله، وهو إنعدام التمثيل الديموقراطي الحر لمجتمعاتنا على اي مستوى من المستويات.
عليه فلو قررنا ان القبيلة هي كيان منبثق من عادات وتقاليد يحتم واجب احترامها عدم التدخل في طرائق إدارتها لشؤونها الداخلية فإن من الواجب ايضا ان نقرر عدم اختصاص كيانها الإعتباري بممارسة اي عمل سياسي او اقتصادي يفهم منه انه يمثل جميع افراد القبيلة ورؤيتهم للاشياء لإنعدام صفة الإختيار الديموقراطي الحر لهذا الكيان الاعتباري. إذ من هم زعماء القبائل تاريخيا، أليسوا هؤلاء الفئة المتكسبة المستفيدة من وضعية غير قانوينة تخولهم تزوير إرادة الناس، ألم تقم كل السلطات غير الشرعية عبر تاريخ بلادنا منذ الاستعمار حتى اليوم بإسترضاء و استخدام الزعامات القبلية في تدجين الشعوب وكسر إرادتها وتضليل مساعيها؟
دع عنك هذا - يرحمك الله – وأنظر في المشهد الردئ الذي ظهر به زعماء القبائل السودانية في واشنطن وقبح السباب الذي قابلهم به بعض السودانيين المقيمين في امريكا على غير مالوف السودانيين وأخلاقهم.
ذلك – على فداحته- قليل مما ابتلتنا به حكومة الإسلاميين من تردي وانحطاط في الخطاب، إذ دأب رئيسهم ومساعدوه، في خطاباتهم الممجوجة، على سفاهة بائنة ليس آخرها دعوتهم بعض قادة المعارضة للإغتسال من مياه البحر الاحمر واعلان التوبة ثم المثول للحوار معهم، وغير ذلك كثير وجميعكم يعلم.
وما زال منتسبوهم حتى هذه اللحظة من سلفيين واخوان ومن لف لفهم في منابر الجامعات والمعاهد السودانية ومساكن الطلاب يرهبون خصومهم ومخالفيهم بالشتائم والبزاءات المقزعة، ولن يهدأ لهم بال حتى يتفحش الجميع معهم ويتحول المشهد كله لماخور كبير.
هذا الخطاب المتطرف البئيس قابله خطاب متطرف اخر معذور مبرر لتلك المرأة التي رفعت صوتها في حدائق البيت الابيض وهي تصف زعماء القبائل السودانية بالقوادين، وقد شنع عليها بعض المتداخلين واعتبروها فاقدة للأدب والتربية ، بل وذهب البعض لوصم جميع المتظاهرين بقلة التربية والادب!
(3)
ان ما بدر من تلك المرأة او كل من ساندها امر مفهوم ومبرر يقابل من جهة اخرى خطاب التطرف الذي رفعته الحكومة الانقلابية في وجه ابناء السودان المعارضين لها من دمغهم بالكفر إلى العمالة مرورا بالسقوط الاخلاقي والتردي، وهي مخيرة.
هذه الصفات وإن كانت لا علاقة لها بالموضوع محل الخلاف إلا انها صفات قبيحة في حق ابناء الشعب السوداني وهي تحريف لسياقات مطلبية وسياسية صرفة يتم تحريفها من اجل ان يختلط المفهوم في ذهن الإنسان البسيط ويسهل التنكيل به وبالمطالبين بحقوقه.
حادثة المرأة السودانية التي تصف زعماء القبائل بالقوادين ذكرتني بعمل وثائقي اطلعني عليه احد الاصدقاء الايطاليين يدعى باولو.
كان هذا الشخص " باولو " يجيد اللغة الانجليزية بشكل استثنائي ويتحدث العربية العامية بطريقة اللبنانيين بحكم عمله في لبنان وفلسطين.
عرض علي احد الافلام الوثائقية التي صوروها للمهاجرين الافريقيين المتكدسين في اليونان وهم يحاولون العبور للتراب الايطالي مستخدمين كل الطرق الممكنة بما في ذلك وسائل شديدة الخطر عليهم.
جعلنا نستمع لشهاداتهم عن حياتهم في بلدانهم وفي ليبيا " منطقة العبور الرئيسية لأوربا، وكنا نستعرض في ذات الوقت شهادات اخرى اعددتها انا في جنوب ايطاليا لبعض المهاجرين الأفريقيين في تسجيل وثائقي آخر.
قلت له - بحكم معرفتي بليبيا وبوضعية هؤلاء الناس فيها: انهم يكذبون، وكثير من شهاداتهم غير منطقية.
قال لي: نعم نحن نعلم انهم يكذبون ولكن ذلك لا يهمنا، ما يهمنا هو الاسباب التي دعتهم للكذب!
حينئذ ادركت انه يتحدث عن القهر.
هذه المرأة في واشنطن وغيرها كثيرون تركوا السودان تحت نير القهر والظلم والهوان ، ونشأ بعضهم تحت هذه الظروف ، لذلك فإن ما يخرج به هؤلاء يعبر عن كثير من إرهاصات ذلك الماضي من افتقاد لكثير من المعايير التي ننعاها عليهم، او تعمدهم الخروج على كثير من السياقات للتعبير عن كفرهم بها .
كل ذلك له مبرراته من كتاب الواقع المعاش للإنسان السوداني المقهور، من باب العسف والقهر ومن باب اليتم والترمل والحاجة وتكفف الناس، ومن باب التشرد، واخيرا من باب الكفر بمسوح قيم يدعيها القتلة والمرتزقون والمتسلقون والمهرجون.
لو سألتني عن ما قالته تلك المرأة اقل لك: سلني عن القهر!
تحياتي
عبدالله الأحمر
alahmer2003@yahoo.co.uk
//////