تهذيب منهج الدعوة الى الله

 


 

 

اذا آتاك الله من فضله وأكرمك ونعمك بمعرفة الحق ... وسخر اليك سبر اغواره ... وتمييزه  عن الباطل ... ومكنك من سبر اعماق ذلك الحق... وطريقة تتبعه اداءا وقولا واتباعا صحيحا لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ... فاعلم انك على خير وخير كبير... خصوصا في مثل هذا الزمان ... القابض على دينه فيه مثل القابض على الجمر... وانا اقول انه اعظم من الجمر وأحر منه... اذ أنه كثرت في هذا الزمان ، اسباب الفتن والجذب لها والتفنن فيها بفتح ابوابها واسعة ... وصرنا نفتن بليلنا ونهارنا ، في انفسنا واسرنا واهلنا... وشبابنا ومفكرينا ،  واعداءنا يتفننوا في طريقة وصْمنا واستعداءنا .... بل بقصدنا وقتلنا ... وقد عتت الة القتل وصارت اكبر من دفاعاتنا وضعفنا امامها حتى صرنا كالشياه في الايام المطيرة ... وقد ساعدنا بأنفسنا في ذلك ، ولم نقدم لمن يحتاج منا وللاخر ، معرفة الحق   بالحكمة والموعظة الحسنة ،  انما فينا من حمّله الله الامانة وتفضل عليه بالاسلام وبالايمان ولكنه لم يك أمينا ،  أعرض عن الدعوة وايصال الحق للاخرين ، لا قول يسمع ولا عملا يحتذى ،  بل قدم أسوأ الامثال لغير المسلم في نفسه وتصرفاته ، فمثله مثل الذي قال فيهم الله ، "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا" ، ينفرهم أكثر عن الله وعن الدين والحق فيزيد فتنتهم ، و.هذا يستوجب فينا شحذ اقصى انواع الالتزام بالدين واقوى انواع الاتباع الصحيح ... واللجأ بصورة اكبر لله واتباعه ثم الدعوة لله بما نستطيع وبما يستحق متى استطعنا ، ويستوجب اللجأ والاتباع الذي يمكن ان يتفضل الله به علينا لفك ضوائق الدنيا والاخرة ، بالتعبد بالدعوة لله.

الناس في امر التعبد ومستوى التدين ... درجات بحسب فضل الله عليهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، والدعوة فرض كفاية  وتكليف جماعي ، احيانا (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واؤلئك هم المفلحون )، هذا في حال الجماعة المعينة من ولي الامر ... او جماعة التي انتصبت من نفسها وتصدت لموضوع الدعوة يحدوها نيل الجزاء بالفلاح وتنطبق فيها صفات ومواصفات الدعوة ويلتزمون بمنهجها والطريقة لايصالها بما تستحق وكيف ما تستحق واين وكيف ولمن .

والدعوة احيانا فرض عين على من أهلّه الله بالعلم الديني وأكرمه بالتدين والطاعة والالتزام بها بالاتباع السليم ومعرفة ابعاده واكتملت فيه سعات الوعي بهذه الرسالة بكل جوانبها ووطأ الله اكنافه لتوجيه الناس للحق وليس حملهم عليه ، اذ هو وسيط ومعبر اليه والدال عليه اما الهادي والحامل الناس على الهداية للحق فهو الله وحده ، فهذا يصلح ان يكون داعية ومفتيا وشيخا  ومرجع ولجأ يلجأ اليه ليخرج الله الناس به من الظلمات الى النور ، او مثبتا للحق والايمان في قلوب الذين آمنوا باذن الله.

فالمدعوون (دعوة جماعية او فردية ) ، أنفسهم درجات فيهم المسلم نفسه الذي يحتاج مزيدا من التوجيه لله ، وهذا ، اما يكون موحدا لكنه ضعيف في امكنة اخرى من التطبيق واما ان يكون مشركا بالله في تعبده ،  شركا خفيا ،  من حيث لا يدري ولم يوجه ، وهذا يحتاج لمن يدله على الحق بكيفية ومنهجية يتقبل فيها التوجيه للحق باختلاف مذهبه ووعيه حيث انه لا يدري انه يشرك، فان وجه ودرى ،  احجم وقام لله ، والا فيكون من اصحاب الغرض والمرض من صانعي الذرائع ومروجي تغييب عقول الناس عن الله بالشك والتشكيك والتفسير المغرض ممن يستثمرون في تعبد الناس وتدينهم وهؤلاء كثر ، يحتاجون لمستوى اعلى من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن ، والمسلمون فيهم المغيب عن دينه بفعل الأيدولوجيا المارقة والالحاد ، وهذا أمره أعظم اذ أنه لا يكتفي بالحاد نفسه ، انما يريد ان ينشر ذلك الالحاد ويحاد الله ويضاده ، فشأنهم في ذلك اعظم من شأن الذي كفر  أحيانا ، بحكم ان ان الكافر لم تصله الدعوة واضواء الحق او وصلاه بصورة مقلوبة ومشوشة  ، فضل ، فان وصلاه ربما يكون اكثر لينا واهدى سبيلا وارخى اكنافا للسماع والاتباع ، اما الذي عرف الحق من الباطل وعرف الاسلام والايمان من الضلال ، وعرف الالحاد ومحاربة الله ، وعرف الشرك وحبائله وعرف الشيطان وتلبيسه في الله ،  ولكن سخر نفسه لتضليل الناس عن جادة الطريق ، وسنام الامر ، فهذا هو المرض العضال وقمة الضلال ، وقمة الخسران المبين   ، وقد خابوا يوم يخيب من حملا ظلما ... وهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ضربنا مثلا بالشرك والالحاد والتوحيد  واشرنا لدرجاتهم  ومستوياتهم  لأنهما سنام الامر وقمة المقصود الالهي ،  ابعادا وتنفيرا ، او تحبيبا ، على التوالي ، وضربنا مثلا بالمسلم المتلبس عليه فك الشفرة بين حدي سيفيهما اذ ان المسلم في حد ذاته أحرى وأجدر أن يكون موحدا لا مشركا  ولا ملحدا ، والالتزام بذلك يجب ان يكون سنام ما يميزه عن الغير ، اما بقية المسلمين ممن يحتاج المسلم من توجيه لله وتهذيب في الممارسة  ونواقص التدين فهو أهون ، من ذوي الشرك او الالحاد ، وربما يهذبه مجتمع او ولي امر او عمر او تجربة او ابتلاء ... ولكنه ايضا يحتاج لحض وتوجيه من دعاة وولاة بما يقبل فيه النقد والزجر والمحاسبة والردع احيانا ... او الترغيب في الخير او الترهيب عن الشر ... وهذا يحتاج لمستوى معين من الدعاة ايضا ... اذ أن حساسيته اقل حدة من امر الشرك والإلحاد. 

لكنا نتحدث هنا عن منهج واسلوب دعوة وطريقة ايصالها ، فان كنت تعرف الحق او تجد ذلك في نفسك باكثر من غيرك  ووجبت الدعوة  عليك ، فيجب عليك  تقديم الدعوة باللين والحكمة والموعظة الحسنة،  وتوخى عوامل النفس ونواقصها في نفسك وفي المدعو ، وتوخى اللين واللطف ، فالدعوة لله تحتاج للطف وتلطف ولين وتليين وتحتاج ان يراك الناس ، مهذب المظهر ، زيا وتقاسيم وجه ، ولفظا وقولا واخلاقا وتلاطفا ، وان تكون مطبقا  متبعا لاوامر الله ورسوله بما تستطيع،  واحذر النقد قبل الحكمة والتجريح والتوبيخ والانقاص قبل الموعظة الحسنة ، اذ انك لو نقدته قبل ان تقنعه بالحق الذي معك (حق الله الذي تحمله ولا تملكه)، وتمكنه من الحق باللين حتى يرفع راسه عن الضلال ، فأنك ستقوي عوده في العناد وتمسكه بالخطأ ولو ظاهريا ، فتكون منفرا وليس مبشر وتكون قد ثبت لعنة وبؤسا وظلما على المدعو وتكون كالتي نقضت غزلها ، ان كنت فعلا تقصد الله و الدعوة اليه ،  وانا هنا لا أميع مواقف الدعاة وقوتهم ، ولكن قوة الداعية ليس قوة عضْل  او عضَل ، اذ ان الداعية لا يمثل بوليسا على الناس وعسكرا ، ولا يجب عليه تفتيش معايب الناس ومنقصاتهم ، انما هو مذكر عليه ان يبلغ  ارشادا وتوجيها ، ترغيبا او ترهيبا ، فاذا قال الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم (ذكر انما انت مذكر ، لست عليه بمسيطر )، واذا لم يك الرسول صلى الله عليه وسلم متجسسا على اخلاق الناس ونواقص الناس ، انما كان يبشر بالحق وينذر عن الضلال ، فمن أنت يا اخي الداعية حتى تنقص على الناس حياتهم وتشككهم في تدينهم وعلاقتهم بالله ، بظنك احيانا انك المتقي الوحيد ومنزل التوحيد وهادي العبيد ؟

الحق نفسه قوي على النفوس والالتزام به كبير وصعب ، فأعينوا الناس على حمل وتحمل وتقبل الحق ، ولا تكونو انفسكم عبئا ثقيلا على عباد الله ، ففيهم المؤمن القوي ومن هو في الحق اقوى منك ، ولله اقرب منك ، واتقى منك ، واحلم منك واحكم منك ، والله اعلم بمن ضل عن سبيله ممن اهتدى ، ثم ان الحق اذا حملته واوصلته على هدى وبرحمة وحكمة فهو ، نور الله الذي اراد للناس وما انت الا حامل ومبلغ ، وهو سهم الله الذي ان اراده لعبد قذف به في قلبه ، وانت حامل لجعبة مليئة بالسهام وفقط عليك توجيهها بالتي هي احسن والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، ليس انت ولا قوتك من يفعل ، وانك لن تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء ... والحق ليس حقك إنما هو حق المسلم الضعيف وحق الكافر وحق المشرك والملحد أن يعرفه ، وحق الله عليك أن توصله بالخلق القويم ، وانما انت ماعون ووسيط ايصال ، كما جاءت الرسل ولم تدعي انها تملك الحق ولكنها دعت لله وحق الله والتوجيه لله تهذيبا واتباعا له ، انما اتيت لأتمم مكارم الاخلاق ، وارسلهم الله رحمة للعالمين واولى بالمؤمنيت من انفسهم ، وألان لهم القلوب ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، وهذبهم بالعدل وكساهم بالتواضع ، ذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر.  فقس نفسك ايها الداعية ، أين انت من هذا ، وهل تدوعوا الى الله ام الى مذهب ، وهل ستتبع كما اراد لك الله وتلين مع الناس في ايصالهم الحق الامانة التي عندك ام تظن انك خالق السماء بلا عمد وباسط الارض وموطئها  بالمهد.

     هناك بعض الدعاة المتجهمون المتهجمون الذين يحتاجون انفسهم لاسلوب دعوة لتطرح لهم طوطوات وجوههم وغضباتهم وتغولهم على الناس وتخفف عنهم الادعاء بأنهم هداة للناس ... والهادي هو الله ، يتذمرون ويتنفرون  وينفرون ويسنغلظون ... يحرمون عليك امر الدنيا بما لم يأت به حكم ولم تقصده الرسالة ويتشددون عليك لالزامك بحذافير الاتباع ولم يعوا استطاعات النفوس وفوارق الفقه واسبابها ودرجات التفقه ،  الذي فرق الناس  في الاتباع ،  او جعل بعضهم ملحدا او مشركا ، فتفرقت بالناس السبل وماجت الخلافات والاختلافات ، ويحتاجون لمنقذ موطأ الجنان ووفير الحنان ولين العريكة.

ايها الدعاة خذوا الناس بقدر عقولهم وسعات انفسهم ، ووجهوهم لله بالتي هي احسن  ، وكونوا دعاة بحسب مستوى الهداية والورع والتدين والعلم والهمة التي عندكم ،  في ايصال الدعوة والتمكن من تجويد (طريقة الدعوة ومنهجها)، والالتزام به ، لكي تتأهلوا لتكونوا داعاة ، وهذه مسؤولية وامانة عظيمة ،  فأن الذين تدعون ،  سعات واستطاعات ذاتية فيها النفسي والاجتماعي والقيمي في المواعين و الوعي بالمحتوى والقصد للدين ،  وقدروا عقول الناس  فرب مبلغ أوعى من سامع ، وخذوا الناس بتوخيهم للخير والحق والاتباع فان منهم من صلى العصر قبل بني غريظة بتفسيره ، رغم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم من أشرك وهو لا يدري ومن دفع للالحاد وثبت في قلبه وهو لا يعي ماذا خلف الأكمة من حق وخير ونور ، وفيهم من كان مسلما وخرج فألحد وحآد الله بسبب ضعف منهج الدعوة وغلظة الدعوة ومجانبة الحق والعدل من قبل الدعاة ، أو عدم جدوى تلك الدعوة وبعدها عن ملامسة قصايا الناس في الفكر والعيش واشباع عقولهم بذلك الحق بما يفي ويعي بتطابقه مع الحال والواقع في وقت الحوجة إليه ، ففي الوقت الذي تحتاج فيه الناس للفقه والحكم في مصائب الحروب وازدياد الكروب تجد بعض الدعاة يتحدثون عن العقيقية والطهر في النفاس ، وفي حوجة الناس لمقابلة الفكر الالحادي والشرك وضعف الايمان ، تجد بعض الشيوخ والدعاة يتحدثون عن حرمة كشف وجه المرأة ويديها ، وهم يرون الزنا والدعارة وهجر الاسر ، ولا يبينون اسباب هذا الضلال ،  فمثل هؤلاء محتوى دعوتهم ضعيف ويتحاجون إنفسهم لدعوة ، حيث  لا تقنع دعوتهم فأرا ولا تدعو مشرك او ملحد او مسلم ضعيف أن يترك الضلال.         أعينوا الناس على اتباع الله ورسوله وعلى التدين وابتلاءاته والحق وحرته وصعوبته وكبره على النفوس.

   نرى هذه الايام من نصب نفسه على الناس وهو نفسه يحتاج لتهذيب .. ودعوة ،ونرى ايضا ، من ضعفت قواه عن الحق والاتباع واتبع الابتداع وتنازل عن الدعوة لله والزام نفسه بها وهذا ايضا يحتاج لتهذيب ويحتاج من يقوي عوده بدون كسر ويحتاج في دينه  لجبر ، وبين هذا وذاك حربا اعظم من البسوس وبينهما شحناء لم تترك اي طاولة للحوار او القبول، بل فيهم من شغل نفسه بالاخر ،حتى صار له غرضا وتعاظم العداء بينهما حتى ضاع الحق الذي عند اي منهما الا ياخذه الاخر ... فقط لأنه أتاه وسمعه عن الجانب الاخر ... وضاع الدين وضاعت الدعوة ... وضاع الحق ... وصرنا فقط مشغولين بانفسنا وبيننا ونسينا ان الدعوة هذه لكافة الناس وكل العالمين.

والله اعلم

الرفيع

rafeibashir@gmail.com

 

آراء