السودان من ناحية سياسية يتكون من دُول متراكبة متداخلة وغير متكاملة ، كل حزب يمثل دولة كاملة لها حكومتها وجيشها وأمنها ورؤيتها في اقتصاد البلد ، ورؤيتها في معنى الوطن والمواطنة ، بل توجهها الفكري والأيدولوجي والسيادي لكيفية إدارة البلد ، تتشكل ألوان تلك الرؤية ما بين تقليدي ميراثي يركن لسلة أفكار تأريخية أحدثتها بيئة إستعمارية ، أبقت على تواز معين يجعل السودان بهذا الكريستال القابل للكسر في أي لحظة ولا يمكن دمجه في جسم واحدة ولُحمة واحدة تسمى ، وطن ، بمقومات الوطن ، وعلى رأس كل حزب ، رئيس دولة (كاملة) ، وحاشية تلتف حوله بنفس الرؤى والأفكار والأجندة وتحميه من عاديات الزمان ، تغوي اذا غوى وترشد اذا رشد. وهذا ، أورث السودان إدارات متوازية ، جعلت من الصعب جدا خلق تراضي سياسي ، وخلق مؤسسية سياسية سيادية وإدارية متحدة للبلاد في كل الحقب ، إذ أن الشقة واسعة جدا بين كل حزب وحزب وبين كل أيدولوجيا وأخرى . وهذا ، أورث السودان نظرية الإنفراد بالسلطة وواحدية حكم الحزب ، وضدية الأحزاب الباقية ، هذه الضدية أورثت البلاد ، بنية وطنية دستورية متغيرة ، مهتزة المواقف ، تراوح بين الإسلامية والعلمانية والطائفية ، كل حزب يحظى بالسلطة ، يُفصّل الدستور وينزل منه قوانين بما يضمن بقاءه في السلطة ، وما يتماشى مع مصلحة ورؤية حزبه الضيقة الخاصة ، فنرى بذوغ الديكاتوريات الحزبية والأيدولوجية ، ونرى القبضات الحديدة والتشبث بالرؤية حتى لو كانت على خطل وخطأ كبيرين ، ثم نرى إتساع شقة الثقة ، بل نرى الحروب الشعواء في محاربة من هو على السلطة ، ونرى تدمير عطاءه ممن يعارضه ، حتى لو كان ذلك العطاء بنية تحتية من المفترض أن تكون إرث وملك للوطن. وهذا ، أورث السودان صراع مستمر على السلطة ، فالحكومات المتعاقبة ، أي كان نوعها ، قدرها كقدر السودان ، أدارة فجّة تعطي الحكومة كل ما تملك وتعطي الوطن ، عطاء المُقِل ذو اليد الواحدة والنظرة الإنفرادية والأجندة الموازية لمجموع أجندة ما يفترض أن تكون أجندة متكاملة ومتداخلة لوطن ، فنرى الكِساح في التنمية ، ونرى التخبط وإنعدام الرؤية في نهاية الطريق ، ثم نرى من ناحية أخرى معارضة فجة أي كان نوعها ، معارضة لا ترعى للوطن إلأٍّ ولا ذمة ، ثم تحدث الإنقلابات لتدور دورة قدر السودان في الحكم للأيلولة لحزب ثاني في صف السودان السياسي الطويل ، ثم معارضة الآخر وهكذا. وهذا ، اورث السودان دساتير انفرادية غير جامعة وغير مجتمع عليها ، تنزلت منها قوانين إنفرادية المضمون أو إنفرادية التطبيق ، ارشيفية ، بل لا تطبق في الغالب على الارض ولا يحتكم لها في الاداء العام ، الا في دوائرها الخاصة في المحاكم وعند الخلاف ، وعند الحاجة ، لذا نرى الخلط والخطل في الخدمة الوطنية ، وشخصنتها ، شخصنة حزبية وشخصنة موظفية ، ونرى إنعدام المحاسبة وإنتشار الفساد ، بل إختلاف الحكم على الفساد نفسه ، هل هو فساد في حق الوطن ، حيث ان حقوق الوطن مشاعة للتصرف بيد الحزب لتنفيذ أجندته وفق ما يرى لذا نرى ام انه حق مرحلي حلال الافساد فيه بما يخدم الحزب ، فيحدث التغول على كل شيء وشخصنة كل شيء وملكية وتملك كل شيء ، حتى لا تكاد تفصل بين ما هو حق حزبي او حق للحكومة وما هو للوطن ، فيتصرف في المدخرات والمقدرات الوطنيةعلى إنها مدخرات لمرحلة حكم وحكر خاص ، ثم نرى الخواء الاقتصادي وخواء خزائن الدولة وخواء أرشيفها وملفاتها من الوثائق الوطنية ، وخواء الاداء في كل شيء بنهاية حكم تلك الحكومة او الحزب . وهذا ، أورث السودان ترهل في عمليات إنتقال السلطة إذ إقتضى الأمر إنتقالا ، فإن الإنتقال لا يحدث بالسلاسة المطلوبة ، من حكومة لحكومة ، لذا تظهر الأخاديد العميقة في توريث وتسليم وتسلم الحق الوطني والمقدرات الوطنية ان وجدت ، من الحكومة السابقة للتالية في الحكم ، لأن عملية الإنتقال غالبا ما تكون خشنة ، أما بإنقلاب مباشر من جيش أو إنقلاب شعبي يدعمه ايضا جيش ، وأمن ، وليس إنتقال ناعم وتسليم ديمقراطي إن أخلاقي يراعى فيه حق الوطن وميراث الوطن في كل شيء ، لذا نرى أيضا ميلاد دولة جديدة مع كل حكومة جديدة ، دولة جديدة لها موظفيها ووجوهها ورجالها وثقافتها ، تبدإ من الصفر في البناء من جديد وفي طريقة الحكم من جديد وبطستور وقوانين تشبه توجهات هذه الحكومة الجديدة ، ونرى تغيير العملات وتغيير الشعارات وتغيير ماركة الوطن ووجه ، وحتى الملفات والدوسيهات والوان المكاتب ، ونرى وتغيير الخدمة العامة وتغيير جيوشها الجرارة ونرى التخبط الجديد والإغتناء الجديد ونرى الفساد الجديد ونرى التوجه الجديد للوطن والديكتاتورية الجديدة ،، ونرى ونرى ، وتدور دائرة الوطن . وهذا ، أورث السودان تحكم دول أخرى داخلية ، الجيش وحده دولة ، والإمن دولة ، والوزارات والمصالح كل واحدة دولة ، ورئاسة الدولة ، دولة ، والنقابات والإتحادات الخاصة والعامة دول ، وكل هذه جزر منفصلة غير متصلة ، تحكمها مصالح الوحدة ومصالح الزُمرة ، إذ لا تجمع بينها مؤسسية ومرجعية واحدة ، ولا يضبط أدائها رقيب ولا محاسبة جادة ورادعة تحفظ للوطن حقه وللمواطن حقه ، ولا تجمع بينها وطنية او اوجاع وطن او حتى الشعور به ، لذا نرى ضياع الوطن وغربته والمواطن نكده وشظف عيشه ، المواطن الذي تعيش عليه كل الحكومات وتعيش عليه الدولة ولا يعيش عليها ولا يتكّل ، والمواطن والوطن هما الغريبان والمتغربان الوحيدان في السودان ، وكل دويلة مما ذكرت تهنأ بما تشتهي وتريد. وسط هذه الجزر وبهذه الدويلات وبهذا التشقق في كريستاله ، عبَر السودان مرحلة برنامج التفتيت لما بعد الربيع الإقليمي للمنطقة ، ببتر في إحدى ساقيه ، ولا أدري ما هي مقومات بقاء أعضائه الأخرى إذا حدث الربيع المحلي ، والسودان يقف وسط دائرة المعركة بساق واحدة ، وفي ظل رياح تعرية قوية وشاملة للمنطقة في شكلها الذي يتم رسمه بسايس بيكو في ثوبها الجديد ، وبطريقة مختلفة هذه المرة ، ولا ندري ما ستكون عليه خارطته الجديدة بعد إندياح أغشية دخان هذه المعارك ، في خارطة المنطقة في شكلها النهائي الجديد ؟ ، لا ندري إذ العلم لله وحده !!! . ووسط هذا الزخم وهذا الكريستال المتشقق داخليا ، نريد إصلاحا ، ولكن ، نريده إولا إصلاحا للنفس ، وإصلاحا للوعي وإصلاح للرؤية ثم إصلاحا للبين وتقريبا للشقة ، وإصلاحا للُحمة ثم إصلاح للوطن ، ورفعة درجة الوعي بالوطن ، وليس إصلاحا لحكومة ، بل إصلاحا ودمجا لكل تلك الدويلات والجزر السياسية المتنافرة ، وهذه هي المعادلة وهذا هو التحدى المرير . وما نريده لحل هذه المعادلة هي عصا موسى ، فعلا عصا موسى ، تلقف كل ما ذكرناه سابقا وتدمجه في بوتقة واحدة لها سيادتها ولها حقها ولها دستورها الوسطي الجامع ولها كينونتها ولها تقديسها ، تلك البوتقة تسمى الوطن ، تتنازل له كل الأحزاب وكل الأيدولوجيات وتترك من أجله كل الأطماع الشخصية ، ويُتنازل له عن الشقاق المغرض الأجوف ، وتُواجه فيه النفوس ، والموكونات الإحزاب ، الحكومات، المعارضات والأشخاص ، والمصالح ، والنقابات ، وتتواطأ جميعها لخلق ، لُحمة وطن ، وتمتين دواخل هذا الكريستال الوطني ليقوى على بقية الرياح ، ليواصل زحفه في ظل هيجاء التغيير الحالية التي لا ترحم ، في ظل توجهات خارجية لا تفرق بين من هو حكومة ومن هو معارضة وبين من هو جعلي وفلاتي وبين من هو إسلامي وعلماني وطائفي ، التوجهات الخارجية التي لا تعرف قيمنا ولا أخلاقياتنا ولا تقيم لنا وزنا بل ولا ترانا أساسا ، إلا من منظار ( قوم متشاكسون)، يتواجدون على إرض مليئة بالخيرات إسمها السودان ، قوم هزمتهم الحضارة وهزمهم التقدم المتسارع وهزيمتهم أخلاقهم ، ودرايتهم في أن يديروا وطن يسمى سلة العالم ، ينفجر منه البترول وتكتنز بواطنه بالذهب والخيرات والإرث الإنساني ، لذا لا يستحقونه ، وهو في نظرهم حق عالمي ومخزون عالمي، اذا لم يؤخذ بالتبعية المفرطة ، وانعدام الوعي والوهن والرهن ، أخذ بالقوة المباشرة أو بالوكالة ، فنرى سايس بيكو والفوضى الخلاقة ، ونرى محاولة بتر بقية أجزاء السودان وتقزم خارطته ، وتطويقه ثم الهجوم عليه لإبتلاعه في آخر المطاف !!!! من لنا بحل المعادلة ؟ الرفيع بشير الشفيع جنوب إفريقيا